"جراح لا تندمل" فلسطينية فقدت فلذة كبدها وباتت شعلة أمل رغم الألم
سلبت الحرب التي استمرت عام وثلاث أشهر في قطاع غزة، نهلة الكيلاني ابنها الوحيد لتناضل في خيمة لا تقيها برد الشتاء، ورغم ذلك مستمرة بعطائها للنازحين ممن حولها.
نغم كراجة
غزة ـ وسط الدمار في كل زاوية من قطاع غزة، تتصاعد حكايات الألم والصمود كأنها شاهدٌ حيٌّ على معاناة الأهالي هناك حيث تختلط أصوات القذائف ببكاء الأطفال، تقف الأمهات في مقدمة المشهد تحملن أوجاعهن بصمت ويمضين في مواجهة المجهول، هذه قصة نهلة الكيلاني، امرأة تحدّت الحرب والنزوح لكنها انكسرَت أمام خسارة لا تُحتمل.
رائحة الفقد وشبح الحرب
كان ليل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، طويلاً على نهلة الكيلاني، وهي أمٌّ لخمس فتيات وشاب، تقطن في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، مع اشتداد القصف وارتفاع أعمدة الدخان في سماء المنطقة، أصرت على البقاء في منزلها، ترفض النزوح جنوباً كما فعل الكثيرون من جيرانها، وقالت بصوت مثقل بالقلق "كنت أقول لن أترك بيتي مهما حدث، من يضمن لي العودة إذا غادرته؟"، لكن صمودها هذا لم يدم طويلاً؛ حيث اضطرت إلى مغادرة منزلها مرغمة بسبب القصف الكثيف، برفقة بناتها الخمسة وزوجة ابنها وحفيديه إلى أحد مراكز الإيواء في غزة، تاركة خلفها قلبها مع ابنها الذي أصرّ على البقاء ظنّاً أن الحرب عابرة.
"يا أمّي، لا تخافي.. سأحرس البيت وأعود سريعاً"، بهذه الكلمات غادرها ابنها، وهي تلملم بقايا نفسها لكنها شعرت بشيء في أعماقها ينبئها بالخطر، تروي نهلة الكيلاني تلك اللحظة بألمٍ لاحق "حين نظرت في عينيه وهما تمتلئان بالدموع، شعرت كأنها نظرة وداع، لكنني كذّبت إحساسي.. لم أتخيل أن الحرب ستسرقه مني هكذا".
ملجأ مكتظ ووجع الأمومة
ووصلت نهلة الكيلاني وأسرتها إلى مركز الإيواء، كان المكان مكتظاً بالعائلات الهاربة من جحيم الحرب، الأطفال يبكون، والنساء تحاولن تهدئتهم وسط ضجيج المعاناة، لم يكن هناك ما يكفي من الطعام، فالجوع صار سيد المكان، لم تستطع الجلوس مكتوفة الأيدي؛ نهضت بعزيمة النساء الفلسطينيات، جمعت بعض الدقيق المتوفر في المركز، وأشعلت النار لتخبز خبزاً بسيطاً، عن هذا الموقف تقول "حين وزعت الأرغفة على النازحين، شعرت بأنني أقتسم قلبي معهم. رأيت في أعينهم جوع الأيام الماضية، وكأنهم يأكلون الأمل".
لكن أعباءها لم تنتهِ عند هذا الحد، فابنتها هديل التي كانت في أشهرها الأخيرة من الحمل، دخلت في المخاض وسط ظروف إنسانية قاسية، كان عليها أن تصطحبها إلى مشفى "الحلو" الدولي وسط مدينة غزة، الذي لم يكن يختلف عن مركز الإيواء إلا في ازدحامه بالعائلات النازحة وحصار المنطقة المحيطة به، على الرغم من كل تلك المعاناة بقي قلب نهلة الكيلاني معلقاً بابنها الوحيد الذي لم ينقطع ذكره عن لسانها "كنت أخشى أن يصيبه مكروه وهو وحيد، تركته في بيتنا وسط القصف ولم أكن أعلم إذا كان سيبقى حيّاً حين أعود".
النساء تصنعن الإنسانية تحت القصف
وسط حصار مشفى "الحلو" الدولي حيث تصطف مئات العائلات النازحة في الأروقة، كانت نهلة الكيلاني تخوض معركتها الخاصة، ابنتها على وشك الولادة، والمستشفى يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة بينما ينقطع الخبز عن الجميع منذ أيام، ورغم ذلك لم تتردد في إشعال النار وعجن الدقيق بيديها لتخبز أرغفة ساخنة، توزعها على الأطفال والنساء الذين أنهكهم الجوع، وتروي "رأيت في عيونهم شعلة أمل رغم الألم، شعرت أن هذا الرغيف قد ينقذهم من الانكسار".
وفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وبعد أن وضعت ابنتها مولودها، تمكنت نهلة الكيلاني من مغادرة المشفى برفقة زوجها، كانت الرحلة إلى مركز الإيواء ثقيلة، فالأسئلة تتلاحق في رأسها "كيف حاله؟ هل هو بخير؟"، ووصلت إلى المركز وهناك لاحظت نظرات النساء الحزينة التي لم تستطع تفسيرها، ثم أخبرها زوجها أن ابنهما قد فارق الحياة، ولم تتمالك نفسها سقطت على الأرض تصرخ بحرقة كأن صوتها يحاول أن يعبر الجدران ليصل إليه.
ما زاد من مرارتها أن ابنها قُتل في الثامن والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ودفن دون علمها، حيث قام من تبقى من سكان الحي بتولي المهمة، ولم تعرف أسرته بمصيره إلا بعد ثلاثة عشرة يوماً، وتقول بنبرة تخنقها الدموع "حتى الوداع حرمت منه.. لم أستطع تقبيله، ولم أتعرف على قبره حتى الآن.. كيف يمكن لأمٍّ أن تتحمل هذا؟"
معاناة النساء في الحرب
وتقف أمام خيمتها التي بالكاد تقاوم برد الشتاء، والرياح تعصف، والمطر يتسرب من السقف المهترئ، تتحدث عن معاناة النازحات "لا نحتاج فقط إلى الطعام والشراب، نحتاج إلى من يساندنا.. أين المؤسسات التي تهتم بنا؟ أين من يوفر احتياجاتنا الأساسية؟ الحرب أخذت منا كل شيء، وتركتنا في مواجهة هذا المصير القاسي".
ما تعيشه نهلة الكيلاني هو صورة مصغرة عن الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في الحروب والنزاعات، وتشير تقارير حقوقية إلى أن النساء في غزة يواجهن أعباءً مضاعفة نتيجة النزوح حيث تُترك العديد منهن دون دعم نفسي أو قانوني، فضلاً عن انعدام الأمن الغذائي وسوء أوضاع الملاجئ، وعدم وجود برامج تستهدف تمكين النازحات يعمّق من أزماتهن، ويتركهن عرضة للمزيد من المعاناة والضغوطات النفسية.
وتجلس نهلة الكيلاني في زاوية خيمتها، تحمل صورة ابنها وتتحدث كأنها تخاطبه "لم أستطع أن أكون بجانبك في لحظاتك الأخيرة، ولم أتمكن حتى من معرفة قبرك لأزورك. سامحني يا بني، سامحني لأن الحرب سرقت مني حتى وداعك".
ويبقى صوتها شاهداً على معاناة آلاف الأمهات اللواتي لا يسمع العالم صراخهن، أمهات خسرن كل شيء ولم يتبقَّ لهن إلا ذكريات وصور، وجرح لا يندمل.