بين مطرقة التغيير وسندان القمع الجهادي السوريات تواصلن كتابة مسيرتهن

لم يكن الواقع المعيشي في سوريا سوى مرآة تعكس حجم التدهور الذي أصاب البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، ومع تولي جهاديي هيئة تحرير الشام زمام السلطة في مناطق واسعة، برزت تحديات جديدة، خاصة على صعيد الحريات الفردية وحقوق النساء.

مالفا محمد

مركز الأخبار ـ ما تواجهه النساء السوريات اليوم ليس مجرد أزمة حقوق، بل معركة وجود، فبعد سنوات من النضال، لا يمكن القبول بالعودة إلى الوراء، وعلى الرغم من القمع والتهميش، فإن صوت المرأة السورية سيبقى حاضراً، يطالب بالعدالة، ويعيد رسم ملامح مجتمع أكثر إنصافاً.

في هذا الملف سنقدم تحليلاً شاملاً للوضع السياسي والاجتماعي والحقوقي في سوريا، مع التركيز على تأثير القرارات الحكومية على النساء، وتسليط الضوء على التحديات التي تواجههن في ظل الظروف الراهنة.

 

السياق السياسي والتاريخي... من الثورة إلى التهميش

منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، شهدت البلاد تحولات سياسية كبيرة، حيث تداخلت القوى المحلية والدولية في المشهد، مما أدى إلى انقسامات عميقة في السلطة وتغيرات في السياسات الداخلية، فالصراع المسلح بين الحكومة السابقة والمعارضة، إضافة إلى التدخلات الخارجية، أدى إلى تغييرات في الهيكل السياسي، حيث أصبحت القرارات الحكومية أكثر تركيزاً على الأمن والسيطرة، والعقوبات الدولية والانهيار الاقتصادي دفعا بالأخيرة إلى اتخاذ إجراءات تقشفية، أثرت بشكل خاص على الفئات الأكثر ضعفاً.

كانت المرأة السورية، ولا تزال، من أبرز رموز النضال من أجل الحرية والكرامة، فقد شاركت في التظاهرات، أدارت المبادرات، ودفعت ثمناً باهظاً من أجل مستقبل أكثر عدلاً، إلا أن القرارات التي اتخذها جهاديي هيئة تحرير الشام بعد سيطرتهم على الحكم، حملت في طياتها إشارات مقلقة حول مستقبل النساء في سوريا.

ورغم الخطاب الرسمي الذي يدّعي إلى احترام الحريات، إلا أن الواقع يعكس استمرار السياسات التمييزية ويكشف عن محاولات ممنهجة لإعادة رسم دور المرأة وحدود تفاعلها في المجتمع، من فرض قيود على اللباس، إلى تغييب النساء عن المناصب العامة، مروراً بخطاب ديني متشدد يعيد إنتاج مفاهيم الإقصاء والتبعية.

 

صوت النساء لا يُقمع

في سوريا، لم يكن صوت النساء يوماً غائباً، بل كان حاضراً في الهامش، في الحكايات المنسية، في الأمهات اللواتي دفنّ أبناءهن بصمت، وفي الناجيات اللواتي تروين ما لا يُروى، لكن هذا الصوت وإن لم يُقمع تماماً، فقد خضع لمحاولات مستمرة لإعادة تشكيله وتطويعه، أو توظيفه في خدمة سرديات السلطة، سواءً كانت سلطة الدولة، أو المعارضة، أو حتى المجتمع الأبوي.

وتؤكد النساء أن أي مشروع للتعافي المبكر لا يمكن أن ينجح دون أن يُبنى على أصواتهن، على معاناتهن، وعلى رؤيتهن للعدالة، فالتعافي ليس فقط إعادة إعمار الحجر، بل إعادة الاعتبار للكرامة، للعدالة، وللحق في أن تُسمَع النساء لا كمجرد ضحايا، بل كصاحبات رأي وموقف، صوت النساء في سوريا لا يُقمع لأنه ببساطة لا يموت، قد يُحاصر، يُشوَّه، يُهمَّش، لكنه يعود دائماً، أكثر وعياً، أكثر جرأة، وأكثر قدرة على مساءلة كل ما ظُنّ أنه ثابت.

 

القوانين الشرعية غطاء ديني لإقصاء النساء

رغم الجهود المبذولة لتمكين المرأة سياسياً، لا تزال هناك فجوة بين الخطاب الرسمي والواقع، حيث تواجه النساء قيوداً قانونية واجتماعية تحد من مشاركتهن الفاعلة في صنع القرار، فهيئة تحرير الشام الجهادية تُصدر قرارات تستند إلى تفسيرات متشددة، تُقيد حركة النساء، وتمنعهن من العمل في مجالات كثيرة، وتفرض عليهن نمطاً معيناً من اللباس والسلوكيات، هذه القوانين لا تُناقش، ولا تُعرض على هيئات مدنية، بل تُفرض من قبل "مكاتب شرعية" يهيمن عليها رجال، دون تمثيل نسائي يُذكر.

النساء اللواتي كنّ في الصفوف الأمامية للثورة، وجدن أنفسهن اليوم محاصرات بالخوف، مراقبات في تفاصيل حياتهن اليومية، وهذا التحول من الفاعلية إلى الصمت القسري يُحدث شرخاً داخلياً عميقاً، ويُشعر كثيرات بالخيانة: خيانة الحلم، وخيانة الذات.

يسعى جهاديو هيئة تحرير الشام إلى فرض هوية ثقافية أحادية، تُقصي كل ما لا يتماشى مع رؤيتهم، من منع الفنون، ومراقبة الكتب، إلى إغلاق المسارح والمراكز الثقافية، هذا القمع لا يستهدف فقط حرية التعبير، بل يضرب في العمق قدرة النساء على رواية قصصهن، وعلى بناء سردية بديلة عن تلك التي تُفرض عليهن.

وقد شهدت مدن مثل دمشق وطرطوس ودرعا حملات تدعو النساء إلى ارتداء الحجاب الشرعي أو النقاب، مدفوعة بخطاب ديني انتشاري، تبنّته جهات تعتبر نفسها وصية على المجتمع، هذه الحملات لم تكن عفوية، بل نُفّذت عبر ملصقات ولافتات ومكبرات صوت تجوب الشوارع، حاملة عبارات مثل "الحجاب فطرتك" و"اللباس الشرعي فرض لا خيار".

وعلى خلفية هذه التغيرات، صدرت عن الحكومة المؤقتة، التي يقودها أحمد الشرع "الجولاني"، سلسلة من القرارات والتصريحات المثيرة للجدل، أبرزها إقصاء النساء من المناصب العليا، وإلغاء مواد الفلسفة والفنون من المناهج التعليمية، فضلاً عن استبعاد النساء من عملية صياغة الإعلان الدستوري لسوريا الجديدة، ومع تعيين شخصيات متورطة في قضايا عنف ضد النساء بمناصب رسمية، بدا أن النية لا تقتصر على التهميش، بل تسير نحو إعادة صياغة دور المرأة السورية بالكامل وفق رؤية دينية - سياسية أحادية.

 

القانون الغائب... لا حماية ولا مساءلة

عبارة "القانون الغائب لا حماية ولا مساءلة" تختصر مأساة مجتمعات تعيش في ظل أنظمة تتلاعب بالقانون أو تُفرغه من مضمونه، في السياق السوري تُصبح هذه العبارة أكثر من مجرد توصيف قانوني إنها تشخيص سياسي واجتماعي لحالة الانهيار المؤسساتي، حيث يتحوّل القانون من أداة للعدالة إلى أداة للزينة أو القمع الانتقائي.

ففي ظل غياب مؤسسات قضائية مستقلة، لا تملك النساء أي وسيلة للطعن في القرارات الجائرة، ولا توجد آليات واضحة لتقديم الشكاوى، ولا ضمانات لمحاكمات عادلة، بل إن بعض النساء تُعتقلن أو تُعاقبن دون محاكمة، فقط لأنهن خالفن "التوجيهات الشرعية".

رغم كل هذا، لا تزال النساء السوريات تكتبن فصلهن القادم، في السرّ أو العلن في البيت أو في الشارع، في الكلمة أو في الصمت، وتواصلن النضال لأن الحرية ليست قراراً يُمنح بل حق يُنتزع.

 

من "الحرائر" إلى "الحرائر المقموعات"... استمرارية التسمية وتحوّل المعنى

مع انطلاق الثورة السورية، برزت تسمية "الحرائر" في الخطاب الثوري والإعلامي كوسمٍ يُكرم النساء المشاركات في الحراك، لم تكن الكلمة جديدة لغوياً، فهي متجذّرة في التراث العربي وتحمل دلالات الطهر، الشرف، والكرامة، لكن في السياق الثوري، أُعيد توظيفها لتُشير إلى النساء اللواتي خرجن من صمت القهر إلى فعل المقاومة.

غير أن هذه التسمية، رغم طابعها التمجيدي، لم تكن بريئة بالكامل، فقد حمّلت النساء عبء تمثيل الشرف الجمعي، وربطت حريتهن بمفاهيم أخلاقية تقليدية، مما جعل مشاركتهن مشروطة بـ"الاحتشام" و"الرمزية"، لا بالفعل السياسي المستقل.

ومع تصاعد القمع، والاعتقالات، والانتهاكات الجسدية والنفسية بحق النساء، بدأت التسمية تتصدّع، لم تعد "الحرائر" فقط رموزاً، بل أصبحن ضحايا، وهنا ظهر التحوّل من تمجيدٍ رمزي إلى توصيفٍ واقعي، "الحرائر المقموعات" ليست مجرد تسمية، بل اعتراف ضمني بأن الحرية التي وُعدت بها النساء لم تتحقق، وأن القمع لم يأتِ فقط من النظام، بل أحياناً من داخل البنى الثورية ذاتها.

واللافت أن التسمية لم تختفِ، بل استمرّت، لكنها تحوّلت من شعار تعبوي إلى مرآة تعكس التناقضات، فـ "الحرائر" اليوم يُستخدمن في خطابات سياسية تُطالب بالعدالة، لكن دون أن تُمنح النساء فعلياً موقعاً في القرار أو الحماية من الانتهاك، وهنا تكمن المفارقة؛ التسمية باقية، لكن المعنى تغيّر، بل انقلب على نفسه.

هذا التحوّل في التسمية يُظهر كيف أن اللغة ليست محايدة، فهي إما أن تُحرّر، أو تُعيد إنتاج القمع، والمقاربة النسوية هنا ضرورية لفهم كيف تُستخدم الكلمات لتجميل الإقصاء، أو لتبرير الصمت، أو أحياناً لتفريغ الفعل النسوي من مضمونه.

ففي المظاهرات الأخيرة ضد جهاديي هيئة تحرير الشام، رُفع شعار "الفزعة للحرائر" هو مصطلح تاريخي يُستخدم للإشارة إلى النساء "المقاومات"، وهذا يعكس استمرارية رمزية المرأة في الخطاب السياسي، لكن مع تحوّل المعنى من رمز "للكرامة" إلى ضحية تُستدعى لنصرتها"، وفي الأدب النسائي القديم كانت "الحرائر" تكتبن عن الحرية، أما اليوم تُطالبن بها من جديد.

في ظل غياب مؤسسات توثق معاناة النساء تحت حكم الجماعات المتشددة، يصبح الأدب النسائي المعاصر امتداداً لذاكرة نساء كتبن في الماضي عن السجون، النفي، والحرمان، يمكن الربط بين ما كتبته وداد سكاكيني أو نازك الملائكة عن القهر الاجتماعي، وبين ما تكتبه اليوم نساء من إدلب أو حلب عن الحجاب القسري، الاعتقال، أو فقدان الحلم.

كانت معركة النساء السوريات خلال الأزمة وما تلاها أكثر من مجرد مواجهة لنظام مستبد، فقد خضن صراعاً يومياً ضد الطوق الذكوري الذي حاول تقييدهن، سواءً في ساحات المظاهرات أو في فضاءات العمل السياسي والمدني.

هذا الطوق تجلى في عدة أشكال، منها إحاطة المتظاهرات بالرجال لحمايتهن من التحرش أو تسهيل هروبهن عند اقتحام قوات الأمن، وهو ما رفضته الكثير من النساء، معتبرات أنه يكرس الوصاية عليهن وكأن وجودهن مشروط بحماية الذكور، رفضن الوقوف في الخلف خلال المظاهرات وأصررن على التواجد في الصفوف الأمامية، مؤكّدات أنهن شريكات كاملات في النضال، لا تطلبن الإذن ولا تقبلن التقييد.

كما امتد هذا الطوق إلى العمل المدني، حيث خضعت الكثير من المبادرات النسوية لإملاءات الممولين والأجندات الدولية التي حاولت إبعاد النساء عن الواقع السياسي أو تحويلهن إلى رموز شكلية تستخدم عند الحاجة، في بعض اللقاءات، طُلب منهن التركيز فقط على القضايا الإنسانية دون الخوض في الحديث عن الاستبداد والانتهاكات المستمرة، وكأن دورهن يقتصر على الوساطة بدل المشاركة الفعلية.

وبينما يتعقد المشهد السياسي السوري بعد الثورة، فلم تعد تقتصر محاولات تقييد النساء على ساحات المظاهرات والمجتمع المدني، بل امتدت إلى ميدان السياسة والمفاوضات، حيث فُرض عليهن شكل جديد من "الطوق"، تجبرهن على الظهور ككيان موحد بلا اختلافات، بهدف تقديم صورة نمطية عن المرأة السورية، بعيداً عن تنوع آرائها وانتماءاتها.

ورغم محاولات التهميش، لم تتوقف السوريات عن مواجهة هذه القيود، فقد أصرين على أن تكن جزءاً من الحراك السياسي والمجتمعي، دون السماح بإقصائهن تحت أي ذريعة، سواء كانت حماية ظاهرية. في النهاية يبدو أن كل محاولات تقييد المرأة في الثورة والمجتمع المدني لم تكن إلا انعكاساً لمنظومة تسعى إلى الحد من تأثيرهن، لكن استمرارهن في رفض هذه القيود والبحث عن دور مستقل في صنع القرار يعكس إصراراً على إعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي بطريقة أكثر عدلاً وإنصافاً.

 

الاقتصاد أداة قمع بين فقر متجذر وأملٌ هش

في سوريا، كما في كثير من السياقات المتأزمة، لا يُقاس الفقر فقط بانخفاض الدخل، بل بتراكم الحرمان عبر أجيال، المرأة، في هذا السياق، ليست فقط متلقية للضرر، بل تُحمل عبء النجاة في ظل اقتصاد منهار، وغياب سياسات حماية، وتقاليد تقيد حركتها الاقتصادية والاجتماعية.

المرأة التي تُعيل أسرة في ظل النزوح، أو تلك التي تُجبر على العمل غير النظامي بأجر زهيد، أو التي تُمنع من التعليم بحجة "الظروف" كلهن تواجهن اقتصاداً لا يُنصف، بل يُقمع، فحين تُحرم النساء من الوصول إلى الموارد، أو من التملك، أو من القروض، فإن الاقتصاد يتحوّل إلى أداة ضبط اجتماعي.

ويعاني السوريون اليوم من تدهور حاد في مستوى المعيشة، حيث ارتفعت أسعار المواد الأساسية بشكل جنوني، وتراجعت فرص العمل، وسط غياب شبه تام للخدمات العامة، هذا الانهيار الاقتصادي لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات في ظل الأزمة، العقوبات، وسوء الإدارة، ومع ذلك، فإن ما زاد الطين بلة هو غياب رؤية اقتصادية واضحة لدى جهاديي هيئة تحرير الشام التي تفتقر كوادرها إلى الخبرة في إدارة مجتمع متنوع ومعقد.

ففي مناطق سيطرتها، لا يقتصر الانهيار الاقتصادي على كونه نتيجة للحرب، بل أصبح وسيلة للضبط الاجتماعي، تُستخدم المساعدات بشكل انتقائي وتُربط أحياناً بالولاء الأيديولوجي أو الالتزام بالمعايير المفروضة، خاصةً على النساء، فمثلاً تُمنع بعض النساء من الحصول على المساعدات إذا لم تلتزمن باللباس المفروض أو لم يكنّ تحت وصاية ذكر.

 

النساء وقود لصراعات لا ناقة لهن فيها ولا جمل

في النزاعات الطائفية، تُستدعى الهويات الدينية والمذهبية لا لتأكيد التنوع، بل لتبرير الإقصاء والعنف، وغالباً ما تُستخدم أجساد النساء كوسائل "تأديب جماعي" من خلال الاغتصاب، الزواج القسري، أو فرض أنماط لباس وسلوك محدد.

المقاربة النسوية هنا ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة سياسية، فهي تُعيد للمرأة فردانيتها، وتُفكّك الخطابات التي تُحوّلها إلى رمز أو ضحية صامتة، كما تُظهر كيف أن الطائفية لا تُهدد فقط السلم الأهلي، بل تُعيد إنتاج البنى الأبوية بأكثر أشكالها عنفاً.

حين تشتد نذر الحرب الطائفية، يصبح من الضروري أن نُعيد التفكير في أدواتنا التحليلية، لا يكفي أن نُدين العنف، بل علينا أن نتساءل كيف يُبنى، ومن يخدم، ولماذا تكون المرأة دائماً في مرماه، فربما تكون الحرب على الأبواب، وهل الوعي النسوي قادر على فتح نوافذ للنجاة؟

الاقتتال الطائفي في سوريا لم يكن مجرد نتيجة للصراع السياسي، بل تحول إلى "أداة للاستبداد"، حيث استخدمته أطراف النزاع لتفتيت المجتمع وإعادة ترتيب موازين القوى، والنساء كنّ من أكثر الفئات تضرراً، إذ تعرضن للعنف المباشر مثل "القتل والاغتصاب" إضافة إلى الاستعباد الاقتصادي والاجتماعي، مما جعلهن وقوداً لصراعات لا ناقة لهن فيها ولا جمل.

في سياق المشهد السوري المتشابك، تبرز الحاجة إلى فهم أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، سواءً كان علمانياً أو إسلامياً، فكل الأفكار والنماذج المطروحة للحكم وإدارة الدولة ليست سوى اجتهادات بشرية، نسبية الصواب، تفتقر إلى التجربة الفعلية، وهو ما يتطلب التواضع في الطرح والانفتاح على الحوار.

وفي ظل محدودية المعرفة والخبرة لدى الجميع، يصبح التسامح مع الآخر وتقديم الفرصة الكافية لاختبار الأفكار المختلفة أمراً بالغ الأهمية، بل لا مفر منه، لذلك لا ينبغي أن يكون التأثير على المناهج الفكرية والسياسية قائماً على الإقصاء، بل على المنافسة الحضارية والقانونية التي تتيح النقد البنّاء والتطوير المستمر.

وبذلك، لا يحق لأي طرف الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة أو فرض وصايته على الشعب، فقبول الآخر شرط أساسي للعمل السياسي التعددي، وأي محاولة لنفيه تعني إعادة إنتاج الاستبداد بصيغة جديدة، فالمطلوب بناء نظام مدني تعددي لا مركزي، تضمن الحريات وتكفل الحقوق لجميع المواطنين بصفتهم أفراداً، والانزلاق لتصادم السياسي أو عسكري يعني الفشل الحتمي، والاعتماد على القوة الداخلية أو الاستقواء بالخارج يحمل مخاطر كبيرة، وبذلك تقف القوى السياسية والاجتماعية في سوريا أمام اختباراً تاريخياً، إما أن تقدّم مصلحة البلاد والشعب وتدفع باتجاه النجاح، أو أن تكرّس المصالح الضيقة وتضيّع الفرصة التاريخية.

 

النساء في قلب العاصفة

فالطائفية في سوريا ليست مجرد انقسام اجتماعي، بل أداة تستخدمها القوى المسيطرة لإعادة توزيع النفوذ على حساب الفئات الأكثر هشاشة، وعلى رأسها النساء، حيث شكلت وسيلة لقمعهن وإبقائهن تحت وطأة الفوضى والاستغلال، ففي ظل النزاعات المستمرة، تعرضت النساء من مختلف الطوائف لانتهاكات جسيمة، من التهجير القسري إلى عنف مباشر واستغلال اقتصادي واجتماعي، فعلى سبيل المثال، النساء العلويات اللواتي نزحن إلى إقليم شمال وشرق سوريا واجهن خطر الإبادة الطائفية، حيث تعرضن لحملات مداهمة واعتقالات تعسفية، بالإضافة إلى فقدان الأمن والاستقرار في مناطقهن.

كما وثقت تقارير حقوقية حالات اختطاف ممنهجة استهدفت نساء علويات، حيث جرى تسليم بعضهن إلى مقاتلين أجانب، بعض من هؤلاء الفتيات المختطفات لا يزال مصيرهن مجهولاً، في حالات عديدة، ظهرت المختطفات في تسجيلات نُشرت عبر منصات غير رسمية، ينفين تعرضهن لسوء المعاملة، في مشهد أثار جدلاً واسعاً حول مدى تعرضهن لضغوط نفسية أو تهديدات قسرية، في هذا السياق القاتم، برزت أسماء مثل نغم شادي وزينب غدير وعبير سليمان، كرموز لقضية الاختفاء القسري التي طالت نساء علويات لم يكن لهن دور سياسي، إنما وقعن ضحايا لهويتهن الطائفية فقط، وبحسب تقارير رسمية ما لا يقل عن 33 امرأة وفتاة من الطائفة العلوية تتراوح أعمارهن بين 16 و39 عاماً تعرضن وفقا لأسرهن للخطف أو الاختفاء هذا العام في ظل الاضطرابات التي أعقبت سقوط النظام.

كما شهدت قرى في ريف حمص مثل "جبلايا" و "الحطانية" التابعة لبانياس تهديدات مباشرة من مجموعات مسلحة، طالبت الأهالي بدفع مبالغ مالية ضخمة مقابل عدم اقتحام قراهم، مع التلويح بارتكاب مجازر جماعية، هذه الممارسات دفعت الكثيرين للنزوح القسري، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أسوأ فصول الحرب.

وفي الساحل السوري، خاصة في جبال اللاذقية وبانياس وجبلة، وثّقت تقارير حقوقية مقتل مئات المدنيين، معظمهم من الطائفة العلوية، في عمليات تصفية ميدانية على خلفيات طائفية، ترافقت مع اختفاءات قسرية، وحرق للمنازل، ونهب للممتلكات، هذه الانتهاكات، التي وُصفت بأنها "حملة تطهير عرقي ممنهجة"، تُظهر أن العنف لم يكن عشوائياً، بل موجهاً ومقصوداً.

في هذه المناطق، كما في إدلب، لم تكن النساء بمنأى عن الاستهداف، بل كثيراً ما كنّ في قلب الانتهاكات، من الخطف، إلى الاغتصاب، إلى التهجير القسري، لكن ما يزيد من فداحة الأمر هو الصمت المضاعف؛ صمت الإعلام، وصمت المجتمع، وصمت القانون الغائب.

في خطاب هيئة تحرير الشام الجهادية، تُختزل المرأة إلى "عرض" يجب حمايته، أو "فتنة" يجب ضبطها، هذا الخطاب لا يترك مجالاً للنساء لتكنّ فاعلات، بل يُحوّلهن إلى رموز تُستخدم لتثبيت السلطة الأخلاقية للجماعة، أما النساء من الأقليات، فغالباً ما يُنظر إليهن كـ "خطر ثقافي"، يجب تهميشه أو محوه.

لذلك، فإن الحل لا يكمن في مجرد تغيير الحكام، بل في بناء تحالف قوي بين القوى النسوية والعمالية والفئات المهمشة لمواجهة مشاريع الطائفية والاستبداد، والسعي نحو مجتمع قائم على العدالة والمساواة، ففي ظل هذا الواقع، تُصبح المقاربة النسوية ضرورة تحليلية وأخلاقية. فهي لا تكتفي برصد الانتهاكات، بل تحولهن إلى أدوات أو ضحايا صامتات، فالإيزيدية، والدرزية، والسريانية، والعلوية، لسن فقط "نساء أقليات"، بل حاملات لذاكرة، وهوية، ومقاومة، تستحق أن تروى وتصان.

 

سبل تحسين الوضع والنهوض بواقع النساء

في ظل كل ما يمر به الشعب السوري بكافة مكوناته، مع دخوله مرحلة جديدة، يجب أن يكون هناك إصلاح قانوني شامل، أي يجب تعديل قوانين الأحوال الشخصية بما يضمن المساواة، وأن يكون هناك تمكين سياسي حقيقي، وعلى رأسها تطبيق نظام كوتا نسائية يضمن تمثيلاً فعلياً للنساء في البرلمان والهيئات الدستورية.

إلى جانب ما سبق، يجب دعم القيادات النسائية والنهوض بواقعهن من خلال برامج تدريب وتأهيل سياسي، وتوفير الحماية القانونية للناشطات، إلى جانب تعزيز الحماية من العنف وإنشاء مراكز حماية ودعم نفسي وقانوني للنساء المعنفات، وسن قوانين واضحة تجرم العنف الأسري والجنسي، وتفعل آليات الإبلاغ والمحاسبة.

خلاصة الأمر، رغم بعض التعديلات الشكلية، لا تزال البيئة القانونية في سوريا تكرس التمييز ضد النساء، سواءً عبر القوانين أو من خلال غياب الإرادة السياسية لتغييرها، فالإصلاح الحقيقي يتطلب مراجعة شاملة للتشريعات وإشراك النساء في صياغة الدستور والسياسات، وبناء منظومة قضائية تحمي النساء وتضمن العدالة.

ويبقى مستقبل المرأة في سوريا معلقاً على تطورات الصراع والموقف الدولي من وجود سلطات أمر واقع تفرض قيوداً تتنافى مع حقوق الإنسان، إن استمرار هذا الواقع يُنذر بجيل كامل من النساء المحرومات من أبسط حقوقهن في الحرية والتعليم والكرامة.

 

نافذة على مستقبل ممكن... تجربة إقليم شمال وشرق سوريا

مقابل كل ما شهدته سوريا برز نموذج آخر في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، تحديداً في إقليم شمال وشرق سوريا، حيث سعت المجتمعات المحلية إلى تقديم بديل مدني تعددي يقوم على مبادئ الديمقراطية، واللامركزية، والمساواة. فعلى هذا الطرف من الخريطة، وفي تجربة وُلدت من رحم المعاناة، اختار المجتمع أن يسلك طريقاً مختلفاً. ففي ظل غياب الدولة المركزية، نشأت هياكل نظام جديدة تستند إلى فكرة الإدارة الذاتية، وأُنشئت مجالس محلية تمثّل كافة المكونات من كرد وعرب وسريان وآشوريين، وشاركت النساء فيها بشكل فعلي، بل وتولّين مناصب قيادية في ظل نظام الرئاسة المشتركة، الذي يفرض أن يكون لكل موقع قيادي رجل وامرأة على قدم المساواة.

التجربة النسوية في هذه المنطقة لم تكن تكميلية، بل جوهرية. فقد تشكّلت مؤسسات نسائية فاعلة مثل "مؤتمر ستار"، وسُنّت قوانين تُجرّم العنف ضد المرأة وزواج القاصرات، ما جعل هذه المنطقة استثناءً في خريطة قمع المرأة في سوريا، واستطاعت النساء هناك الدفاع عن حقوقهن ليس فقط في ساحات السياسة، بل حتى في الميدان، من خلال انضمامهن إلى وحدات حماية المرأة، مما أكسب نضالهن بُعداً رمزياً وميدانياً في آن.

هذا التمايز لم يقتصر على البنية السياسية والاجتماعية، بل طال أيضاً المشهد الثقافي. ففي الوقت الذي تُغلق فيه المسارح وتُراقب الكتب في بعض المناطق الأخرى، تحول الإقليم إلى مساحة مفتوحة للإبداع والتعدد هناك حيث تُقام المهرجانات السينمائية وتُبعث الحياة في اللغات المهمشة، تستعيد المجتمعات أصواتها، وتعيد نسج سرديتها بعيداً عن الترويج لقيم الإقصاء والطاعة العمياء.

ولعل المفارقة الأعمق تكمن في نظرة كل من النموذجين للصراع ذاته، ففي حين يتم تأطير النزاع من منظور ديني طائفي في أماكن سيطرة الجهاديين، حيث تُستهدف النساء بشكل مباشر عبر العنف والوصاية القسرية، تتبنّى الإدارة الذاتية خطاباً مدنياً جامعاً، يُعلي من شأن "الأمة الديمقراطية"، وهي فكرة تتجاوز الحدود الدينية والقومية لتؤمن بالتنوع بوصفه ثروة لا تهديداً.

في المجمل، يقدم إقليم شمال وشرق سوريا مقاربة مغايرة للحكم، تُراهن على الإنسان كفرد حر، لا كرمز سياسي أو ديني، وعلى المرأة كشريك حقيقي في بناء السلام والمجتمع، لا كحاملة شرف أو ضحية دائمة، وبينما تغيب العدالة في كثير من أنحاء سوريا، تظل هذه التجربة نافذةً صغيرة على المستقبل، إن أُعطي لها الوقت والفرصة والاعتراف.