بعد 16 عاماً من الإنجازات... أنجيلا ميركل تغادر منصبها

مع بداية عام حاسم في السياسة الألمانية أعلنت المستشارة أنجيلا ميركل "المرأة الحديدية" كما لقبتها الكثير من وسائل الإعلام حول العالم، تنحيها من منصبها بعد 16 عاماً من الإنجازات على كافة الأصعدة عالمياً وأوروبياً "لن أكون وسيطاً في النزاعات السياسية، لقد قمت بذلك لسنوات طويلة، 16 عاماً قضيتها كمستشارة"

مركز الأخبار ـ .
على مدار 4 دورات قادت أنجيلا ميركل ألمانيا والقارة العجوز لعبور منحنيات شائكة والتي كانت آخرها جائحة فيروس كورونا وتداعياته، مسطرةً تاريخاً حافلاً بالإنجازات والنجاحات المحلية والأوروبية.
ودعت أنجيلا ميركل واحدة من أقوى سيدات ألمانيا على مر العصور وأكثرهن شعبية، في إنجاز تاريخي وفترة ولاية طويلة عاصرت خلالها ثلاث رؤساء أميركيين وأربعة رؤساء فرنسيين وخمسة رؤساء ووزراء بريطانيين وسبعة مثلهم في إيطاليا، وقادت خلالها البلاد إلى تغيير هائل، منصبها من دون ضجيج إعلامي في الخامس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2020.
لم تلجأ المرأة التي احتلت المركز الأول بين النساء الأكثر قوة في العالم على قائمة "فوربس" لنحو عقد من الزمان، للخطب الرنانة أو الشعارات الدعائية، دائماً ما اجتازت الأزمات بهدوء ودراسة متأنية للوضع والحلول الأفضل المتاحة، لتبهر شعبها والعالم منذ تقلدها منصب المستشارة عام 2005.
إعلان الاعتزال
مع اعتزال مستشارة ألمانيا وسيدة الدولة أنجيلا ميركل في 26أيلول/سبتمبر 2021، تعين على ألمانيا إيجاد شخصية تخلفها في إدارة شؤون البلاد، لكن الطريق لتحقيق كان محفوفاً بالعديد من الصعوبات.
لم تترشح أنجيلا ميركل التي أثرت بسياستها وقوتها ومهاراتها الدبلوماسية على الساحة الدولية، التي شوهدت في مؤتمرات القمم العديدة التي عقدها الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع، لإعادة انتخابها في الانتخابات التشريعية العامة المقبلة في ألمانيا والتي تم إجراؤها في 26أيلول/سبتمبر الماضي، الموعد الذي حددته للخروج من الحلبة السياسية أي في نهاية ولايتها الرابعة الحالية، على أن تتخلى عن رئاسة حزبها في كانون الأول/ديسمبر 2021، سعياً منها إلى تخفيف وطأة الأزمات السياسية التي يعاني منها ائتلافها الحكومي.
14 عاماً كانت كافة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لتضع نهجها الخاص في الحوكمة، والذي سيدوم تأثيره في عقيدة ألمانيا السياسية لفترة طويلة، بغض النظر عمن سيخلفها في الانتخابات الألمانية العامة، وسيترك اعتزالها المستقبل السياسي للبلاد التي تعتبر من أقوى اقتصاديات العالم في زمن انهارت فيه اقتصادات دول كبرى، مفتوحاً على مصراعيه في مرحلة مفصلية حاسمة.
في ظل العد العكسي لحكم أنجيلا ميركل... ألمانيا إلى أين؟
حتى الساعات الأخيرة قبل أن تغادر السياسة من دون عودة ومنصبها للمرة الأخيرة وتسلمه لخليفتها أولاف شولتز المستشار الألماني الجديد، اليوم الأربعاء 8 كانون الأول/ديسمبر، بقيت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منشغلة بمهامها الرسمية، تتصل بزعماء العالم من مكتبها داخل مقر المستشارية الألمانية.
واجه المرشحون الثلاثة لخلافتها صعوبة في إثارة حماسة الألمان، أنهم بذلوا جهوداً إلا أن من الصعب بالنسبة لهم القيام بمقارنة مع أنجيلا ميركل "التي لا تزال تحظى بشعبية كبيرة في البلاد"، بحسب ما يؤكده العديد من الخبراء، لا سيما أن أثر تلك المرأة الحديدية التي هيمنت على المشهد السياسي الألماني لمدة 16 عاماً و15 يوماً، بالغ على الساحة الداخلية والدولية على السواء، فحتى اللحظة التي غادرت فيها منصبها حرصت على تحقيق مكاسب سياسية نادرة في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية من خلال تحديد توقيت رحيلها من السلطة واختيار خلفها وأجندة حزبها على المدى الطويل.
على الرغم من أن أنجيلا ميركل، على المستوى الشخصي تغادر منصبها اليوم بشعبية مرتفعة، على غير عادة الزعماء الذين يمضون وقتاً طويلاً في الحكم، من غير المضمون أن حزبها، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، سيبقى في السلطة بعد رحيلها.
وهكذا تطوي ألمانيا نهائياً حقبة أنجيلا ميركل وتفتح حقبة جديدة تقودها فيها حكومة يرأسها الاشتراكيون بمشاركة حزبين آخرين هما الخضر والليبراليون، لتصبح المرة الأولى التي تشكل في ألمانيا حكومة تضم 3 أحزاب.
وأياً كانت نتيجة الانتخابات، وبغض النظر عمن سيخلفها فإن الانتخابات المقبلة مرشحة لأن تكون الانتخابات الأهم في ألمانيا منذ عقود، ومعها ستطوى صفحة حكم طويلة لمستشارة عاصرت 4 رؤساء أميركيين، ونجحت أن تغادر وهي في قمة شعبيتها، والتي ستخلد اسمها في الذاكرة كأعظم سياسية أوروبية عرفتها ألمانيا، لأنها حافظت طوال فترة حكمها بأسس العلمية التي أدخلتها في حقل السياسة كعالمة من الطراز الأول، كما وأنها التزمت بكل ما تعلمته في سلك حياتها كباحثة في علم الفيزياء وطبعت بصمتها الشخصية في طريقة التفكير المنطقي المستند إلى الدلائل الحقّة في وقت يفتقد فيه العالم بأسره إلى صفات مثلها.
أنجيلا ميركل... حياة سياسية باذخة
ولدت أنجيلا ميركل في بلدة هامبورغ عام 1954، لتترعرع في أسرة دينية مسيحية، درست علوم الكيمياء. انخرطت في حركة الديمقراطية المتنامية بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وبعد عامين عينت نائب للمتحدث باسم أول حكومة منتخبة ديمقراطياً في ألمانيا الشرقية، وفي شباط/فبراير 1990 أصبحت المتحدث الصحافي باسم الحزب.
كما تولت عام 1991، وزارة المرأة والشباب ثم وزيرة للبيئة عام 1994، ومنذ عام 2000 تترأس حزب الاتحاد الديمقراطي، وهي الزعيمة التي استمرت فترة حكمها 21 عاماً في بلد ينتمى لأوروبا التي نادراً ما تطول فيها فترة حكم السياسيين،.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر عام 2005، تولت منصب المستشارة الألمانية، لتصبح بذلك أول امرأة تتولى منصب مستشار ألمانيا وأول مواطنة من ألمانيا الشرقية تقود البلاد بعد الوحدة، كما أنها كانت أصغر شخص يشغل هذا المنصب فلم يتجاوز عمرها آنذاك الـ 51 عاماً.
وأعيد انتخابها لفترة ثانية عام 2009، ثم لفترة ثالثة عام 2013، وقد بدأت أنجيلا ميركل ولايتها الرابعة بعد فوز حزبها بأعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية في أيلول/سبتمبر 2017، واتفاقها مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي على تشكيل حكومة ائتلافية.
على الصعيد الأوروبي، ترأست أنجيلا ميركل البالغة من العمر 66 عاماً، عام 2007 المجلس الأوروبي ومجموعة الثماني، لتصبح ثاني امرأة تشغل هذا المنصب على مر العصور أوروبياً، لتقود بذلك دول اليورو للعبور من الأزمة الاقتصادية عام 2008، باتباعها سياسة تقشفية انتشلت دولاً عدة من الإفلاس منها "قبرص، إسبانيا، البرتغال واليونان".
لم تفتح أنجيلا ميركل أبواب التعاون بين أوروبا والشرق البعيد فقط، بل ثقبت أيضاً جدار "الخوف الأوروبي" التقليدي من روسيا في كل حالاتها "قيصرية أو سوفياتية أو اتحادية"، عبر استكمال مشروع أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يربط أوروبا على المستوى الاقتصادي الاستراتيجي بروسيا، والذي سيكون له انعكاسات في مجالات سياسية لن تكون أقل أهمية في صياغة إرادة أوروبية تتلمس مستقبلها على بعد معقول من النفوذ الأميركي.
على الصعيد الألماني، قادت ألمانيا خلال عدة أزمات منها الأزمة الاقتصادية عام 2008، فقد حولت آنذاك عجز الموازنة من 3.5% عند استلامها السلطة، إلى فائض بلغ 3% من الناتج المحلي، كما نجحت في تحويل 85% من طاقة ألمانيا إلى طاقة نظيفة.
وخفضت مستوى البطالة في البلاد من نسبة 12،9% إلى 4،9%، حتى في بعض الشركات التي كانت مهددة بالإغلاق لعدم توافر موظفين، لتصل نسبة رضى الألمان عن أدائها في آخر استفتاء لـ 72%.
وفي عام 2015 سمحت لآلاف اللاجئين والمهاجرين بدخول البلاد، كثير منهم هربوا من الحرب السورية، لتظهر التزاماً تجاه وعودها حتى ولو كانت غير شعبية، ما دفع وسائل الإعلام إلى منحها ألقاباً عدة منها "المرأة الحديدية".
ورغم أن سياسة الباب المفتوح تجاه اللاجئين والتي ابتعتها أنجيلا ميركل في ذروة عام 2015، ربما أدت إلى إطلاق تصريحات الإشادة بها والثناء عليها، كانت هي القوة الدافعة لحزب البديل من أجل ألمانيا، الذي كان في السابق حزباً يمينياً هامشياً، ليصبح أكبر قوة معارضة في البلاد على مرأى ومسمع ورعاية أنجيلا.
حققت نجاحاً كبيراً وارتفعت بجهودها شعبيتها وشعبية حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي خلال عام 2020، غير أن حزبها لا يستطيع أن يعتمد على ما حققته من انتصارات سياسية.
وأشاد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مذكراته بالمستشارة الألمانية على كونها تتحلى بـ "صبر قوي لا يتزعزع".
فشلت المحاولات في إنهاء عهد أنجيلا ميركل مرتين، ونجحت في السيطرة على السياسة الألمانية عبر تجاوز الانقسام الأيديولوجي، إلا أنه ما بين البراغماتية والإنسانية تقلبت مواقف تلك المرأة الصلبة ليتهمها خصومها أحياناً بعدم تبني "أيديولوجية" واضحة، وترتفع الانتقادات ضدها في السنوات الأخيرة.
إلى ذلك، أشعل تعاملها الصارم مع أزمة الديون في منطقة اليورو موجة انتقادات واسعة، حتى إن مديرة صندوق النقد الدولي، المؤيدة للتقشف على نطاق واسع، كريستين لاغارد، لفتت الانتباه إلى الضرر الذي يمكن أن تلحقه إجراءات التقشف القاسية بالاقتصاد المتضرر أصلاً، إلا أن أنجيلا ميركل صمدت متمسكة بمبادئ سياسية واقتصادية، وإنسانية وأخلاقية لا تتزحزح، علماً أنها في الكثير من الأحيان أبدت ليونة لا متناهية مع خصومها دولياً.
وكان آخر إنجازاتها سياستها في التعامل مع جائحة كورونا، فقد أشادت وسائل الإعلام الألمانية بقدرتها في السيطرة على الموجة الأولى لجائحة كورونا الذي بدأ في الانتشار في أواخر عام 2019.