التنشئة على الخوف... كيف يعيد المجتمع إنتاج قمع الفتيات عبر الأمهات؟
تواجه المرأة في المجتمعات التقليدية صراعاً بين وعيها بحقوقها وضغوط المجتمع، حيث تُعاد إنتاج أنماط القمع عبر التربية، مما يرسخ شعور الدونية ويعيق بناء جيل متوازن نفسياً واجتماعياً.
روشيل جونيور
السويداء ـ في مجتمعاتٍ ما تزال تحكمها الذهنية الذكورية، تربى الفتاة منذ طفولتها على الخوف والمنع، وعلى القبول المطلق بسلطة الأب والأخ، في تفاصيل حياتها اليومية، من لباسها وصوتها، إلى حقها في النقاش وإبداءها الرأي وأي محاولة للاعتراض تصنف فوراً على أنها "تربية خاطئة"، وغالباً ما تحمل الأم وحدها مسؤولية هذا الخلل في حين يعفى المجتمع ككل من المساءلة.
تقول الناشطة آمال الجبر إن المجتمع لا يزال ينظر إلى الفتاة بوصفها "ناقصة"، مهما بلغت من علم ووعي، بينما ينظر إلى الفتى كضرورة لاستمرار اسم العائلة، وضمان الحماية للأم مستقبلاً، وركيزة أساسية في الميراث والمنزل، مؤكدة أن هذا المفهوم يرسخ شعوراً دائماً بالدونية لدى الفتيات.
وتشير إلى أن الأم، رغم كونها الضحية الأولى لهذا النظام، تجبر في كثير من الأحيان على إعادة إنتاجه، فتلقين ابنتها أن مكانها الحقيقي هو بيت الزوج، وأن عليها خفض صوتها، وطاعة الزوج والأب والأخ، والخدمة دون نقاش، ليس اقتناعاً بل خوفاً من نظرة المجتمع ومن الوصم.
المرأة بين الوعي والسحق الاجتماعي
وتوضح آمال الجبر أن الفتاة المتعلمة والموظفة، رغم معرفتها بحقوقها وواجباتها، تُسحق تحت ضغط المجتمع، وتجبر على الصمت تجاه ما تتعرض له من ظلم أو عنف، خشية أن تتهم بسوء التربية أو الانحراف. حتى في قضايا الميراث، تهدر حقوق كثير من النساء بدافع الخوف من الزوج، أو من الأخ، أو من تحميلهن مسؤولية لا يقدرن عليها، وفق التصورات الذكورية السائدة.
وتقول "مع أن الرجل يعلم أن من سيحمله في كبره غالباً هي الفتاة، إلا أن حقها يهدر في كل شيء وفي كثير من الحالات، تتنازل المرأة عن حقوقها طواعية تحت الضغط، وكأنها غير قادرة على تحمل المسؤولية المالية أو القانونية".
وتؤكد أن دور الأم يجب أن يكون مختلفاً، وأن عليها أن تعلم ابنتها ألا تكرر ما عاشته هي من قمع، وأن تمنحها "سلاح العلم، والقوة، والحرية الواعية". فحرية الفتاة، كما تقول، لا تعني الفوضى، بل تقوم على قواعد وأسس.
انتقال التجارب غير المعالجة عبر الأجيال
من جانبها تناولت ريم الغجري خريجة إرشاد نفسي وتتابع حالياً الدكتوراه المهنية في جامعة خاصة، موضوع الأخطاء التربوية وانتقالها عبر الأجيال، مؤكدة أن التربية السليمة تحتاج إلى وعي استراتيجي وشجاعة في مواجهة الضغوط الاجتماعية والثقافية، وأن البيئة التي ينشأ فيها الطفل هي العامل الأهم في تكوين شخصيته وصحته النفسية.
وتوضح أن الأم التي عاشت طفولة مليئة بالخوف والمنع والسيطرة، غالباً ما تعيد إنتاج هذه التجارب على أطفالها بشكل لا إرادي، فهي تعتبر أن ما مورس عليها هو الصحيح، وتجد صعوبة في التغيير لأنها قولبت في قالب اجتماعي لا يسمح لها بالتحرر. النتيجة أن الأطفال يقتدون بهذه الأنماط، معتقدين أن الأم دائماً على حق، مما يرسخ أخطاء تربوية غير صحية.
الضغط الاجتماعي والثقافي
وأشارت ريم الغجري إلى أن المجتمعات التقليدية، رغم دخولها مرحلة التطور، ما زالت تعاني من أخطاء تربوية متوارثة بالفطرة. هذا الضغط الاجتماعي يعيق تكوين علاقات صحية ويجعل الانتقال من مرحلة ضعيفة إلى مرحلة متقدمة في التطور أمراً صعباً، مؤكدة أن كثرة الكبت تؤدي إلى مشكلات نفسية، وأن الحل يكمن في وجود فرق دعم نفسي متخصص، إلى جانب الندوات التوعوية والثقافية التي تعزز حرية التعبير.
ولفتت إلى أن الرجال ساهموا في ترسيخ الأنماط التي تحد من دور المرأة، إذ غالباً ما يلغى دورها الفعال لصالح التركيز على الجانب الذكوري. هذا التوازن المفقود ينعكس سلباً على الأطفال، حيث تصبح الفتاة محاصرة بقيود والداتها، فتخرج عن النطاق المسموح لها كردة فعل. وترى ريم الغجري أن الحل يكمن في خلق توازن بين الرجل والمرأة، لأن الدراسات أثبتت أن المرأة تمتلك قدرات عالية، لكن القمع والخوف يحدان من ظهورها.
الخلط بين الحماية والسيطرة
الحماية، كما تقول ريم الغجري، شعور فطري من حق كل أم، لكن عندما تتحول إلى سيطرة فإنها تضعف الطفلة نفسياً. التربية تحتاج إلى أساليب دبلوماسية واستراتيجيات واضحة، لأن الفرض يولد النفور، والتذبذب في التربية يخلق حالة نفسية غير صحية لدى الطفل.
وتوضح أن التغيير في التربية يحتاج إلى شجاعة، لأن الأم غالباً ما تتحمل وحدها تبعات أي أسلوب جديد تختاره، بينما يلقي الأب اللوم عليها في حال ظهرت نتائج غير مرغوبة. هذا خطأ شائع، فالتربية هي نتاج فكري مشترك، ولا يمكن أن تنجح إلا بتعاون الأم والأب معاً.
وتنتقد ريم الغجري تحميل الفتاة عبء "الشرف"، مؤكدة أن هذا المفهوم يجب أن يعاد النظر فيه، لأنه لا يرتبط بعامل بيولوجي، فالدراسات تثبت أن للمرأة دوراً كبيراً وفعالاً، وأن الفتاة التي تربى على أسس صحيحة لن تخطئ، لذلك يجب أن يكون أسلوب التربية استراتيجياً وواعياً، يوضح للفتاة والفتى معاً ما هو الصح والخطأ دون إجبار، لأن الإجبار يولد ردود فعل سلبية وعوامل نفسية معقدة.
البيئة كعامل أساسي
وتقول إن البيئة التي ينشأ فيها الطفل هي العامل الأهم في تكوين شخصيته. فإذا كانت البيئة صحية، وكان الأهل يسيرون معه باستراتيجية واضحة دون تذبذب، فإن الطفل سيكون صحيحاً نفسياً واجتماعياً، والفتاة ستصبح ناضجة وواعية قادرة على مواجهة تحديات المجتمع.
وفي ختام حديثها، تؤكد أن التربية السليمة لا يمكن أن تقوم على إرث الماضي وحده، بل تحتاج إلى شجاعة في التغيير، تعاون بين الأبوين، وتوازن بين دور الرجل والمرأة. البيئة الصحية والتربية الواعية هي الطريق لبناء جيل جديد متوازن نفسياً واجتماعياً، بعيد عن الأخطاء التربوية التي ورثتها الأجيال السابقة.