آمال بعودة تلاؤم أفراد العائلات التي شتتها الحرب
الجدات اللواتي عاصرن تاريخ حلب لأكثر من نصف قرن لديهن أمل في بناء سوريا جديدة يكون للمرأة فيها دور بارز وأن يعم السلام في البلاد التي عاشت الحرب والحرمان.
غفران الهبص
حلب ـ أفقدت الحرب التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن العائلات السورية تلاؤم أفرادها، وهذا ما يشعر الكبيرات في السن بالحزن والوحدة، وتأملن بعد أن سقط النظام بجمع شمل العائلة، وأن يتمكن الذين هجروا من العودة.
حملت نساء حلب منذ الحقبة السابقة (نظام الأسد الذي دام لأكثر من خمسة عقود) عبء الحفاظ على العادات والتقاليد في حياتهنّ اليومية، مما جعلهنّ حاملات لذكريات ثقافية عميقة، ومع بداية التحولات السياسية في ظل النظام السابق، خضعت حياة النساء في حلب لعدة تحديات اقتصادية واجتماعية، إلا أنهن بقينّ حاضرات في نقل الحكايات التي كانت بمثابة مرآة للتغيرات من حولهنّ.
وتحولت حكايات الجدات مع بدء الأزمة السورية التي دامت لأكثر من 13 عاماً، إلى شهادات حيّة تروي قسوة المعاناة التي عاشتها النساء في ظل الدمار والمآسي، وبالإضافة إلى بروز شجاعة المرأة التي تحملت المسؤولية وواجهت التحديات من أجل الحفاظ على كرامتها وأسرتها، وفي المرحلة الراهنة، أصبحت هذه الحكايات تجسد قوة الإرادة وصمود النساء في إعادة بناء حياتهنّ والمساهمة في ترميم مجتمعهنّ، متحديات ظروفاً صعبة في سبيل بناء مستقبل أفضل.
استقرار تحت القيود
منى الأحمد في العقد السادس من عمرها وُلدت في مدينة حلب، وهي أم لخمسة أبناء وبنات وجدة لعشرة أحفاد، تمثل نموذجاً حياً للنساء اللواتي مررن بتجارب قاسية ولكنهنّ حافظن على إرثهنّ وحكاياتهنّ، ومن خلال حديثها، سلطت الضوء على التغيرات التي شهدتها المدينة والأثر الذي تركته هذه التحولات على حياتها الشخصية وكذلك على حياة النساء في المدينة.
"حياتنا كانت بسيطة، ولكننا كنا نعيش في أمان نسبي" بهذه الكلمات تلخص حياتها في ظل النظام السابق، مضيفةً "كانت المدينة تتسم بوجود بنية اجتماعية متماسكة، وبالرغم من أن الحياة صعبة، لكننا عشنا في استقرار فالتعليم كان متاحاً بشكل جيد، والصحة كانت في مستوى جيد، ولكننا كنساء لم نكن نتمتع بالحرية، والمجتمع يعاملنا كأننا جزء من الروتين اليومي وعلى أننا الأضعف".
وأوضحت أنه "تحملنا كل شيء بصبر، والنساء في تلك الفترة كانت لديهن أدوار محددة في المجتمع فكانت المرأة تتحمل مسؤوليات المنزل والأبناء، كما كانت بعض النساء قادرات على تحقيق النجاح في مجالات التعليم والعمل ضمن حدود المجتمع التقليدي".
ولفتت منى الأحمد إلى الذكريات التي عاشتها في حلب قبل أن تمزقها الحرب، راسمة مشهداً مليئاً بالحياة والأنشطة الاجتماعية والتي تعتبر جزءاً من النسيج الثقافي للحياة اليومية "كانت حلب مدينة تعج بالحياة ومليئة بالسكان، كما كانت الأسواق دائماً مكتظة بالتجار والزوار، والعائلات تتجمع في الأعياد والمناسبات والانسجام يملئ المكان فيما بين الأجيال والفرح كان يملأ قلوبنا".
وأضافت "كنا نواجه العديد من القيود والتحديات التي فرضت على النساء وزادت من أعبائهن وبالرغم من أن التعليم كان متاحاً إلا أن الفرص كانت محدودة للنساء وهناك فرق كبير بين ما يمكننا القيام به وما يسمح به المجتمع، فالبعض كان قادراً على العمل في مجالات متعددة مثل الصحة والتعليم لكن النظرة التقليدية لعبت دوراً كبيراً في تحجيمنا وحصرنا ضمن المنزل فقط، ومع كل هذه التحديات هناك نساء وفتيات استطعن تجاوز هذه القيود بنجاح مما عكس إرادة المرأة في حلب سعياً لتحقيق أهدافها في ظل الظروف الصعبة".
تفكك اجتماعي وآثار نفسية
"الحرب أخذت منا الأمان، والعائلة، وكل شيء"، بهذه الكلمات وصفت منى الأحمد واقع الحرب على حياتها، "أيام الحرب كانت مليئة بالمخاوف، العائلات تفرقت، وفقدنا الكثير من الأحبة فضلاً عن النزوح الذي كان جزءاً من حياتنا اليومية، وكنا نبحث دائماً عن الطعام والدواء في ظل الظروف الصعبة، مع مرور الوقت كانت لحظات الحرب مأساوية جداً فقد كنا ننزل إلى الأقبية تحت القصف الوحشي وننتظر بفزع سقوط القذائف".
وتابعت "كانت الحرب سبباً في تفكيك العديد من العائلات وزيادة المعاناة على النساء مما جعلهن يفقدن تماسكهن واضطررن لحمل العبء الأكبر وهو عدم وجود معيل لهنّ ودفعهنّ للقيام بالأعمال غير المألوفة لهن وذلك لتأمين لقمة العيش والعناية بالأطفال، كما بدأ الناس يبتعدون عن بعضهم والجميع يعيشون في عزلة فالحرب أثرت على العلاقات العائلية".
تحديات جديدة في مرحلة البناء
وأكدت "بعد سقوط النظام نحاول العودة إلى الحياة الطبيعية ونعلم أن هذه مهمة شاقة، ففي البداية شعرنا ببعض الأمان النسبي، وعلى الرغم من أن الجراح ما زالت مفتوحة والآلام باقية، إلا أننا نتمنى أن تعود سوريا لتنبض من جديد بشعبها، لكننا نواجه اليوم تحديات اقتصادية صعبة، والفقر أصبح يسيطر على العديد من الأسر، والفرص ضئيلة جداً، أما الأسعار ترتفع بشكل مستمر، وأصبح من الصعب تأمين الاحتياجات اليومية وبالنسبة لنا كنساء، نُحاول بكل ما أوتينا من قوة أن نكون جزءاً من إعادة بناء هذا الوطن الذي عانى الكثير".
وأوضحت "نريد أن نساهم في بناء سوريا جديدة، سوريا خالية من الحرب والقهر، ونُسعى للعمل والقيام بدور أكبر في المجتمع لأننا نعلم أن بناء المستقبل يعتمد على جهودنا خاصة في هذه الظروف الصعبة فكل امرأة لها دور أساسي في هذا المجتمع، وبنفس الوقت نحاول أن نزرع الأمل في قلوبنا وقلوب من حولنا، وأن نكون جزءاً من هذا التغيير الكبير الذي نطمح لرؤيته".
المستقبل وإعادة بناء حلب
وتمنت منى الأحمد مستقبل أفضل لسوريا "أريد لحلب أن تنهض بشعبها الطيب ضمن بيئة آمنة ومستقرة، وأن يحصل الجيل الجديد على فرص أفضل من التي عشناها فسوريا عظيمة تستحق أن تعود للحياة الكريمة وأن يزدهر فيها الجميع، وأن يعود أبناؤنا الذين هاجروا بحثاً عن حياة آمنة، فهم تحملوا الغربة لسنوات، وأملي أن يعودوا ليكونوا بجانبنا، ويساهموا في إعادة إعمار سوريا".
وأضافت" أكثر ما أتمناه هو أن أتمكن من العودة إلى دور الأم والجدة التي تربي وتعتني، وأن أكون قادرة على جمع أحفادي حولي على مائدة واحدة، في أجواء من الحب والحنان كما أريد أن أراهم جميعاً معاً وأن نعيش في سعادة في مكان كان دائماً مليء بالفرح والآلفة".
وأكدت الجدة منى الأحمد في ختام حديثها على ضرورة إبراز النساء السوريات لموقفهنّ في بناء سوريا الجديدة لمواصلة الحياة وإعادة بناء ما تهدم.