المرأة الفلسطينية... عطاءٌ مستمر وجدارٌ لا تهدمه الحرب
وسط المعاناة، تنهض المرأة الفلسطينية صانعة للحياة، تواجه الألم بالعطاء، وتحمل على عاتقها مسؤولية الأمل رغم الفقدان.

نغم كراجة
غزة ـ بين الأنقاض، حيث تتهشم الأحلام كما تتهاوى الجدران، تبرز المرأة الفلسطينية كركيزة صلبة، تقف في مواجهة العدم، تفتح ذراعيها لحياة أخرى رغم كل ما فقدته، وفي مشهدٍ يعكس أسمى معاني التضحية والصمود، تروي ابتسام زيدية، وهي خالة الطفلة ليلى الخضري، كيف تحولت في ليلة واحدة من امرأة مكلومة إلى أمٍ بديلة، تلملم جراح طفلةٍ انتُزعت عائلتها من الحياة في غمضة عين.
ليلة الفاجعة... بين الحياة والموت
كان يوماً أشد ظلمة من ليالي الحرب، حين تلقت ابتسام زيدية خبر وفاة شقيقتها الحامل في شهرها التاسع، ومعها زوجها وأطفالها وكل من كانوا برفقتهم من النازحين في حي الصحابة، في مجزرةٍ أودت بحياة 120 شخصاً دفعة واحدة، كان الموعد المقرر لولادتها في اليوم التالي، لكن الموت كان أسرع إليها من الحياة، صُدمت ابتسام، وانخلع قلبها تحت وطأة الألم، لكنها سمعت كلماتٍ تفتح باب الأمل وسط هذا الخراب "هناك طفلةٌ واحدة نجت".
هرعت إلى مستشفى المعمداني، عيناها تبحثان عن طيفٍ من شقيقتها الراحلة، قلبها يركض قبل خطواتها، وعندما وصلت إلى جناح المصابين، وجدت طفلةً مجهولة الهوية، مشوهة الوجه، يكسو جسدها الحروق، وعيناها غارقتان في الدموع، كان صوتها يصرخ من الألم، وكان قلب ابتسام زيدية يصرخ من الفقد. لم تعرفها على الفور، فقد غيّرت النيران ملامحها، لكن قلبها أخبرها "إنها ليلى، الطفلة التي نجت وحدها من بين الجميع".
وتقول "لم أتعرف عليها فوراً، كان وجهها سائحاً من الحروق، وصوتها يعلو بالبكاء، لكنني شعرت أن روحها تستنجد بي، كأنها تطلب مني أن أكون لها وطناً بعد أن سُلب منها وطنها الصغير، لم يكن أمامي خيار سوى أن أفتح لها قلبي، وأن أكون لها كل العائلة التي فقدتها في لحظةٍ واحدة".
احتضان الألم... أمومة قسرية في زمن الحرب
لم يكن احتضان ليلى مجرد قرار، بل كان معركة أخرى تخوضها ابتسام زيدية في ظل واقعٍ مريرٍ من الشح الطبي والإمكانات المحدودة، كان المستشفى يفتقر إلى العلاج اللازم، والممرضات يطلبن منها توفير مراهم الحروق والمضادات الحيوية، لكنها لم تكن تملك ثمنها، زوجها عالق في جنوب القطاع، وهي في الشمال تحاول أن تجمع بين رعاية الطفلة والبحث عن العلاج بأي وسيلة ممكنة.
"أرادوا مني أن أدفع ثمن علاجها، وكأنني لم أدفع ثمناً كافياً بفقدان شقيقتي وعائلتها! كيف يمكن لنا أن نحمي أطفالنا ونحن عاجزون عن توفير أبسط سبل الحياة لهم؟ كنت مستعدة أن أستدين، أن أبيع ما أملك، فقط لأمنح ليلى فرصة أخرى للحياة".
خرجت الطفلة ليلى من المستشفى بعد شهرٍ من العلاج، لكن جراحها النفسية لم تكن قد التأمت بعد، باتت تعاني من اضطراباتٍ نفسية، تخاف من أصوات القصف، تتمسك بخالتها كلما سمعت دوّي الانفجارات، تبكي في الليل وتردد بصوتٍ مرتجف "ما هذا، لا تتركيني!".
وأوضحت "إنها لا تعرف عني سوى أنني ماما، أنا أول من احتضنها بعد المجزرة، وأول من مسح دموعها، كأنها وجدت فيّ بقايا الدفء الذي انتُزع منها قسراً لكنها تسألني أحياناً عن والديها، وعندما أخبرها أنهما في الجنة، تلمع عيناها وكأنها تفهم أن هذه الدنيا لا تمنح الطيبين سوى الغياب".
المرأة الفلسطينية... مهمة مقدسة في وجه المصير
ليست ابتسام زيدية وحدها، بل هناك مئات النساء الفلسطينيات اللواتي تحوّلن إلى أمهات بديلات، يحتضن أطفالاً نُزعت منهم عائلاتهم، يعوضنهم عن الحنان المسلوب رغم جراحهن الخاصة، ففي قلب الحرب، تصبح المرأة الفلسطينية خط الدفاع الأول عن الحياة، تتشبث بها رغم كل ما أُخذ منها.
في يوم المرأة العالمي، بينما تُكرَّم النساء في بقاع العالم بعبارات الامتنان والهدايا الرمزية، تقف المرأة الفلسطينية على أنقاض بيتها، تضمّ طفلاً ليس طفلها، وتواجه حرباً ليست حربها وحدها لكنها تدرك أن عليها أن تبقى، أن تعطي، أن تحيا رغم كل شيء، وتؤكد "لم نُخلق لليأس، نحن النساء الفلسطينيات خُلقنا للصمود، لاحتضان الحياة حتى لو كانت تحت الركام، نحن من يعيد ترتيب الفوضى، من يلملم الجراح، ومن يصنع الأمل من قلب الألم. قد نُكسر، لكننا لا ننكسر".
الأمومة في زمن الحرب... حكاية لا تنتهي
كبرت الطفلة ليلى الخضري عاماً آخر بين يدي ابتسام زيدية، لكنها لم تعد الطفلة ذاتها، باتت أكثر صمتاً، وأقل قدرة على اللعب مع الأطفال الآخرين، عيناها تحملان قصة لا تُروى بسهولة، لكنها تحاول أن تبتسم، أن تستعيد الطفولة التي سُرقت منها في لحظةٍ واحدة "حين تكبر ستبحث عن ملامح والدتها في وجوه النساء، عن صوتها في أصوات المارة، وستعرف أن أقسى ما يمكن أن يمر به الإنسان هو أن يكبر وحيداً، بلا ذاكرة تحتضنه".
المرأة الفلسطينية ليست فقط أماً لأطفالها، بل أمٌّ للأمة بأكملها، تتحمل عبء العيش وسط الخراب، وتحاول أن تمنح للحياة فرصة أخرى، ووجهت تحية لكل امرأة فلسطينية حملت وطنها في قلبها، ولم تتركه يسقط رغم كل شيء.
واختتمت ابتسام زيدية حديثها بالقول "نحن لا نعيش، نحن فقط نحاول البقاء. كل يوم نصارع من أجل لقمة، من أجل دواء، من أجل لحظة أمان نادرة وسط هذا الجحيم. فقدتُ شقيتي وعائلتها في لحظة، ووجدتُ نفسي أمًا لطفلةٍ مزّقت الحرب حياتها قبل أن تفهم معناها، عندما تنظر إليّ ليلى وتسأل عن والديها، أشعر بعجزٍ يفوق الوصف، كيف أشرح لها أن العالم الذي تعيش فيه لا يرحم الصغار؟ كيف أطمئنها وأنا نفسي لا أعرف ما الذي تخبئه لنا الأيام؟ هنا، حتى الهواء مشبع بالحزن، وحتى الأحلام مكسورة قبل أن تُولد".
وسط هذا الدمار، لا تُقاس المعاناة بعدد الضحايا فقط، بل بحجم الفقدان الذي يتركه في قلوب الناجين، المرأة الفلسطينية لا تبكي على الأطلال، بل تنهض من بين الركام، تحمل الأطفال على كتفيها، وتعيد بناء الحياة ولو بأبسط الإمكانيات، هي من تتصدر المشهد، تعالج الجراح، تواسي الأيتام، وتقاوم الانكسار رغم أنها الأكثر وجعاً.
في فلسطين، لا تُمنح النساء فرصة للحزن طويلًا، فكل دقيقة تمر تعني مسؤولية جديدة، طفلًا يحتاج إلى حضن، منزلاً يحتاج إلى إعادة ترتيب، وأملاً يجب أن يُزرع وسط الخراب، ومع كل ذلك، لا أحد يسأل: من يداوي جراحها؟