الوجه الآخر للحرب... نساء غزة تصنعن المعجزات اليومية
في خضم حرب غزة المستمرة، تبرز ملامح الصمود والتضحية في قصص نساء فلسطينيات، يقدمن دروساً في التحدي والإنسانية، محولات المحن إلى قوة دافعة للعطاء والأمل.

نغم كراجة
غزة ـ في ظل حربٍ مستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، باتت الحياة في قطاع غزة ساحة مفتوحة للاختبار اليومي للصبر والنجاة، وسط هذا الجحيم الممتد، لا يبرز فقط مشهد الدمار والدماء، بل تلمع أيضاً نماذج إنسانية نادرة تقاوم الانهيار بالصمود والفعل.
في زاوية منسية من عالم باتت فيه الأخبار تتسابق لتوثيق المآسي، تتجلى قصة امرأة لم تكن أماً لأطفال، لكنها صارت أماً للمئات من المحتاجين، المصابين، والمشردين، ظريفة شاهين امرأة فلسطينية لم تكن تملك إلا عزيمتها، فحوّلتها إلى سلاح في وجه المحن، وخلقت من الألم درساً في الصمود.
الجرح الذي لم يمنعها من التحدي
في منتصف أيار/مايو 2024، بينما كانت أصوات الطائرات الحربية تخترق الأفق وتغمر السماء بالدخان، وجدت ظريفة شاهين نفسها في موقف لم يكن ليخطر ببالها حتى في أشد كوابيسها قتامة، رصاصة اخترقت كتفها اليمنى، أطاحت بها أرضاً وسط الأنقاض، المكان كان خالياً والإسعاف لم يكن له وجود والصراخ كان بلا جدوى، نظرت إلى الجرح النازف في كتفها ثم إلى الدماء التي غمرت جسد زوجها الذي أصيب أيضاً، ولم يكن أمامها سوى خيار واحد، أن تفعل المستحيل.
وتروي "لم يكن لدي وقت للتفكير، نظرت حولي بحثت عن أي شيء أوقف به النزيف، لم يكن هناك شيء سوى بعض قطع القماش الممزقة وأدوات بدائية كنت أحتفظ بها في حقيبتي الصغيرة، كنت أعرف أن التردد يعني خسارته، وكان عليّ أن أقرر في لحظة إما أن أخيط جراحه، أو أن أراه يلفظ أنفاسه أمامي".
بيد مرتعشة وقلب يضج بالخوف، شرعت في خياطة جرح زوجها بأدوات لا تصلح حتى للاستخدام البشري، لكنها لم تفكر في التراجع، كان كل وخزة إبرة بمثابة صرخة مكتومة، لكنها استمرت حتى أنهت مهمتها المستحيلة ثم ضغطت على جرحها النازف بقطعة قماش بالية حتى توقف النزيف، وواصلت السير به إلى أقرب ملجأ.
المرأة التي بنت بيتها بيديها... ثم رأته ينهار في لحظة
لم يكن صمود ظريفة شاهين وليد الحرب بل امتداداً لسنوات من الكفاح والعمل الشاق، منذ صغرها عرفت معنى الكد، التنقل بين مهن متعددة، والعمل لساعات طويلة لتأمين مستقبل أفضل، كان حلمها بسيطاً بيت صغير، سقف يحميها، وأساس متين بنته طوبة طوبة لكنها كما كثيرون، رأت أحلامها تتحول إلى غبار في ثوانٍ معدودة حين سقطت القذائف على منزلها، وحوّلته إلى كومة من الركام.
لم يكن لديها متسع من الوقت لتستوعب حجم الكارثة كان الألم في جسدها والأنين من حولها أقوى من أي تفكير في الخسارة، تقول "رأيت بيتي ينهار أمامي، كل شيء كنت أملكه، كل لحظة كدّ، اختفت تحت الحطام، لم أسمح لنفسي بالبكاء، كنت أعرف أن البكاء لن يعيد شيئاً، جلست على الأرض وسط الركام، وضغطت على جراحي، كنت بحاجة إلى أن أبقى واقفة".
رسالة توقفت لكنها لم تنتهِ
قبل الحرب، لم تكن ظريفة شاهين مجرد امرأة كادحة بل كانت ملهمة، أنشأت قناتها على موقع التواصل الافتراضي "يوتيوب" منذ ثلاث سنوات، وكانت نافذة تعليمية للنساء والفتيات من مختلف الدول، تعلمهن مهارات الحياة من الخياطة إلى الطهي، ومن إدارة المنزل إلى تحقيق الاستقلالية المالية لكن الحرب أوقفت كل شيء، انقطعت الكهرباء، اختفت شبكات الاتصال، وتلاشت قدرتها على الوصول إلى متابعيها.
وقالت "كنت أستيقظ يومياً وأفكر ماذا حدث لكل هؤلاء النساء اللواتي كن يتعلمن مني؟ كيف حالهن الآن؟ هل فقدن الأمل؟ لكنني كنت عاجزة عن فعل أي شيء. كان أصعب ما في الأمر هو أنني شعرت وكأن صوتي قد اختفى، وكأن الحرب سرقت مني القدرة على التواصل مع من كنت أعتبرهن شقيقاتي".
ورغم الانقطاع الطويل لم تمت عزيمتها فبعد أن استعادت جزءاً من قوتها قررت أن تعود لكن هذه المرة بمحتوى أوسع وأعمق "لن أعود فقط لأعلمهن مهارات جديدة بل سأعلمهن كيف ينهضن من تحت الركام، كيف يصمدن رغم الانكسار، سأكون معهن ليس فقط كمعلمة، بل كإنسانة مرّت بكل شيء وما زالت واقفة".
لم تكن الحرب مجرد تجربة قاسية لظريفة شاهين بل نقطة تحول جعلتها ترى العالم من زاوية أخرى، لم تعد تكتفي بتعليم النساء عبر الإنترنت بل قررت أن تنزل إلى الميدان، بعد تعافيها بدأت بزيارة المستشفيات، حيث التقت بعشرات النساء اللواتي فقدن أجزاء من أجسادهن، أو عائلاتهن، أو كل ما يملكن، تزورهن كواحدة عاشت الألم ذاته.
وأوضحت "رأيت في أعينهن نفس النظرة التي رأيتها في المرآة يوم فقدت كل شيء، كنّ يحتجن إلى شخص يقول لهن الحياة لم تنتهِ هنا، فقررت أن أكون هذا الصوت".
كانت تدخل إلى الغرف بابتسامة، رغم أن الألم في كتفها لم يكن قد زال تماماً، كانت تجلس بجوار المصابات، تمسك بأيديهن، وتخبرهن عن قصتها، عن جراحها، عن كيف أنها وقفت رغم كل شيء "في إحدى المرات، جلست إلى جانب فتاة فقدت ساقيها. كانت صامتة، تنظر إلى السقف بلا تعبير. أمسكت بيدها وقلت لها (أعرف أنكِ ترين كل شيء أسود الآن لكنني أقسم لكِ أن الضوء موجود في نهاية الطريق. علينا فقط أن نواصل السير حتى نصل إليه)".
العودة أقوى
اليوم، وبعد عام وسبعة أشهر من الغياب، تعود ظريفة شاهين إلى حياتها لكن ليس كما كانت تعود أقوى أشد صلابة، وأكثر تصميماً على أن تترك أثراً في حياة الآخرين.
وفي ختام حديثها قالت ظريفة شاهين "لن أسمح للحرب أن تمحوني، لن أسمح للدمار أن يجعلني بلا قيمة. كنت أقول دائماً إنني أتيت من رحم العاصفة، وسأظل واقفة مهما اشتدّت الرياح. اليوم، أقولها من جديد سأعود، وسأبني، وسأجعل صوتي يصل إلى أبعد مدى".