تهميش النساء في المشهد الثقافي مكان للحضور أم للاعتراف؟

في اللحظات التي تلي انتهاء الصراع، حين تبدأ الدول بإعادة بناء ذاتها سياسياً وثقافياً، تزداد الفعاليات التي تدّعي الانفتاح والحرية، لكن خلف كثير من هذه الفعاليات، يبقى التمييز ضد النساء قائماً، بأساليب ناعمة، ومغلفة بخطابات "شبه تقدمية".

راما خلف

دمشق ـ تُبعد النساء عن المشهد السوري مرة أخرى في عهد الحكومة الجديدة فكل مكان أصبح يتسم بالفصل بين الجنسين، ولا يجب اعتبار أن ما يحدث شيء عابر بل خطر يهدد مستقبل المجتمع السوري.

لا تزال المرأة السورية تواجه تحديات كبيرة في المشهد الثقافي، حيث تتكرر أنماط الإقصاء والتهميش منذ عهد النظام السوري، مروراً بمرحلة الثورة، وصولاً إلى الواقع الحالي في المؤسسات الثقافية، ففي حين شهدت الثورة انفتاحاً شكلياً، بقيت المرأة حبيسة أدوار هامشية، يُسمح لها بالحضور لكن ليس بصنع القرار أو التمويل، في ظل بروز ما يعرف بالإقصاء الناعم.

الناشطة النسوية نسرين محمود تروي واحدة من تلك اللحظات التي تبدو عابرة في ظاهرها، لكنها كاشفة لعمق المشكلة البنيوية في نظرة الفضاء الثقافي للنساء.

تقول نسرين محمود أنه "عندما قرأت عبارة يوجد مكان للنساء، على دعوة لأمسية شعرية، شعرت فوراً أن هناك شيئاً خاطئاً. ليس فقط خطأ في صياغة الجملة، بل في طريقة التفكير الكامنة وراءها أيضاً. الجملة تبدو وكأنها إيجابية، لكنها في الحقيقة تنطوي على تمييز كبير، لأنها تفترض أن الأصل هو غياب النساء، وأن وجودهن حالة استثنائية، أو شيء يحتاج إلى تخصيص".

وبينت أنه بدل أن تكون الدعوة عامة ومفتوحة للجميع، يُضطرّ المنظمون لتوضيح أن "هناك مكاناً للنساء"، وكأن النساء لسن من الجمهور الطبيعي لهذه الفعالية "كأننا بحاجة إلى تصريح خاص لنتمكن من الحضور أو المشاركة. هذا الأمر يُجسد تماماً أين تكمن المشكلة وهي أنه لا تزال هناك عقول ترى المرأة ليست جزءاً من الفضاء الثقافي، بل شيئاً ينبغي تخصيص زاوية له، وتحديد مكان، ومراقبة حضوره".

وأوضحت أنها شعرت بالتقليل من شأن النساء "العبارة وكأنها تقول سنسمح لكنّ بالحضور، لا أنتنّ جزء من هذا المكان، فثمة فرق كبير بين نسمح لكنّ وأنتنّ من الأصل موجودات هنا. غالباً ما تكون الفعالية قائمة على أساسٍ ذكوري، ثم تُفتح زاوية صغيرة لإدخال النساء، وكأن المرأة لا علاقة لها بالثقافة، وكأن وجودها يحتاج إلى تبرير أو ترخيص أو إذن. وهذه ليست المرّة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا التعامل، وهذا ما يُسمّى الإقصاء الناعم. لا يُقصوننا بشكل مباشر، لكنهم يخلقون بيئة تُقصينا من الداخل، وتُقلّل من دورنا، وتُحدّ من مشاركتنا الفعلية".

وترى أن "هذا النوع من الخطاب، حتى لو كان نابعاً من نية طيبة أحياناً، هو تمييز مُقنّع. لأنه بدل أن يُعمل على إشراك النساء فعلياً في المشهد الثقافي من خلال دعم مشاركتهن، وتمكين أصواتهن، وتقديم فرص متساوية، يُعاد إنتاج خطاب يُميز بشكل ناعم، ويُكرّس فكرة أن النساء ضيفات على الساحة، لا من أهلها".

وعادت نسرين محمود إلى حال الحضور النسائي في المشهد الثقافي خلال فترة حكم النظام السابق "في عهد النظام، كان الإقصاء واضحاً. الثقافة خاضعة للسلطة، والكلمة الحرّة مراقبة، وإذا أرادت المرأة أن تكون موجودة، فعليها أن تسير في خطٍ مرسوم لا تعارض، لا تهزّ المنظومة الذكورية، ولا تتجاوز الخطوط الحمراء التي يحدّدها النظام. بمعنى إذا أرادت أن تكون حاضرة، فإما أن تكون واجهة ناعمة للنظام، أو تبقى على الهامش. لكن حين بدأت الثورة، حلمنا جميعاً بمشهد مختلف. قلنا هذه المرّة سنعيد بناء كل شيء من الصفر، وسنفتح المجال للجميع لكن، للأسف، ما حدث هو أننا - وكأننا - نُعيد إنتاج المنظومة ذاتها، ولكن بلونٍ جديد".

وقالت "صحيحٌ أنه لا توجد رقابة مباشرة كما في أيام النظام، لكن هناك تجاهل ممنهج للنساء، وكأن وجودهنّ ليس أولوية. يضعوننا على المنصّة عندما يريدون أن يُظهروا انفتاحهم، لكن حين يحين وقت اتخاذ القرار، وقت التمويل، وقت كتابة المشروع، وقت توزيع الأدوار تكون المرأة إما غائبة، أو حاضرة فقط لتجميل الصورة. فبدلاً من أن تكون الثورة فرصة لتغييرٍ حقيقي، تحوّلت إلى إعادة إنتاج للبُنى نفسها، بالعقلية ذاتها، ولكن تحت شعار الحرية".

وبينت أنه "في المؤسسات الثقافية اليوم، الرجال هم من يسيطرون على القرار. النساء تعملن وتجتهدن، لكن غالباً دون تقدير أو تمثيل حقيقي. وإن رفعت المرأة صوتها أو طالبت بمكانها، تصبح معقدة، أو مُثيرة للمشاكل أو تعتبر أنها تُضخّم الأمور. والإقصاء لا يكون فقط بالغياب، بل يكون أيضاً في نوعية الحضور. يُسمح لنا بالمشاركة، ولكن في مساحات ضيقة، كتنظيم الفعاليات أو الأنشطة الجانبية. لكن في ما يخص المضمون، أو المحتوى والقرار، والتمويل نادراً ما يكون هناك تمثيل نسوي عادل. حتى اللغة التي نستخدمها تفضح الذكورية في المشهد عندما نقول دعوة للشباب، من المقصود؟ عندما نقول من يرغب في المشاركة، لمن نتوجه بالكلام؟ وكأن الثقافة مشروعٌ مذكر، والمرأة فيه عنصر إضافي، لا أساسي. ورغم كل هذا، لم نتوقّف".

وأكدت على الدور المهم الذي لعبته نساء سوريا "منذ أيام الثورة وحتى اليوم، حققت النساء السوريات إنجازات كبيرة في المجال الثقافي: كتبن، ترجمن، أخرجن، رسمن، أرّخن، أسّسن منصّات، وأطلقن مبادرات ملهمة في مختلف المجالات الأدب، المسرح، السينما، الإعلام، وحتى التوثيق والتدريب".

وتساءلت نسرين محمود "هل هناك اعتراف حقيقي بهذه الجهود؟ هل هناك عدالة في المكان والمساحة؟ أم أننا لا نزال نطالب بمقعد على الطاولة؟ الإقصاء اليوم قد لا يكون بفجاجة ما كان عليه في زمن النظام، لكنه أخطر، لأنه يختبئ خلف شعارات الحرية والانفتاح. لذلك، نحن لا نريد أن نشارك فقط من أجل الصورة. نحن نريد أن نشارك لأن ذلك حقّنا. لا نريد زاوية للنساء، بل نريد أن نكون شريكات حقيقيات في صناعة المشهد. نريد أن نعيد تعريف الثقافة من جذورها، لا أن نطالب فقط بمكانٍ فيها. المرأة لا ينبغي أن تكون استثناءً. المرأة ينبغي أن تكون قاعدة. وإن لم يعترف المشهد الثقافي بذلك، فهو مشهد ناقص، ولو ازدحم بالفعاليات".

وأشارت إلى أنه "تظل مشاركة النساء في المشهد الثقافي السوري محاصرة بقيود رمزية وأدوات إقصاء ناعمة، تشكل تحدياً أساسياً أمام تحقيق المساواة الحقيقية. من عهد النظام إلى الآن، لم تتغير البنية الذكورية التي تتحكم في القرار والتمويل. ولهذا، فإن العمل الحقيقي يبدأ بالاعتراف الكامل بدور النساء في صناعة الثقافة، والارتقاء بمشاركتهن من الهامش إلى المركز، لأن أي مشهد ثقافي يخلو من مساهمة النساء الكاملة يبقى ناقصاً مهما تعددت الفعاليات أو تعددت الخطابات".

ولفتت إلى أن "الرد النسوي هنا يجب أن يكون واضحاً، وأن تقول النساء نحن لا نريد مكاناً خاصاً، نحن نريد اعترافاً بحقنا في أن نكون في كل الأماكن، دون تصنيف أو شروط. نريد أن نتحدث ونكتب ونغني ونفكر من قلب المشهد، لا من أطرافه".

وأكدت الناشطة النسوية نسرين محمود في ختام حديثها أن "المرأة لا يجب أن تكون فكرة ملحقة، ولا فقرة مخصصة، ولا حتى حضوراً لطيفاً. هي عنصر فاعل وأساسي، وإذا لم ترَ الفعالية ذلك، فهذا ليس مكاناً للنساء، بل مكان يُقصيهن ويَحصر وجودهن في ركن يوصف بأنه آمن، لكنه غير مؤثر".