حملة الـ 16 يوماً... نضال نسوي يتحدى أنظمة العنف
من إقليم شمال وشرق سوريا إلى تونس، ومن المغرب إلى أفغانستان وإيران، تحول اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة إلى إرث نضالي حي، حيث النساء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يرفعن شعلة الحرية في مواجهة الأنظمة الذكورية السلطوية.
آفرين نافدار
لم تكن حملة الـ 16 يوماً هذا العام مجرد سلسلة من الفعاليات التثقيفية أو العلمية، بل تحولت إلى صرخة جماعية تحمل في جوهرها رسائل صمود ومقاومة. لقد كشفت النساء أن العنف الممارس ضدهن ليس حادثاً عرضياً، بل أداة هيمنة ممنهجة تستخدمها الأنظمة الذكورية السلطوية لترسيخ السيطرة والاستغلال. ومن قلب هذه المواجهة، برزت الحقيقة الواضحة؛ أن التضامن النسوي ليس خياراً ثانوياً، بل هو السبيل الوحيد للقضاء على العنف وبناء حياة حرة تتجاوز حدود القمع.
ما وراء الفعاليات... كشف البنية السلطوية
منذ الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، أعلنت النساء في مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انطلاق الحملة، لتشمل سلسلة واسعة من الفعاليات والأنشطة التي حملت في طياتها تضحيات وبطولات النساء في مواجهة العنف الممنهج. هذه الفعاليات لم تكن مجرد نشاطات رمزية، بل رافقتها نصوص تحليلية كشفت كيف تعمل الأنظمة السلطوية والاستبدادية على إعادة إنتاج العنف وتغليفه بشرعية زائفة.
في هذا العام، تجاوزت حملة الـ 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة التي انطلقت في الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، حدود الندوات والمحاضرات التقليدية، لتتحول إلى مساحة مقاومة تحمل في جوهرها رسائل صمود ومقاومة. النساء ناقشن في ورشاتهن كيف أصبح جسد المرأة وصوتها ساحة صراع مفتوحة، وكيف تسخر أدوات الدولة لتكميمها وإخضاعها. النصوص التحليلية التي رافقت الفعاليات لم تكتف بوصف مظاهر العنف، بل فضحت بنيته العميقة، وأظهرت أن القوانين السلطوية ليست سوى آليات محكمة لشرعنة القهر، وأن النضال ضد هذه البنى هو الخطوة الأولى لاستعادة إنسانية المرأة وكرامتها.
اجتمعت النساء حول طاولات مستديرة، في ورش وندوات ومحاضرات توعوية، ناقشن خلالها أشكال العنف وأسبابه والواقع القاسي الذي يفرضه نظام عالمي يستخدم العنف كأداة لترسيخ سلطته، والأهم أن هذه النقاشات لم تتوقف عند التشخيص، بل أفضت إلى توصيات وقرارات تؤكد أن النضال ضد القوانين التي تشرعن العنف هو ضرورة لا بد منها، وأن التضامن النسوي في مواجهة العقلية السلطوية يشكل الخطوة الأساسية لضمان الحقوق وبناء مجتمع أكثر عدلاً ومساواة.
صرخة نسوية... وجودنا يحمي الإنسانية
لم تكن المسيرات والوقفات الاحتجاجية والبيانات والمؤتمرات الصحفية مجرد فعاليات عابرة ضمن حملة الـ 16 يوماً، بل كانت إعلاناً جماعياً بأن الصوت النسوي لا يمكن إسكاته مهما تنوعت أدوات القمع. من شوارع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفعت أصوات النساء، حاملةً لافتات وشعارات ضد العنف، لتجتمع الصرخات تحت سقف واحد وتؤكد للعالم أن المرأة تدرك تماماً أن العنف الممنهج، مهما تعددت أساليبه، عاجز عن إسكات صوتها الحر.
لقد أدركت النساء أن تعدد أسماء القوى المهيمنة ليس سوى أقنعة تخفي عقليات جهادية ومتطرفة واستبدادية. من هيئة تحرير الشام في سوريا إلى الحوثيين في اليمن، ومن قوات الدعم السريع في السودان إلى جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، جميعها تشترك في هدف واحد: إخضاع المرأة وتجريدها من إنسانيتها. لكن هذه القوى لم تستطع إخفاء الانتهاكات الوحشية التي مارستها ضد النساء والمدنيين، إذ وضعت المنظمات النسوية والإعلامية هذه الجرائم في صدارة تقاريرها خلال الحملة، كاشفةً البنية العنيفة التي تحاول تلك الأنظمة التستر عليها.
إن المسيرات والوقفات لم تكن مجرد مظاهر احتجاجية، بل كانت إعلاناً صريحاً بأن التضامن النسوي هو شبكة مقاومة عابرة للحدود، وأن المرأة الحرة قادرة على فضح الاستبداد وإعادة تعريف الإنسانية. فالحملة لم تكتف بتسمية المعتدين، بل وضعت جرائمهم في قلب النقاش الأممي، مؤكدة أن وجود المرأة وصوتها هو الحصن الحقيقي لحماية الإنسانية من الانحدار إلى مزيد من القهر والعنف.
من غزة إلى السودان اجتمعت الأصوات النسوية
الحملة انطلقت في مرحلة مثقلة بالنزاعات والصراعات التي أنهكت المجتمعات، تاجرت الدول السلطوية بما في باطن الأرض وخارجها، ودفعت النساء الثمن الأكبر لسياسات الاستبداد والنهب السلطوي. ومع ذلك، لم تستسلم المرأة لهذا الخراب، بل رفعت صوتها عالياً مطالبة بالسلام والتضامن الاجتماعي، مؤكدة أن الحروب لا تبني أوطاناً بل تزيدها دماراً وتدهوراً.
ما زادت الحملة قوة واختلافاً عن الأعوام السابقة، كان التضامن النسوي الذي شكل المحور الأساسي لكافة الفعاليات؛ صرخة نساء إقليم شمال وشرق سوريا من أجل غزة، مناشدات نساء اليمن لحماية السودانيات، تضامن المغربيات مع التونسيات في مواجهة القمع، وإصرار النساء على أن فلسطين قضية إنسانية لا يمكن فصلها عن نضال المرأة الأممي. هذا التشبيك النسوي لم يكن مجرد تعبير عاطفي، بل تجسيد لفلسفة سياسية ترى أن تحرر المرأة شرط لا غنى عنه لتحرر المجتمعات.
وفي لحظة كانت النساء السودانيات يتعرضن لأبشع الانتهاكات من خطف واغتصاب وتهجير قسري، ارتفعت أصوات النساء من سوريا واليمن وغيرها لتدين الممارسات الوحشية التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، معلنات تضامنهن مع عزيمة المرأة السودانية وإصرارها على الصمود.
وفي تونس، حيث واجهت المنظمات النسوية والحقوقية تضييقاً حكومياً، مدت النساء المغربيات أيديهن للتونسيات، مؤكدات أنهن صوت واحد في مواجهة الأنظمة التي تحارب حرية التعبير والكلمة. أما فلسطين، فقد حضرت كقضية مركزية، حيث شددت الأصوات النسوية على أن وجود المرأة الفلسطينية في قلب أي مشروع سلام هو شرط للاستقرار الحقيقي.
هذه المواقف لم تكن مجرد شعارات أو آراء فردية، بل شكلت فلسفة جماعية تنسج شبكة نسوية عابرة للحدود، ترى أن قضية المرأة ليست قضية محلية أو فردية، بل قضية أممية تحتاج إلى تشبيك وتضامن مستمر. لقد أثبتت الحملة هذا العام أن التضامن النسوي ليس رد فعل ظرفي، بل مشروع مقاومة طويل الأمد يضع المرأة في موقع الريادة لبناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية.
مشاركة التجارب... منبع المقاومة
إن مشاركة النساء لتجاربهن ومكتسباتهن لم تكن مجرد تبادل للخبرات، بل كانت فعل مقاومة يعزز قوة الحملة ويمنحها بعداً أممياً. فنساء الشرق الأوسط، أينما كن جزءاً من ثورة أو انتفاضة أو حركة تحرر، حرصن على أن تتحول تجاربهن إلى رصيد مشترك يلهم الأخريات، ويمحو الحدود المصطنعة التي رسمتها الدول بين شعوب المنطقة.
المكتسبات التي حققتها النساء في ثورة إقليم شمال وشرق سوريا شكلت نموذجاً عملياً للديمقراطية والمساواة، وأصبحت مرجعاً تتشارك فيه الحركات النسوية مع نساء لبنان ومصر وسائر البلدان. عبر الندوات والفعاليات والمنصات الرقمية، ومن خلال زيارات الوفود النسائية، انتقلت هذه التجارب التنظيمية والفكرية لتؤكد أن المقاومة النسوية لا تعترف بجغرافيا السلطة، بل تصنع جغرافيا جديدة قائمة على الحرية والمساواة.
وإذا أردنا تلخيص فعاليات حملة الـ 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة، فإنها لم تكن مجرد فترة زمنية محدودة للأنشطة، بل محطة تاريخية دشنت مرحلة جديدة من النضال. النساء عاهدن أنفسهن على مواصلة الكفاح حتى بناء مجتمع خالٍ من العنف، وأكدت الأصوات النسوية والناشطات الرائدات أن التنظيم والتضامن النسوي هو السلاح الحقيقي في مواجهة الأنظمة السلطوية، وأنه الطريق نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.