حين تجرف السيول الكرامة... حكايات نساء آسفي
مقال بقلم الصحفية حنان حارت
لم يكن الأحد 14 كانون الأول/ديسمبر الجاري، يوماً كغيره من أيام الأسبوع، بل كان استثنائياً في مدينة آسفي الواقعة على شاطئ المحيط الأطلسي على بعد 300 كيلومتر جنوب العاصمة المغربية الرباط، عندما تعرضت لفيضانات استثنائية تحولت خلالها الشوارع والأزقة إلى مجاري مائية وأماكن خطرة، جرفت المياه ممتلكات وأودت بحياة 37 شخصاً بينهم رجال ونساء وأطفال، بينما تمكن بعضهم من النجاة.
صرخة الحياة
وسط هذه الفوضى، بدت امرأة مسنة متشبثة بالحياة، تمسك بكل قوتها بالحائط بينما تجرفها المياه من كل جانب. صرختها "أنقذوني"، لم تكن مجرد استغاثة لحظية، بل رمزاً لصمود النساء المغربيات اللواتي يعشن على هامش الحماية ويواجهن المخاطر وحدهن حين تنهار شروط الأمان.
هذه المرأة لم تطلب أكثر من حقها الطبيعي في الحياة، لم تكن تطلب امتيازاً ولا شفقة، بل كانت تتمسك بلحظتها الأخيرة في عالم لم يصغ بما يكفي لصرخات الهشات، جسدها الهش في فضاء عام غير مهيأ لحماية الأضعف يدل على أن مكانتها في المجتمع المغربي، رغم الاحترام الرمزي للمرأة المسنة، لا يوازي واقعها اليومي المهدد.
قصة أخرى لا تقل قسوة، حملتها فاجعة آسفي أيضاً؛ غزلان، بائعة الفخار، وهي امرأة تكسب قوتها من حرفة تقليدية متجذرة في الثقافة المغربية. حين داهمت السيول السوق كان ابنها قريباً منها وحاول إنقاذها لكن المياه كانت أقوى. جرفت الأمواج جسدها أمام عينيه، تاركةً جرحاً إنسانياً لا تمحوه الأيام.
وبعد ساعات من البحث المضني، لفظت أمواج البحر جثة غزلان مساء يوم الاثنين 15 كانون الأول/ديسمبر، المشهد كان صادماً وأثار حزناً عميقاً في صفوف سكان آسفي، خاصة داخل المدينة العتيقة، حيث كانت معروفة كرمز للكفاح اليومي من أجل لقمة العيش، فقدانها لم يكن مجرد خبر في قائمة الضحايا، بل كان صرخة صامتة عن هشاشة النساء المغربيات.
في مشهد آخر، كانت هناك شابة تكاد تغرق لكنها تمسكت بشقيقها بكل قوتها، تصرخ "لا تتركني، أنقذني!" وسط السيول الجارفة، وبعد محاولات مضنية من شقيقها تمكن الاثنان من النجاة، متشبثين بالحياة رغم الرعب الذي اجتاحهما.
قصص المرأة المسنة وغزلان والشابة تلتقي في معنى هشاشة العيش وغياب الحماية حين تتحول الطبيعة إلى خطر مباشر.
كامرأة وصحفية مغربية، يصعب عليّ النظر إلى فاجعة آسفي باعتبارها حادثاً مؤسفاً فقط، السؤال الحقيقي لماذا كانت غُزلان هناك؟ بل لماذا يظل العيش الكريم مغامرة يومية بالنسبة لنساء كثيرات في المغرب؟ لماذا تصبح مجرد محاولة لكسب لقمة العيش مخاطرة قد تنتهي بالموت؟
في المغرب، نحب أن نقول إن "الكرامة قبل الخبز"، لكن الكرامة لا تقاس بالأقوال، بل بقدرة السياسات العامة على حماية الأجساد الهشة، خاصة في المدن التي تعاني هشاشة عمرانية وأسواقاً شعبية غير مهيأة لمواجهة الكوارث الطبيعية المتكررة.
فيضانات آسفي ليست مجرد حدث مناخي بل لحظة كشفت أن العدالة المناخية ليست شعاراً مستقبلياً، بل ضرورة راهنة، وأن الحق في الحياة يجب أن يشمل النساء اللواتي يعملن بصمت ويكبرن في السن دون شبكة أمان حقيقية.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط الحداد على الضحايا، والإنصات إلى تلك الصرخة "أنقذوني"، أن نأخذها على محمل الجد، لا كنداء فردي ضائع وسط الماء، بل كمطلب جماعي الحق في العيش بكرامة، وفي مدينة لا تترك نساءها وحدهن حين تشتد العاصفة.
في آسفي، لم تجرف السيول جسد غُزلان فقط، بل جرفت معها 36 شخصاً آخر، معظمهم مجهولون بالنسبة للجمهور، غُزلان ذُكرت بالاسم لأنها شخصية معروفة في سوق باب الشبعة، وما جرى لها يرمز إلى هشاشة النساء العاملات في القطاع غير المهيكل.
اليوم هذه الصرخات التي سمعت في فيضانات آسفي يجب أن تتحول إلى وعي جماعي وسياسات تضمن للنساء المغربيات الحق في الحياة والحق في الكرامة.