في اليوم العالمي للاجئين... أصوات نسائية من قلب اللجوء في ليبيا
في اليوم العالمي للاجئين الذي يصادف الـ 20 من حزيران/يونيو، لا تُداوي الشعارات جراح الغربة ولا تُعيد الأمان، تقوى إسحاق، عائشة زكريا ورقية محمد، لا يطلبن امتيازات، بل اعترافاً بأصواتهن، بكرامتهن، وحقهن في منبر يُعبّرن منه، لا يتحدَّث فيه نيابةً عنهن.

منى توكا
ليبيا ـ في كل عام، تُرفع الشعارات ويُضاء العالم ليوم اللاجئ، لكن في الزوايا التي لا تصلها الكاميرات، تنمو حكايات تُروى على استحياء، وتُنسى بعد دقائق من عرضها، ففي ليبيا، حيث تتشابك ندوب الحرب وآثار التهجير، تمضي لاجئات سودانيات في رحلة الحياة بأقدام حافية على طرق غير ممهدة، يحملن الوطن في القلب ولا يملكن إثبات وجود قانوني على الورق.
رغم أن لهيب الحروب لا يميّز بين رجل وامرأة، إلا أن وقعها غالباً ما يكون أثقل وطأة على النساء. ففي مجتمعات تُختزل فيها قيمة المرأة ضمن حدود البيت، يتحوّل اللجوء إلى امتحان مرير لهويتها وكرامتها، ويدفعها إلى واقع غريب عنها، تنقطع فيه عن صور الحياة التي عرفتها من قبل.
وفي ليبيا، تقف اللاجئات السودانيات عند تخوم النسيان، على أطراف المدن والمخيمات، مثقلات بوجع الوطن ومُرارة الغربة، بينما يمضي يوم اللاجئ عالمياً باحتفالات لا يصل صداها إلى من تركن كل شيء خلفهن وبدأن من العدم.
الغربة لا تعترف بصوت اللاجئات
في زحمة الأخبار السياسية والحسابات الدولية، تغيب الوجوه الفردية عن مشهد اللجوء، تلك التي تحكي قصصاً لا تكتبها التقارير، بل تنبض في تفاصيل الحياة اليومية لمن اقتُلعت جذورهم قسراً، من بين هذه الوجوه، تطلّ تقوى إسحاق، لاجئة سودانية تقيم في مدينة سبها، لتروي ما لا تقوله الأرقام، ألا وهو أن اللجوء ليس فقط عبور حدود، بل عبور داخلي يهزّ الإيمان ويعيد تشكيل الذات.
"اللجوء غيّرني، لكنه زادني إيماناً" بهذه الكلمات لخصت تقوى إسحاق، رحلتها القاسية نحو المجهول "كنت أسمع عن اللجوء، لكن لم أتخيّل يوماً أن أعيشه، أن تُجبر على مغادرة استقرارك، وتُلقى في واقع غريب لا تعرف فيه ملامح الغد، ذلك ليس سهلاً ومع ذلك، كان في التجربة قوة خفيّة تعلّمت أن أتكيّف، أن أكون أصلب، وأن أزداد إيماناً، حتى حين خانتني الظروف".
كانت تقوى إسحاق تعمل كمدرّسة مستقلة في السودان، بدخل ثابت وحياة مستقرة، قبل أن تُجبر على البدء من نقطة الصفر من جديد، تقول بأسى مملوء بالعزم "انقلب كل شيء رأساً على عقب، كنت أعتمد على نفسي، أعمل وأعيل ذاتي، واليوم أبحث عن عمل، عن بداية جديدة، عن مساحة أستقرّ فيها، أحاول فقط أن تمضي الأيام... ولو ببطء".
ورغم قسوة التحولات تجد في التضامن بريق أمل "الإخوة الليبيون لم يتركونا وحدنا، كانوا معنا في خطواتنا الأولى حتى شعرنا بشيء من الاستقرار
وبحسرة أشارت إلى غياب المنصات التي تُتيح للاجئات التعبير عن قضاياهن وهمومهن "صوت المرأة اللاجئة في ليبيا خافت لأننا لا نملك المساحة لنُسمع به، لا وجود لمكتب للجالية في سبها حتى الآن، ولو وُجدت لنا منصة أو إطار رسمي، لقلنا بوضوح ما نحتاجه".
وتُضيء على أبسط المطالب التي ما زالت بعيدة المنال "نطلب فقط الحدّ الأدنى من الحقوق، أوراق تثبت هويتنا كي نُدمَج في سوق العمل. أنا معلّمة، وكثيرات مثلي، لا نريد صدقات، نريد فرصة نُثبت فيها جدارتنا، نُعطي ونأخذ بكرامة".
وقالت في ختام حديثها بنداء "لو بيدي، لجعلت لكل لاجئة عيشاً كريماً يحميها من الحاجة، وأقول لكل لاجئة مثلنا، اصبري وتكيّفي، فربما يعود الوطن ذات يوم، وهنا أيضاً، في هذه البلاد، لنا إخوة وأخوات".
"قطعتُ الصحراء وأنا أخشى أن تسقط بناتي"
أما عائشة زكريا، وهي نازحة سودانية أخرى تقيم في ليبيا، فتحمل في صوتها وجعاً لا يخفى، حيث تقول "اللجوء لم يكن سهلاً أبداً، تركت أبنائي في السودان، ولا أدري إن كانوا بخير، عبرنا الصحراء في سيارات مكتظّة، قضينا شهر رمضان في الطريق، ووصلنا إلى ليبيا قبل العيد بيومين فقط".
تحكي عائشة زكريا تفاصيل الرحلة بمرارة لا تخلو من الصبر "كنت خائفة طوال الوقت خاصة على بناتي، كنت أراقبهن وأنا أرتعد، خشيت أن يسقطن في لحظة غفلة، ومع ذلك، صبرنا، وثبتنا".
ورغم مرض قلبها، ظلّت تقاوم لتؤمّن مأوى "عشنا عشرين يوماً في ظروف صعبة، نواجه المشاكل يوماً بعد آخر، حتى استطعتُ أن أستأجر بيتاً، لكن قلبي لا يزال هناك، في الوطن"، مضيفةً "كل ما أتمناه أن يعود السودان فعندها فقط أستطيع أن أعود أنا أيضاً".
"ولدت على الحدود... لا غطاء، لا مأوى، فقط خوف ورضيع"
وكذلك الحال بالنسبة لـ رقية محمد وهي أم شابة في منتصف العشرينات، بدأت رحلة اللجوء بعد أن خطفت الحرب زوجها، وفي أحشائها طفلٌ على وشك الولادة، لم تنتظر الحياة أن تُمهّد لها الطريق، فوضعت صغيرها وسط المجهول "ولدت طفلي وأنا محمولة في شاحنة مكتظة بالغرباء، في عتمة الليل، والبرد ينهش جسدي، لم أتصور يوماً أن أُرضعه على الرمال في اليوم التالي، بلا غطاء، بلا مأوى، ولا حتى قطعة قماش تلفّه".
دخلت إلى ليبيا برضيعٍ على صدرها وأمٍ مريضة تستند إليها، لكنها لم تُكسر "حين فقدنا أوراقنا، بكيت كثيراً، فأن تعيش بلا هوية قانونية، بلا بطاقة تعريف، يعني أن تخاف من كل شيء من الطريق، من الطَرق على الباب، من الغد نفسه".
اليوم، تعيش رُقيّة محمد في غرفة صغيرة بحيّ شعبي في سبها، وتخوض معركتها الصامتة لتأمين الحليب والدواء "كل ما أطلبه ورقة تُثبت أنني إنسانة، لا أريد أكثر من فرصة أعيش بها بكرامة".