تحرير المرأة... من الجنولوجي إلى بناء السلام ـ 1

تلعب النساء دوراً محورياً في بناء السلام وتحقيق العدالة، ورغم التهميش التاريخي، تثبت التجارب أن مشاركتهن ضرورية لإنهاء النزاعات وصياغة حلول ديمقراطية مستدامة وشاملة.

أكاديمية جنولوجيا

مركز الأخبار ـ بعد نداء القائد أوجلان حول ترسيخ السلام وبناء مجتمع ديمقراطي، بات من الضروري أن نقف عند تجارب النساء في عمليات السلام وصناعة الحلول، فالمرأة، بوصفها فاعلاً أساسياً في المجتمعات، لعبت دوراً محورياً في إنهاء النزاعات، وإرساء أسس العدالة وتحقيق المصالحة.

من عمليات السلام التي انطلقت في سياق الكفاح المسلح إلى حركات التحرير وواقعها التاريخي والثقافي والسياسي الخاص في كل بلد، تختلف هذه الوقائع من حيث الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وسياسات القوى الإقليمية والمهيمنة، ومن حيث الأيديولوجية ومستوى التنظيم وسياسات حركات التحرير.

فمنذ الحرب العالمية الأولى بذلت نساء من مختلف البلدان والحركات جهوداً حثيثة كناشطات سلام لتغيير نظام هيمنة الدولة الذكورية والعنصرية والقومية والاستغلال، ويُعدّ المؤتمر الدولي للنساء الاشتراكيات في برن، والمؤتمر الدولي للنساء من أجل السلام في لاهاي، اللذان حضرتهما 1136 امرأة من 12 دولة عام 1915، مثالين على ذلك.

وتحت قيادة المؤتمر النسائي الاشتراكي أعيد إحياء التحالف الأممي للنساء والعمال ضد القومية والعسكرة والرأسمالية والحرب الإمبريالية، وأصبح هذا الموقف أساس الثورة السوفيتية وانتفاضات الجنود والعمال التي أنهت الحرب العالمية الأولى.

"الحرب التي صنعها الرجال، يجب أن توقفها النساء" كان هذا شعار مؤتمر لاهاي وعنوان البيان الذي كتبته المندوبة الأرمنية في مؤتمر لاهاي لوسي ثومايان، وقد أدت قرارات وجهود مندوبي مؤتمر لاهاي لإنشاء محكمة دولية دائمة لمحاكمة جرائم الحرب، واعتبار الاغتصاب الجماعي كسلاح وجريمة حرب، وحظر تجارة الأسلحة، وإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، وتأسيس الرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية (WILPF) وإنشاء عصبة الأمم (سلف الأمم المتحدة) والقانون الدولي.

 

اتفاقيات ومفاوضات السلام

على الرغم من أن النساء قدمن حلولاً لعمليات السلام على الصعيد الدولي من خلال عملهن وعلاقاتهن الاجتماعية، إلا أن النساء ومطالبهن أُهملن إلى حد كبير في آليات التفاوض واتفاقيات السلام، ففي تسعينيات القرن الماضي، تأثرن بالحروب والإبادة الجماعية في يوغوسلافيا ورواندا.

ونظمت النسويات والمحبات للسلام حملات دولية لمقاضاة واعتبار الاغتصاب والعنف الجنسي كجرائم حرب، ونتيجةً لنضال النساء، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 1325 عام 2000 لمنع العنف القائم على النوع الاجتماعي ومقاضاة مرتكبيه في أوقات الحرب، وضمان مشاركة المرأة في عمليات السلام.

ومع ذلك تُظهر بيانات الأمم المتحدة، أن النساء شاركن بنسبة 6% فقط من اتفاقيات السلام الموقعة بين عامي 1992 و2019، وتشير الدراسات إلى أن عمليات الحوار والسلام التي لا تشمل إرادة المرأة ووجهات نظرها مصيرها الفشل، ولا تُسهم في بناء سلام اجتماعي دائم، وتزداد احتمالية تنفيذ وتطبيق اتفاقيات السلام بنسبة 35% في العمليات التي تشارك فيها المرأة.

لقد فشلت العديد من عمليات السلام التي نُفذت كسياسة نخبوية، ومن الأمثلة على ذلك اتفاقيات أوسلو لعام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أو اتفاقيات أروشا لعام 1993 لإنهاء الحرب الأهلية في رواندا، وكما حدثت أكبر عمليات الإبادة الجماعية في فلسطين ورواندا بعد توقيع اتفاقيات السلام هذه، وارتكبت الدولة السريلانكية أكبر المذابح ضد المدنيين وكوادر LTTE في تاميل إيلام بعد ثلاث سنوات من فشل عملية أوسلو في عام 2006.

في العديد من البلدان التي انتهت فيها الحرب رسمياً بعد اتفاقيات السلام، اتخذ العنف أشكالاً أخرى، على سبيل المثال، توضح نساء من دول أبيا يالا وأفريقيا وآسيا أنه بعد انتهاء النزاعات المسلحة، ازداد العنف القائم على النوع الاجتماعي والإبادة الجماعية ضد المرأة، كما تتعرض المقاتلات السابقات لضغوط من الدولة والزوج والأسرة.

ففي عمليات تُعرف باسم "العودة إلى الحياة الطبيعية" أو "إعادة الإدماج" يبذل نظام الدولة الذكوري قصارى جهده للحفاظ على هيمنته وإدماج النساء والثوار في النظام الأبوي، ومن خلال مؤسسات الدولة والدين والتعليم ووسائل الإعلام يتم تعزيز التمييز الجنسي الاجتماعي وثقافة الاغتصاب.

بعد اتفاقيات السلام، غالباً ما تُنتهك كرامة المقاتلات بتعريفات مثل "العاهرات" أو "زوجات القادة"، كما هو الحال مع نساء القوات المسلحة الثورية الكولومبية، وبالمثل، بعد عمليات الحرب والإبادة الجماعية في سيراليون ونيبال والبوسنة وسريلانكا والعديد من البلدان الأخرى، لم تُعرّف النساء إلا كضحايا سلبيات، ولم تأخذ في الاعتبار جهودهن ونضالاتهن من أجل العدالة والسلام.

توضح النساء الساندينييات اللواتي قدن الجبهات الأمامية خلال الثورة النيكاراغوية أنه بعد الانتصار العسكري للثورة عام ١٩٧٩، لم يُستبعدن من آليات صنع القرار فحسب، بل حاول الحكام الرجال الجدد مثل دانيال أورتيغا، حصر دور المرأة في دور الزوجة والأم، واستغلالها لتحقيق رغباتهم الشخصية، وبدلاً من نظام ديمقراطي يحمي حقوق العمال والشعوب الأصلية، أُعيد إرساء نظام استبدادي، ولذلك، لا يزال نضال المرأة ضد السلطة في مختلف المنظمات مستمراً حتى يومنا هذا.

يُعرّف القائد أوجلان السلام في مرافعته (سوسيولوجيا الحرية) بأنه "حل وسط بين الديمقراطية والدولة"، وانطلاقاً من فرضية أن "هناك أطرافاً في السلام، لا توجد هيمنة أحادية الجانب، ولا ينبغي أن تكون كذلك"، يُوضح ثلاثة شروط لتحقيق السلام أولها أن يعيش الجميع في أمان، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال قيام المجتمعات بالدفاع عن نفسها، وحماية الطابع الأخلاقي والسياسي للمجتمعات، ثانيها، لا يجوز لطرف واحد أن يكون مهيمناً "بغض النظر عن أي طرف (ظالم أو مظلوم)، إذا قبل الطرفان وقف الحرب دون الهيمنة بالقوة (بالسلاح)، فسيكون السلام مطروحاً"، أخرها، يجب على جميع الأطراف احترام المؤسسات الديمقراطية ودور المجتمع في حل المشكلة.

كما لفتت الحركات النسائية ونشطاء السلام الانتباه في السنوات الأخيرة إلى أن السلام لا يعني فقط وقف النزاعات العسكرية، بل يُعرّف بأنه عملية ديناميكية تشمل جهوداً لضمان الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق للمرأة وجميع المكونات الاجتماعية والسياسية.

 

لجان الحقيقة والعدالة

بدون عمليات بحث عن الحقيقة والعدالة تشمل النساء وجميع شرائح المجتمع وبدون معالجة أسباب الصراع والحرب، لا يمكن أن يتطور تعايش ديمقراطي وسلمي، وهكذا، يستمر الظلم وعدم المساواة وتصبح مصادر صراعات جديدة، ومن أهم الطرق وأكثرها تأثيراً لبناء السلام هو البحث الجماعي عن الحقيقة والعدالة، وإن كشف الحقيقة ومواجهة جرائم الحرب ومرتكبيها والاعتذار عنها ومحاسبتها، أمور لا غنى عنها لبناء الذاكرة الاجتماعية وتجديد الضمير الاجتماعي وتحقيق السلام الدائم.

ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة تم إنشاء ما مجموعه 34 لجنة لتقصي الحقائق في مناطق النزاع حول العالم بحلول عام 2015، ومع ذلك، وفي الحروب نادراً ما يتم الكشف عن واقع المرأة والمدى المنهجي للعنف الجنسي، في نيبال وسريلانكا والعديد من البلدان الأخرى، تم تعيين جميع أعضاء لجنة الحقائق واللجان المكلفة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومة، وقد أعاق هذا فرص المرأة في الوصول إلى الحقيقة والمشاركة في كشفها.

وعلى الرغم من أنه في كولومبيا ونتيجة لنضال المرأة تم تعيين خمس نساء ورجل واحد في لجنة الحقيقة الوطنية، إلا أن النساء لم يتمكنّ من تحقيق النتائج التي كنّ يأملن فيها، فقط بعد حملات التوعية بدأن الحديث عن الاختطاف والتعذيب والعنف الجنسي، ومع ذلك، تنتقد ناشطات المرأة في كولومبيا حوادث العنف الجنسي الفردية داخل القوات المسلحة الثورية الكولومبية FARC وقد تمت مقارنتها بجرائم الدولة المنهجية المتمثلة في العنف الجنسي في الروايات الرسمية والإعلامية.

لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا التي أُنشئت عام ١٩٩٥ تتولى مهام التحقيق والقانون والعفو، وأصبحت نموذجاً يُحتذى به للجان في دول أخرى، فبعد ٤٦ عاماً من الفصل العنصري وقرون من الاستعمار الوحشي، كان من الصعب للغاية مواجهة الحقيقة، وفي هذه العملية، طُوّر مفهوما "المصالحة" و"العدالة التحويلية" (transformative justice)، وشاركت النساء أيضاً بفاعلية في هذه العملية، وتابعت الحركة النسائية في جنوب أفريقيا عن كثب عملية الحل وسعت إلى معالجة أوجه القصور في اللجنة، النساء كن يتمتعن بمعرفة تاريخية وسياسية عميقة، وفي الوقت نفسه، تعرضن للتعذيب وصدمات نفسية شديدة، ومع ذلك، كانت طلبات النساء المقدمة إلى لجنة الحقيقة التي كانت تتألف من رجال قليلة، لذلك، لفتت الناشطات الانتباه إلى هذا الأمر، ورفضن هيمنة الرجال على اللجنة، وحقيقة أن يستمع الرجال للنساء، ونتيجةً لهذا النضال، أُنشئت لجان نسائية مستقلة تُعنى بقضايا المرأة والعنف الجنسي، مما رفع نسبة مشاركة المرأة إلى 56%، ومع ذلك، استُبعدت معظم النساء من عملية التعويضات، ولم يُعوّض إلا ضحايا العنصرية والتعذيب في ظل نظام الفصل العنصري، أما ضحايا العنف والاستغلال الجنسي، فلم يحصلن على تعويضات.

في تجارب 34 دولة يتضح أن النساء في معظم الدول لم يشاركن كمواطنات في اللجان، أو لم يحققن مشاركتهن إلا من خلال نضال الحركات النسائية، وحتى عندما أُشركت النساء في اللجان الرسمية، اقتصر نهج اللجان على أساليب إعادة التأهيل والدعم النفسي والقانوني، ولم تُنشأ آليات عدالة كافية لمقاضاة الجرائم ضد المرأة، كما كانت مشاركة النساء ضعيفة في وضع سياسات منع العنف القائم على النوع الاجتماعي، ولهذا السبب، طورت الحركات والمؤسسات النسائية في دول مثل نيبال وكولومبيا والفلبين جهوداً لتحقيق العدالة الاجتماعية، ونظمت تجمعات تُسمى "موائد السلام النسائية" في جميع المناطق، وبهذه الطريقة، تمكنت عشرات الآلاف من النساء من مشاركة تجاربهن ومناقشة آرائهن حول تحقيق العدالة والسلام.