التضامن النسائي العربي من الوعي الفردي إلى الحراك الجماعي المنظم
يعتبر التضامن النسائي العربي اليوم قوة فاعلة تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، ويشكل ركيزة أساسية في النضال من أجل حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية.

إخلاص حمروني
تونس ـ في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم العربي، بات الحراك النسائي يكتسب أبعاداً جديدة تتجاوز الأشكال التقليدية للنضال، الأمر الذي يعكس عمق التحولات في وعي النساء العربيات، وعن الأشكال المتنوعة التي بات يتخذها التضامن النسائي، سواء في قضايا محلية كالعنف والتمييز، أو في قضايا إنسانية كبرى كفلسطين، هذا التضامن، الذي لم يعد موسمياً أو نخبوياً فقط، أصبح أكثر شمولاً وتنظيماً، يعكس نضجاً متزايداً في العمل النسوي ووعياً بضرورة التأثير الفعلي في الواقع والسياسات.
ناشطات تونسيات أكدن على ضرورة أن يكون الحراك والتضامن النسائي مستمر ولا يقتصر على مناسبات بعينها، وترى الناشطة الحقوقية منيرة بوعزيزي أنه يوجد نوعين من الحراك النسوي الحراك الموسمي والحراك المستمر "الحراك الموسمي يقتصر على مناسبات معينة كعيد المرأة أو عيد الأم أو أحداث ظرفية أخرى، يُطرح خلالها موضوع محدد لفئة بعينها، وفي وقت معلوم، وغالباً ما يكون هذا الحراك محصوراً في رمزيته الاحتفالية أو الإعلامية دون أن يتحوّل إلى تغيير فعلي أو دائم".
وهذا النوع، على حدّ تعبيرها، لا يُنتج فعلاً نضالياً مستمراً ولا يواكب التحولات اليومية التي تعيشها النساء، بينما "الحراك المستمر يتميّز بمرونته، وهو غير مرتبط بزمن أو فئة أو مكان، بل ينشأ تلقائياً حسب الظرف، ويتطور حسب الحاجة، ويملك أهدافاً أبعد مدى وأثراً أشمل، بما يجعله أكثر نجاعة في التأثير المجتمعي والسياسي". فالحراك المستمر، من وجهة نظرها، يتغذّى من الواقع وينفتح عليه، ويملك قدرة عالية على التكيّف والاستجابة.
وقالت "تعد القضية الفلسطينية، التي اعتبرها قضية إنسانية تتجاوز الجغرافيا والسياسة، من أبرز الأمثلة على التضامن المستمر وأرى أن الحراك النسوي حولها لا يمكن أن يكون ظرفياً أو مناسباتياً، بل يجب أن يكون دائماً ومتواصلاً"، مؤكدةً أن المرأة "ليست مضطرة لانتظار توقيت معين لكي تتفاعل مع القضايا الكبرى أو تدافع عن المظلومين، وهذا ينطبق كذلك على حقوق النساء بصفة عامة، التي لا يجب أن تكون موضوعاً لمواسم أو أيام رمزية، بل يجب أن تكون جزءاً من العمل اليومي والوعي الجماعي".
وأكدت أنه "من الخطأ اختزال قضايا النساء في تواريخ بعينها، لأن النساء تعانين من التهميش والعنف والتجاهل يومياً، وبالتالي فإن النضال من أجل حقوقهن يجب أن يكون دائماً ومفتوحاً على كافة الأوقات والمواضيع، دون تأجيل أو انتقاء"، مشيرةً إلى أن بعض القضايا تكون "وليدة اللحظة"، وتحتاج إلى تحرك فوري، ولا تحتمل الانتظار إلى "موسم" معين للطرح أو النقاش.
التضامن النسوي يعد طاقة نضالية
وأكدت منيرة بوعزيزي أن التضامن بين النساء، تحوّل في السنوات الأخيرة من شعور وجداني أو أخلاقي إلى قوة فعلية قادرة على التأثير وصناعة التغيير "أصبحت النساء، سواء كنّ مثقفات أو غير مثقفات، تقليديات أو حداثيات، يتحدثن بصوت عالٍ عن حقوقهن، ويتضامنّ مع بعضهن البعض بشكل ملموس، وهذا التحول هو نتيجة تراكم جهود نضالية وسنوات من الوعي والتنظيم. التضامن النسوي استطاع أن يحوّل الضغط إلى طاقة نضالية، وفتح للمرأة أبواباً لم تكن متاحة لها من قبل".
وشدّدت على أن العمل التضامني النسوي لا يقتصر على النزول إلى الشارع وتنظيم المظاهرات، بل يتخذ أشكالاً متنوعة، منها التوعية، والكتابة، والدعم المعنوي، وإنشاء الجمعيات، وتكوين الشبكات، وكلها أدوات تصب في دعم المرأة وتمكينها، مبينةً أن أهم هذه الأدوات في الوقت الراهن هو الفضاء الرقمي، وتحديداً شبكات التواصل الاجتماعي، التي منحت النساء فضاء حراً للتعبير، وكشفت مظالم كثيرة، وكانت في أحيان كثيرة منطلقاً لتغيير فعلي في السياسات والقوانين".
ولفتت إلى أن العديد من القوانين التي سُنّت أو عُدّلت في السنوات الأخيرة كانت نتيجة مباشرة لحملات رقمية قامت بها نساء عبر فيسبوك أو "إكس" تويتر سابقاً، أو تيك توك أو إنستغرام، مما يجعل من هذه المنصات أدوات نضالية حقيقية لا تقل أهمية عن المساحات الميدانية، مبينةً أن التعريف بها شخصياً وبنشاطها الحقوقي تم في جزء كبير منه عبر هذه الشبكات، وهو حال كثير من النساء اللواتي لم تكن لهن منابر تقليدية، لكنهن وجدن في العالم الرقمي وسيلة للتعبير والتأثير وتشكيل الرأي العام.
وترى أن التضامن النسائي يؤكد أن المرأة، حين تملك الإرادة والوعي، قادرة على تجاوز كل الحواجز، وتقديم الكثير للمجتمع، وقد تتفوّق في ميادين متعددة على الرجل "النساء اليوم أصبحن حاضرات بقوة في الطب، والعلوم، والثقافة، والإعلام، بل وحتى المرأة التي كانت مغيّبة سابقاً، باتت تعبّر عن رأيها، وتطالب بحقوقها، وتشارك في الشأن العام، مما يُعد مكسباً حقيقياً".
واختتمت الناشطة منيرة بوعزيزي حديثها بنبرة تفاؤل، حيث قالت إن الحراك النسائي يتوسّع يوماً بعد يوم، وإن النساء أصبحن أكثر تشبثاً بحقوقهن، وأكثر وعياً بأدوات النضال المتاحة لهن، وأن "ما نراه اليوم من بروز أفكار جديدة، ومقترحات، ومنظمات وجمعيات، هو دليل على أن المستقبل يحمل الكثير، وأن المرأة لم تعد تنتظر من يمنحها المساحة، بل أصبحت تصنعها بنفسها، وتفرض وجودها في كل المجالات".
امتداد طبيعي للتضامن الإنساني
من جهتها تؤمن الناشطة الحقوقية هند عمري بأنّ التضامن النسائي لا يُمكن فصله عن المنظومة الأشمل لحقوق الإنسان، فهو بنظرها امتداد طبيعي للتضامن الإنساني العابر للجنسيات والهويات، من أجل الدفاع عن المبادئ الكونية الكبرى كالحرية، والكرامة والعدالة.
وترى أن من أبرز تجليات هذا التضامن في اللحظة الراهنة، مشاركة النساء في "قافلة الصمود" لكسر الحصار عن غزة، باعتبارها تعبيراً حيوياً وفعلياً عن انخراط النساء في القضايا الإنسانية الكبرى، وليس فقط فيما يتعلّق بحقوقهن الخاصة.
وقالت "جمعت هذه القافلة بين مختلف أطياف المجتمع المدني نشطاء وناشطات، حقوقيون وحقوقيات، أطباء وممرضات، ونساء من الهلال الأحمر، إلى جانب نساء عربيات مستقلات تحركن بدافع إنساني محض، من دون انتماء تنظيمي مسبق، وقد شاركت أسماء عديدة منذ بدايات الفكرة، ومن بينهن إسراء العوادي، التي التحقت بالقافلة منذ انطلاقها من تونس، وكذلك فاطمة الجمل من مدينة مدنين، التي رافقتها في جزء من الرحلة ثم عادت معها".
كما ذكرت هند عمري أن بعض المشاركات كنّ منذ اللحظة الأولى في صلب التفكير في القافلة، وحضرن التحضيرات، ورافقنها حتى معبر رأس جدير على الحدود التونسية الليبية، ثم اضطررن للعودة لأسباب عائلية، لكن دورهن كان محورياً، واعتبرتهن من "جنود الخفاء" الذين لا تُسلّط عليهم الأضواء، لكن أثرهم بالغ.
وأكدت أنه لم يقتصر حضور النساء على المشاركات من تونس فحسب، بل شمل أيضاً مغتربات جزائريات، من بينهن مقيمة في بلجيكا ظهرت في مقطع فيديو مُعبّر وهي تحاول الالتحاق بالقافلة في مطار القاهرة، رغم الصعوبات المعروفة التي واجهتها القافلة هناك "هذا التنوّع الجغرافي والطبقي والمهني يعبّر عن طبيعة التضامن النسائي العربي الذي، وإن بدا أحياناً مفاجئاً أو "وليد اللحظة"، فهو في العمق نتيجة وعي متراكم وراسخ بواقع المرأة العربية، وبالحاجة إلى فعل جماعي تضامني يتجاوز الحدود والمناسبات".
واعتبرت أن هذا التضامن ليس فقط استجابة ظرفية لأزمات سياسية أو إنسانية، بل هو أيضاً فعل توعوي، يهدف إلى توعية النساء العربيات بحقوقهن، وبضرورة النضال من أجلها، سواء تعلّق الأمر بنبذ العنف أو مقاومة التمييز أو الدفاع عن المساواة والعدالة.
وقالت أن "الحركات النسائية العربية كتجربة ليست متجانسة، فهذه الحركات لا تعبّر بالضرورة عن كل الفئات أو المناطق بصفة متساوية، فبعض الحركات تركّز على مظالم بعينها، وتنجذب إليها فئة معينة دون غيرها، مما يخلق نوعاً من الانتقائية في التضامن. فهناك من الحركات النسائية من ترفع شعار الدفاع عن الحقوق الإنسانية الكبرى كالحياة والحرية والكرامة، وهناك من تذهب إلى خصوصيات أكثر دقة كالمطالبة بالمساواة، والعدالة الاجتماعية، والحق في العمل، وفي الصحة الإنجابية وغيرها". وبحسب رأيها، لا يعد هذا التنوّع سلبياً، بل انعكاس طبيعي للخصوصيات المحلية، فكل بقعة في العالم العربي لها ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة، وهي التي تحدّد نوعية الانتهاكات، وبالتالي طبيعة العمل التضامني الذي ينشأ هي رد فعل عليها.
وشددت هند عمري على أن أي انتهاك، كيفما كان نوعه، إذا ما حظي بالضوء الإعلامي، وأثار تضامناً جماعياً، يمكن له أن يتحوّل إلى قضية رأي عام، ليس فقط على المستوى العربي، بل ربما عالمياً، مما يساهم في كسب مناصرة واسعة "هذا الفعل لا يتأتّى من خلال العاطفة وحدها، بل من خلال عمل جماعي منظّم ومخطّط له بشكل دقيق، ويهدف إلى بلوغ نتائج ملموسة، فرغم أن التضامن النسائي قد يبدأ بتعاطف وجداني، إلا أنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتحوّل إلى مشروع عمل جماعي واعٍ، مدروس، وله هدف واضح".
وفي هذا السياق، أعطت مثالاً على ما أسمّته بـ "قوة الاقتراح"، التي ترى فيها عنصراً أساسياً في النضال النسوي، مستذكرةً مبادرة ناشطة تونسية من الاتحاد العام التونسي للشغل، وهي عضو دائم في مجلس إدارة منظمة العمل الدولية بجنيف، كانت قد اقترحت منذ تشرين الأول 2004 أن يتم تمثيل المرأة الفلسطينية بصفة دائمة في هذا المجلس، وأن تُشارك بانتظام في مختلف لجانه، حتى تتمكّن من التعبير عن نفسها، ونقل واقعها، وكسب تعاطف المجتمع الدولي "مثل هذه المبادرات تمثّل انتقالاً من مجرد التضامن إلى الفعل السياسي الحقيقي، وتساهم في إيجاد حلول جذرية للنساء في مناطق النزاع".
ورغم هذا، فإنها لا تنكر أن مشاركة المرأة العربية في الحياة العامة، خصوصاً في العمل الحقوقي والمدني، ما زالت محدودة في أغلب البلدان، وأن هذا الحضور الضعيف ينعكس سلباً على قدرتها في التأثير، والمساهمة الفعلية في الدفاع عن قضاياها، أو في تغيير السياسات العامة. وترى أن معالجة هذا القصور تتطلب فتح الفضاءات أمام النساء، ودعم مشاركتهن، وتوسيع دائرة العمل الجماعي ليشمل مختلف الفئات، بما يضمن استمرارية التضامن، ويُخرج الحراك النسائي من ردود الأفعال إلى دائرة الفعل المستقل والمستدام.
عموماً رغم ما تحقق من تطورات لافتة في مسيرة التضامن النسوي العربي، تُجمع الناشطتان على أن هذا الحراك ما زال في طور التبلور، ويحتاج إلى مزيد من التنظيم والانفتاح والشمول. فمحدودية حضور النساء في بعض الفضاءات العامة، خصوصاً في العمل المدني والحقوقي، لا تزال تحدّ من فاعلية هذا التضامن وتحصره أحياناً في ردود أفعال ظرفية أو نخبويّة.
ولتحقيق نقلة نوعية، تؤكدان ضرورة أن يتحول هذا الوعي إلى عمل جماعي منظم، يملك أدوات اقتراح واضحة، ويستند إلى رؤية استراتيجية تتجاوز ردود الأفعال العاطفية أو الموسمية، نحو بناء حركة نسائية قادرة على الضغط والتغيير الفعلي، وهذا العمل، في نظرهما، لا ينبغي أن يُختزل في قضايا محلية أو في جغرافيا معينة، بل يجب أن يكون تضامناً عابراً للحدود والهويات، يتغذى من تجارب النساء اليومية، ويصنع قوة تغيير حقيقية في المجتمعات العربية، ويمتد حتى إلى المحافل الدولية.