فقدان أشياء واكتساب أخرى... واقع المرأة الريفية في المدينة

وضع المرأة الريفية المقيمة في المدينة لا يقارن بما كانت عليه حياة جداتهن وأمهاتهن إلى حد كبير، فقد ساعدتهن الحياة المدنية على انتزاع بعض الحقوق المسلوبة واتخاذ القرارات والانتقال بحرية أكبر.

أماني المانع
دمشق ـ
منهنَّ من تراها نقطة بداية للتغيير نحو طريق إنصاف المرأة ومنحها المساحة الكافية والوقوف ضد التمييز واعتبارها كائناً كامل الأهلية له الحق الشرعي والقانوني في إكمال التعليم والعمل والملكية الخاصة، واختيار الزوج والطلاق والحصول على الحقوق داخل المؤسسة الزوجية والحضانة والولاية، كما أنها ساهمت في دخول المرأة مختلف مجالات العمل ورفع سن الزواج، والحد من مشكلة زواج القاصرات، كما رفعت من حدود فهم الحياة المشتركة للمرأة والرجل.
أما الأخريات فوجدن أن تغيير المكان لا يغير أفكار ومعتقدات جميع من نزحوا إلى المدينة والبعض لا يتقبل التغيير بالنسبة للمرأة وإن تقبل بعض التغييرات الاجتماعي. وأن الحياة في المدينة صعبة بالنسبة للمعيلات والأرامل فهن يتعرضن للابتزاز والاستغلال، كإجبار المرأة الريفية على العمل بأجر أقل أو تحت التجربة، وانتشار الفتيات الصغيرات بالسن في الأسواق للعمل وتعرضهنَّ لكثير من الأخطار، وبقاء العديد من العائلات ضمن دائرة الفقر والبطالة وخارج الإحصاءات الرسمية، فلم تجعل المدينة من بعض النساء الريفيات ضحية بل امتدت لتشمل الطفل والشابة وغالباً ما يرجع السبب للصراع النفسي والتفاوت الكبير بين الحياة الواقعية وما نشأت وتربت عليه الفتاة.
فاطمة سعيد (٥٢) عاماً أم لسبعة أبناء وجدة لـ ١٩ حفيد قارنت في حديثها بين عملها الذي لم تنقطع عنه بعد نزوحهم إلى دمشق منذ عام ٢٠١٢ من قريتهم الباب في ريف حلب وبين ما تعيشه اليوم، فكانت تشرف على العمال في أرضهم الزراعية أثناء سفر زوجها وتشاركهم في الزراعة والحصاد والإعتناء بالدواجن والحيوانات وبيعها وبيع الصوف والحليب والجبنة واللبنة والزيت وغيرها.
لكن أشياء كثيرة تغيرت بعد النزوح كما تقول فلم يعودوا يملكون المزارع، وأصبحت تشتري ما كانت تبيعه من أصحاب المزارع وتقوم بنقله إلى دمشق وبيعه في عدة أماكن تتناوب على التواجد فيها، فقد أصبح لها زبائنها الذين يثقون بها وبأسعارها "الرحمانية" كما يسمونها، ويتواصلون معها على الهاتف النقال للحجز والحضور، تضحك فاطمة سعيد وتقول "يعني صرت سيدة أعمال مو هيك تسموها".
رغم قناعتها بعملها وبما تجنيه إلا أنها كانت تشعر بالسعادة حين تبيع محصولات مزارعهم الخاصة كما تقول، والتي تحلم هي وزوجها بعد أن عاد منذ خمس سنوات من السفر وأولادها بإعادة زراعتها وترميم منازلهم والعودة إلى قريتهم، فالحياة في المدينة لم تمنحهم الاستقرار العائلي والمادي والسكني، والحديث لها فلمة الأهل والأقارب هناك والاستيقاظ منذ ساعات الفجر الأولى والنوم بعد غروب الشمس وخبز التنور والحطب هي حياتهم الحقيقية.
أما نور الحمد (١٨) عاماً، وهي حاصلة على شهادة الصف التاسع والبنت الوسطى في عائلة نزحت منذ عام ٢٠١٤ من مدينة الشدادي في ريف الحسكة إلى ريف دمشق، فقد كان رأيها مختلفاً تماماً وقد عزت السبب لتفاوت الأجيال، فما تشعر به فاطمة سعيد يشبه الحنين الذي تشعر به أمها وجدتها اللتان تشتاقان للمكان ولسكانه وتربطهما به ذكريات كثيرة، أما نور وبنات جيلها فلهنَّ هناك ذكريات طفولة تسيطر عليها صور الحرب والخوف والنزوح، وأنهن كشابات والحديث لها يفضلنَّ البقاء في العاصمة حيث التحرر النسبي من بعض القيود التي تفرضها الحياة الريفية والعادات والتقاليد والبيئة الاجتماعية الصغيرة التي تراقب وتحاسب على أبسط الأمور ومن حق كل فتاة أن تملك حريتها في اختيار طريقة اللباس العصرية والدراسة الجامعية والوظيفة المحققة للطموح والأحلام واختيار شريك الحياة المناسب دون الخضوع لرغبات الأهل وما توارثوه من عادات. 
فيما تحدثت (ن. س) (٣٢) عاماً وهي أم لعائلة مكونة من أربعة أطفال عن تجربتها واختصرتها ببضع كلمات (هون أريح)، لتروي بعد ذلك حكاية نزوحها التي بدأت حين اضطرت للخروج عام ٢٠١٢ من قرية أبو حمام في ريف دير الزور مع أهلها وأهل زوجها، فيما كان زوجها مسافراً كحال معظم شباب القرى الذين يعملون في الخليج، لتستقر بهم رحلة النزوح بعد الرقة في ريف دمشق في منزل ضم في بداية الأمر خمس عائلات من أهل زوجها، ثم انتقلت للعيش مع أهلها، إلى أن تمكنت من شراء منزل مفروش خاص بها وبأولادها، تقول "هنا بدأت الحياة بالنسبة لي بعد رحلة من المعاناة وعدم الاستقرار وتحمل مسؤولية الأولاد في ظل غياب والدهم وتأمين الطعام والدواء والتسجيل في المدارس ومتابعة أوراقهم في الدوائر الرسمية والبحث عن منزل مناسب والنقل للعيش فيه، بدأت الحياة حين شعرت بالاستقرار في منزلي الخاص وأصبحت حرة في تربية أبنائي بما أراه مناسباً دون تدخل الأقارب"، وتضيف "أرى أن الاحتكاك الدائم بالأقارب كما يحدث في الحياة الريفية والإقامة الجماعية ضمن منزل واحد أو منازل متجاورة رغم ما فيها من صلة رحم ومودة إلا أنها تجلب المشاكل، لذلك أنا اليوم أربي أبنائي بطريقة صحيحة وسأسعى لتسجيلهم هنا بأفضل الجامعات وسيعملون بوظائف جيدة وهذا لن يحدث فيما لو بقينا ضمن القرية وربما هذا من فوائد النزوح".
وعلى الطرف النقيض تنتظر (ع. ز) (٥٢) عاماً وهي نازحة من بلدة السيال في ريف دير الزور إلى دمشق العودة إلى بيتها الذي لن تجد أجمل منه وإن تهدمت بعض جدرانه وسرق أثاثه كما تقول، لن ترى أجمل من قريتها بطبيعتها الجميلة وإطلالتها على نهر الفرات وامتداد المزارع الخضراء بها وطيبة أهلها. وتضيف "الشر موجود في كل مكان حتى في قريتنا وضمن أهلنا لكننا هنا تعرضنا للاستغلال والاستهزاء كثيراً، فالغالبية يعتقدون أننا أقل منهم فكرياً واجتماعياً، وأننا نبع مال متنقل من السهل استغلاله، فنسمع بأذننا كلمات السخرية، نحن كرامتنا في مدينتنا وفي بيوتنا وحياتنا هناك أبسط وأجمل وفيها بركة وهدوء".
أما عائشة الأحمد (٤٩) عاماً القادمة منذ عام ٢٠١٤ من مدينة البوكمال في دير الزور وصاحبة مشغل للخياطة فترى أن الحياة في المدينة تحتاج للعمل لساعات أطول لتوفير سبل العيش، وما كانوا يبيعونه للناس من محاصيل ومنتجات زراعية وغذائية أصبحوا يشترونه هنا. "استأجرت محل في مدينة قدسيا بريف دمشق وقمت بشراء ماكينات خياطة ثم باشرت عملي وكنت قد عملت لمدة سنتين في محل خياطة بدمشق"، وتضيف "تعمل أختي معي لخياطة الأثواب والكلابيات والعبايات التي تفضل ارتدائها الريفيات، كما نصلح ونعدل مختلف الملابس التي يأتي بها الزبائن"، وها هي سعيدة بعد شهرين من افتتاحه بالنتائج التي وصلت إليها رغم المسافة التي تقطعها يومياً للوصول إلى عملها وصعوبة المواصلات، تلاحظ عائشة كيف أصبح هناك طلب من بعض سيدات المدينة ونساء قادمات من محافظات أخرى وخاصة كبار السن على الزي الريفي بعد أن كان موضع استهجان، وهذا كما تقول بسبب التمازج الاجتماعي والتقارب والتزاوج بين أبناء وبنات المحافظات السورية مدناً وقرى بعد الحرب.