اقتصاد غير مرئي تقوده النساء في جنوب ليبيا
أكدت المديرة التنفيذية لاتحاد سيدات الأعمال أم السعد نور الدين، أن الاقتصاد النسوي في الجنوب الليبي ليس خياراً حراً، بل ضرورة فرضها التهميش، غياب البدائل، وانسحاب الحكومة.
منى توكا
ليبيا ـ في جنوب ليبيا، لا تغيب النساء عن العمل، بل يغيب الاعتراف بعملهن. آلاف النساء ينخرطن يومياً في أنشطة إنتاجية تضمن البقاء لهن ولأسرهن: حِرف تقليدية، مشاريع منزلية، تدريب، خدمات، وتسويق بدائي يعتمد على العلاقات الشخصية. ورغم هذا الحضور الاقتصادي المتواصل، تظل مساهمتهن خارج الإحصاءات الرسمية، وبعيدة عن سياسات الدولة، فيما يُعرف بالاقتصاد غير المرئي.
هذا الاقتصاد، الذي تتحمله النساء وحدهن، لا يعكس خياراً حراً بقدر ما هو نتيجة مباشرة لغياب البدائل: شحّ فرص العمل، ضعف الاستثمار في الجنوب، وانعدام الحماية القانونية للمشاريع الصغيرة. في هذه البيئة الهشة، تتحول المبادرات النسوية إلى محاولات إنقاذ، لا من موقع القوة، بل من موقع الضرورة.
أم السعد نور الدين، المديرة التنفيذية لاتحاد سيدات الأعمال بالجنوب، تحدثت عن تجربة الاتحاد في دعم النساء العاملات خارج الاقتصاد الرسمي، وعن حدود التمكين، والتحديات البنيوية التي تُبقي الاقتصاد النسوي في الجنوب حبيس الهامش.
من التهميش إلى الفعل... لماذا وُجد اتحاد سيدات الأعمال؟
أكدت أم السعد نور الدين أن اتحاد سيدات الأعمال بالجنوب لم ينشأ كرد فعل موسمي، بل كاستجابة لفراغ مؤسسي طويل الأمد، فالمرأة في الجنوب، بحسب قولها، ليست بحاجة إلى "إقناع" بأهمية العمل، لأنها تعمل فعلياً، لكنها بحاجة إلى أدوات تحمي هذا العمل وتمنحه فرصة الاستمرار.
يعمل الاتحاد على تعريف النساء بريادة الأعمال، وفهم آليات السوق، وكيفية الدخول إليه، إلى جانب توفير تدريبات مهنية تستند إلى واقع النساء، لا إلى نماذج جاهزة لا تراعي خصوصية الجنوب ولا هشاشة أوضاعه الاقتصادية. مؤكدة أن نشر ثقافة ريادة الأعمال بين النساء يُعد أحد أهم أهداف الاتحاد، لأنه يضع العمل النسوي في سياق اقتصادي لا خيري.
وأوضحت أن الاتحاد يركز بشكل خاص على الفئات النسائية، مثل النساء ذوات الدخل المحدود، الأرامل، المطلقات، النازحات، وهن الفئات الأكثر اعتماداً على الاقتصاد غير المرئي كمصدر وحيد للدخل.
ورغم محدودية الموارد، قدّم الاتحاد دعماً جزئياً لبعض هؤلاء النساء، سواء عبر التدريب أو الإرشاد أو التشبيك، في محاولة لكسر العزلة الاقتصادية التي تُفرض عليهن. غير أن أم السعد نور الدين تعترف بأن هذا الدعم لا يرقى إلى حجم الحاجة، في ظل غياب سياسات حكومية تُعالج الفقر كقضية بنيوية لا فردية.
شبكة سيدات الجنوب... التشبيك كأداة مقاومة
من أبرز إنجازات الاتحاد، المساهمة في تأسيس شبكة سيدات الجنوب، التي جمعت نساء من مختلف مكونات الجنوب وتخصصاته، من السياسة والاقتصاد إلى القانون والمهن الصحية والتعليمية.
وترى أم السعد نور الدين أن هذا التشبيك النسوي ليس إنجازاً تنظيمياً فقط، بل أداة مقاومة للاقتصاد غير المرئي، لأنه يخلق مساحات للتبادل والدعم، ويكسر العزلة التي تُضعف النساء اقتصادياً، خصوصاً في منطقة تعاني من التهميش الجغرافي وضعف البنية التحتية.
وتُجمع على أن المشكلة الكبرى التي تواجه المشاريع النسائية في الجنوب ليست الإنتاج، بل التسويق. فالنساء يمتلكن مهارات متوارثة، خاصة في الصناعات التقليدية، لكنهن يفتقدن قنوات الوصول إلى السوق.
وأشارت إلى أن وفرة المنتجات لا تعني بالضرورة نجاح المشاريع، طالما بقي التسويق محصوراً في الدوائر الضيقة، ودون دعم من البلديات أو الدولة، معتبرة أن تحميل النساء مسؤولية التسويق الفردي دون توفير منصات عرض هو شكل من أشكال الإقصاء غير المعلن.
التمويل الغائب والدولة المنسحبة
وأوضحت أم السعد نور الدين أن شحّ الموارد المالية يمثل تحدياً جوهرياً، سواء على مستوى تمويل المشاريع أو دعم الاتحاد نفسه. فالدعم الحكومي شبه غائب، ومساهمة القطاع الخاص محدودة، بينما يظل دعم المنظمات غير كافٍ لتغطية احتياجات النساء كافة.
وأكدت أن غياب الحكومة لا يظهر فقط في نقص التمويل، بل في غياب قواعد البيانات، ما يجعل الوصول إلى النساء الأكثر هشاشة مهمة شبه مستحيلة، ويجعل المبادرات النسوية تعمل في الظل، دون سند مؤسسي.
وتسرد أم السعد نور الدين نماذج لنساء استطعن، بدعم من الاتحاد، تحويل نشاطهن من عمل غير مستقر إلى مشاريع أكثر تنظيماً، في مجالات الصناعات التقليدية، والتجميل، والتدريب، والإعلام، والتصوير.
وأشارت إلى أن نحو 40% من المتدربات تمكنّ من إطلاق مشاريعهن، معتبرة أن هذه النسبة رغم تواضعها تعكس إمكانات كبيرة لو توفرت المتابعة والتمويل والحماية.
ماذا تحتاج النساء ما بعد التدريب؟
وأكدت أم السعد نور الدين أن النساء في الجنوب لا يحتجن فقط إلى دورات تدريبية، بل إلى منظومة دعم متكاملة تشمل التمويل، والمتابعة بعد التأسيس، والاستشارات المستمرة، لأن دخول سوق العمل محفوف بالمخاطر، خصوصاً في اقتصاد غير مستقر.
كما شددت على أهمية تنظيم معارض وبازارات محلية تتبناها البلديات، تتحول لاحقاً إلى منصات وطنية، بما يسمح للمشاريع النسائية بالخروج من الهامش إلى العلن.
وتربط أم السعد نور الدين بين استمرار الاقتصاد غير المرئي واستمرار تهميش النساء في الجنوب، مؤكدة أن الصناعات التقليدية والحِرف النسوية تمثل ثروة اقتصادية وثقافية لم تُستثمر بعد، موجهة رسالة واضحة مفادها أن تمكين المرأة لا يعني إدخالها السوق فقط، بل الاعتراف بحقها فيه، وحمايتها.
في الجنوب الليبي، لا تطلب النساء صدقة اقتصادية، بل اعترافاً، وسياسات عادلة، ومساحة للظهور، فحين يُرى عمل النساء، يصبح التمكين حقاً، لا شعاراً.