من الحجاب الأسود إلى الوشاح الأحمر

غلافيز أورين

تعود جذور هيمنة المرأة واستعباد المجتمع إلى ما يقارب 30 ألف عام، حيث تظهر بوضوح الفجوات العميقة بين البنى الاجتماعية القائمة وواقعها الوجودي، ورغم تنوع أساليب السيطرة وتبدل أشكالها عبر العصور، إلا أن جوهرها ظل ثابتاً، يفرض نفسه يومياً على عقل المرأة وروحها وجسدها. وشهدت الأماكن التي بدأت فيها أولى خطوات التنشئة الاجتماعية صراعاً طويلاً بين نمط الحياة الجماعية ونشوء حضارة الدولة، صراعاً يُعد من الأطول في تاريخ البشرية، هذه الجغرافيا التي نعيش فيها كانت ولا تزال مسرحاً لهذا الكفاح الممتد.

إن الخوف الذي يعتري رجال الدولة من اتساع نطاق الحياة الاجتماعية المرتبطة بالمرأة، يتجلى اليوم بوضوح أكبر، خاصة عند الربط بين هذا الخوف والرمزية الكامنة في البحث عن "نبتة الخلود" في ملحمة جلجامش، وقد انطلق القائد عبد الله أوجلان من هذا التساؤل ليؤسس نظريته الاجتماعية، متسائلًا لماذا لم يدرك علماء الاجتماع والمؤرخون هذه الحقيقة العميقة؟ ولماذا لم يُبدوا أي اهتمام حقيقي لفهمها؟.

 

الجذور التاريخية لهيمنة المرأة

في ملحمة جلجامش، يتجلى سعي الإنسان نحو الخلود كاستجابة مباشرة لخوفه من الموت، وهو خوف وجودي عميق يلازم جلجامش طوال رحلته، هذا السعي لا يعكس فقط رغبة في تجاوز الفناء، بل يكشف عن رفض للضعف الإنساني والانتماء إلى دورة الحياة الطبيعية التي تمثلها المرأة الأم والمجتمع الجماعي.

اعتبر الإنسان المتسلط نمو المجتمع حول النساء تهديداً له، لأن هذا النمو يرتكز على قيم الرعاية والتكافل والتشاركية، وهي قيم تتناقض مع النظام الذكوري القائم على السيطرة والتفرد، المرأة بوصفها رمزاً للخصوبة والديمومة، تمثل سلطة طبيعية لا يمكن إخضاعها، مما يجعلها مصدر قلق دائم للعقلية الذكورية التي تسعى إلى الهيمنة.

التنشئة الاجتماعية، في هذا السياق، لا تُعد خطراً حقيقياً على حرية الفرد المتسلط، فهي تفرض عليه الاندماج في الجماعة والتخلي عن امتيازاته، والاعتراف بالمساواة، وهي أمور تتعارض مع طموحه في التفرد والسيطرة، لذلك يفضّل العقل الذكوري عقلية أنانية تنظر إلى المجتمع من منظور هرمي، حيث يكون الفرد الأعلى في موقع القرار، رافضاً النموذج الجماعي الذي يهدد سلطته، هذا التوتر بين الفردانية والجماعية، بين الذكورة والأنوثة الرمزية، وبين السعي للخلود والقبول بالموت، يشكل جوهر الصراع في ملحمة جلجامش، ويعكس صراعاً أوسع في التاريخ الإنساني بين السلطة والرعاية، بين السيطرة والانتماء.

في أسطورة مردوخ- تيامات، تُناقش الضربة القاتلة التي وجهها مردوخ (الإله الذكر) إلى تيامات (الإلهة) تُوجه الضربة الأولى إلى رأس المرأة، مع هذه الأسطورة يُرفع الحجاب عن وجه هذه الحقيقة، والسبب وراء محاولة الرجل إضفاء الطابع المؤسسي على سلطته وإدامتها هو مرة أخرى الخوف من مجتمع تُدار فيه أفكار المرأة بعبارة أخرى، الخوف من العقلية الديمقراطية لمجتمع المرأة الأم إن الخوف من التفكير الجماعي ليس قضية بسيطة ففي جذر الصراع والنضال بين النساء والرجال، والذي استمر لآلاف السنين ولا يزال مستمراً، يكمن خوف الرجل الموجه نحو السلطة من التفكير الديمقراطي والمجتمعي للمرأة، لقمع هذا الخوف الذي لا معنى له، استخدم الرجل ولا يزال يستخدم أساليب مختلفة وماكرة، من خلال اللجوء إلى القوة، حولها إلى قانون مطلق.

 

من بيوت الدعارة إلى البلاط الملكي

إن قتل النساء بأدوات مثل السكاكين والسيوف له تاريخ يمتد لآلاف السنين، وكانت الضربة الأولى التي تلقتها المرأة هي نفس هذه الأدوات ومن المدهش والمؤسف أن نفس الأساليب لا تزال مستمرة حتى اليوم، لقد تم إضفاء الطابع المؤسسي على ذاكرة الرجال وعقلانيتهم ​​على أساس كراهية النساء، لقد اعتبروا أي تقدم فيما يتعلق بالمرأة والأمهات تهديداً خطيراً لبقائهم، لم تكن هيمنة الرجال على النساء أحادية البعد، فعلى مر التاريخ أضفى الرجل القوي الشرعية على جميع سلوكياته المعادية للنساء وعزز أسسها بطرق مختلفة، من مسقطات مصر (أول بيت دعارة استعبدت فيه النساء) إلى القصور والمحاكم لم يتضرر فكر المرأة وتفكيرها فحسب بل تم وضع جسدها تحت سيطرته.

كما ذكر القائد عبد الله أوجلان، دخلت النساء المعابد كآلهة، وغادرنها كعاهرات فقدن قيمهن، كلما تعمقت النظرة السائدة واستراتيجيات الرجل المتسلط أصبحت المرأة وجميع القيم المقدسة للمجتمع الشعبي مملوكةً ومُباعةً الرجل الذي سيطر على روح المرأة وعقلها وجسدها يعتبر نفسه إلهاً خلقها وهو مالكها الأصلي، لدرجة أنه يستطيع أن يصرخ قائلاً "أنا أملككِ، لدي القدرة على خلقكِ وقتلكِ متى شئت" إن ترسيخ هذه العقلية يُغير مجرى التاريخ، والبشرية في انحدارٍ مُدمرٍ تفقد فيه معظم قيمها.

في كل حقبة من التاريخ، يسلك مساره الانحداري بطريقة مختلفة، ولكن بنفس المضمون يعتبر الرجل - الدولة نفسه مالك الأرض والزمان، والخلود والكون بأسره، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال لماذا يخشى الرجل من امتلاك المرأة لجسده؟ فهو يعتبر فقدان السيطرة على جسد المرأة خطراً عليه، وبينما خُلق الرجل نفسه من جسد المرأة نفسها فإن الوضع معكوس وغريب قائم على هذه الحقائق، إن غيرة الرجل في هذه الحالة واحتقاره لجسد المرأة لهما جذور تاريخية، فجسد المرأة يخلق وعقلها يدير المجتمع ويغذيه، وأمام هذه السمة الفطرية للمرأة، يرى الرجل المتسلط نفسه ضعيفاً وصغيراً وهذه الروح تدفعه إلى اتخاذ موقف دفاعي والوقوف في موقف عدواني ضد مكانة المرأة، وارتكاب التدمير والقتل، هذا ليس دليل قوة بل على العكس إنه أعظم نقاط الضعف.

سؤال آخر هو لماذا تخشى الدولة الذكورية شعر المرأة؟ هذه نقطة تحتاج إلى تحليل وتقييم متعمق، لا شك أن جسد المرأة بأكمله قد استُعبد واستُغل، ورغم أننا نتحدث رمزياً عن شعر المرأة، إلا أن ما تخشاه الدولة الذكورية هو أفكار المرأة، بمعنى آخر تُثير أفكار المرأة وخواطرها الخوف في الدولة وفي الرجال ذوي النفوذ، وكما ورد في مثال أسطورة مردوخ وتيامات، فإن جسد تيامات (المرأة)، وخاصة رأسها وقلبها ورحمها، مُصابٌ بمردوخ (الرجل) تروي هذه الأسطورة في جوهرها خوف الرجل من أفكار المرأة ومشاعرها، بالإضافة إلى خوفه من خصوبة المرأة وطاقتها الديناميكية.

هنا، يمكننا ذكر مثال أوضح وهو "الحجاب" الذي تُغطّى به النساء سواءً مع ترسيخ الدولة، الذي نصادفه منذ عهد السومريين أو في الديانات التوحيدية، كان حجاب المرأة الشغل الشاغل للرجل القوي والمخادع، في اليهودية، هناك مثال أكثر إثارة للاهتمام، النساء اللواتي استُخدمن كعبيد في القصور ارتدين حجاباً وأقنعة لتمييز أنفسهن عن غيرهن من النساء، الحجاب الأسود تحديداً رمزٌ استمر من تلك الحقبة إلى يومنا هذا، هبةٌ مشؤومةٌ لجميع النساء الحقيقة هي أن الحجاب والغطاء المفروض على النساء ينطويان على قتلٍ وتقييدٍ خفيّين والسبب هو اعتبار النساء كائناتٍ آثمةٍ بطبيعتهن وفاعلاتٍ للخطيئة.

وقد كان لهذا آثارٌ مدمرةٌ عليهن لدرجة أنهن ما زلن تعتبرن آثماتٍ ومجرماتٍ بطرقٍ مختلفة، ولهذا السبب يُعتبر قتل النساء يومياً حتى اليوم أمراً مشروعاً وطبيعياً، إن الأزمة النفسية لرجل الدولة وخوفه دفعاه إلى اعتبار الآخرين مذنبين سواه، واعتبار نفسه صاحب الحق في إخضاع النساء بل وقتلهن إن شاء، ومن الأمثلة الواضحة على هذا الوضع الطريقة الشنيعة لحرق النساء أحياءً في أوروبا في العصور الوسطى تحت مسمى "مطاردة الساحرات"، بدأت مرحلة مظلمة تركت أثراً بالغاً على المجتمع الأوروبي، لدرجة أن استعباد المرأة وتسليعها في النظام الرأسمالي المعاصر له جذوره في تلك الحقبة، فبسبب الهيمنة الأبوية والتصنيفات التي أُلصقت بهوية المرأة أصبحت حياتها جحيماً، كل لحظة فيه تشتعل في لهيبه جحيمٌ هو نتاج سيطرة الرجل القاسي وخوفه.

كل نظام استبدادي، وفقاً لقواعده ومعاييره الخاصة، يُضعف أولاً "المرأة الخاطئة والخاطئة" التي تُعتبر خطرة من أجل استعباد النساء، ولذلك فإن شعار الدولة الذكورية لاستعباد المجتمع هو استهداف النساء أولاً، جميع القوى والملوك والأباطرة ورجال الدولة أضروا بالمرأة قبل أي شيء آخر، وبهذا الشعار حققوا رغباتهم إن إساءة معاملة النساء من أجل السيطرة المطلقة على المجتمع هو أعظم مآثر الرجل القوي والماكر، من العلم إلى القانون ومن الفن إلى السياسة، جميع مجالات حياة المجتمع مُنظّمة ضد المرأة، وليس من الخطأ القول إن جميع المجالات الاجتماعية قد استولى عليها الرجال وحُرمت النساء من كل شيء، في جوهر الأمر تم رفضهن من المجتمع.

إن الصراع القديم بين الرجال والنساء له جذوره في احتكار الرجال وسيطرتهم، رجال نظموا أنفسهم خارج مجتمع المرأة الأم، وهاجموا القيم التي كانت نتيجة معاناة وجهد المرأة الأم والمجتمع الجماعي، جميع المشاكل الاجتماعية العميقة من النزاعات العائلية إلى ساحات المعارك الكبرى التي فقد فيها آلاف بل ملايين لأرواحهم، تتجذر في هذه الاختلافات العميقة بين الرجال والنساء إن مقاومة النساء لنظام القتل والذبح هذا دفعت المجتمع إلى مقاومة الظالمين وحضارة الدولة، بقدر ما استطاعت النساء النضال استطاعت المجتمعات الدفاع عن نفسها والوقوف على قدميها، ولكسر مقاومة النساء لجأ النظام الأبوي إلى جميع أشكال العنف، وهناك أمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في بضع فقرات، النقطة الأساسية هي أنه في منطق كل دولة وسلطة هناك إساءة معاملة للنساء تتماشى مع مصالح النظام الأبوي، كل من اضطهد النساء علانية وبقسوة شديدة ومن تظاهر بالعدالة والتحرر من السلوك المعادي للنساء، استغل وجود النساء لمصالحه الخاصة، أما النساء اللواتي تصرفن ضد مصالح الرجل - الدولة حُكم عليهن بالإعدام، لهذا السبب يُذكّر القائد عبد الله أوجلان مراراً وتكراراً في أعماله وكتاباته بأن تقديس وانتشار ظواهر مثل "الدولة والسلطة والحرب والنهب" يكمن في إضعاف المرأة والتاريخ، القديم والحديث، حافل بالدروس المستفادة في هذا الصدد.

تحتل أرض إيران مكانة بارزة في التاريخ في مجالات الثقافة والفن والفلسفة والعلوم، وقد شهدت العديد من الإنجازات المبكرة للبشرية، لذلك يلفت انتباهنا بطبيعة الحال الثقافة الغنية للنساء الأمهات في هذه الجغرافيا المباركة، وبينما شهدت هذه الأرض التحريض على الحرب والاحتلال وطغيان العديد من الأنظمة الحكومية، فقد شهدت مقاومة ونضالات المجتمع الطائفي، وعلى مر التاريخ خاضت المجتمعات الطائفية في إيران نضالات ملهمة وجديرة بالثناء لحماية هويتها وجوهرها الديمقراطي، وعندما نتحدث عن إيران فإن "ميثرا" إله النور والعهد، و"أناهيتا" إلهة المياه يتبادران إلى الذهن أولاً وقبل كل شيء، نعم نعرف إيران من خلال آلهتها نعرفها من خلال نضال ومقاومة مجتمعاتها الطائفية، إنه لأمر مؤسف للغاية أنه في مثل هذه الأرض كانت النساء هن من وقعن ضحية لهيمنة الذكور أكثر من أي شخص آخر، حيث وقفت النساء في أرضهن كانت هناك حروب قاسية ضد النساء والمجتمع الطائفي، عقلية الرجل المتسلط جدارٌ عالٍ ومصطنع بين المرأة والحقيقة التي ابتعدت عنها، المهم هو أن الجذور التاريخية للمجتمعات الإيرانية رغم كل الدمار والخراب لا تزال تتغذى بثقافة الإلهة والمرأة - الأم.

الديانات التوحيدية، منذ نشأتها، وجهت ضربة قوية لثقافة المرأة الأم والإلهة التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة، حيث أعلت من شأن الذكور والأنبياء الرجال، وأقصت النساء من المشهد الديني والاجتماعي، رغم أن النساء لعبن دوراُ محورياً في بناء المجتمعات التاريخية، إلا أن حضورهن في النصوص والممارسات الدينية التوحيدية كان هامشياً، وكأنهن مجرد انعكاس باهت للرجل، لا كيان مستقل.

في المقابل، الزرادشتية، التي تُعد نوعاً من الإصلاح الديني في سياق الديانة الميثراية، قدمت نموذجاً أكثر توازناً في مراحلها الأولى، قبل أن تتحول إلى ديانة رسمية للدولة، كانت الطقوس الزرادشتية تشهد مشاركة النساء والرجال معاً، حيث لعب السحرة والساحرات أدواراً متكاملة في الطقوس، ما يدل على وجود مساحة للمرأة في الحياة الروحية والاجتماعية.

الثقافة الميثراية، التي انبثقت من قلب جبال زاغروس، أثرت بعمق في الزرادشتية وفي العديد من الأديان والطوائف التي تلتها، ورغم أن هذه الثقافة ومعها رموز الآلهة القديمة، قد تراجعت بفعل الزمن والسلطات الدينية والسياسية، إلا أن آثارها لا تزال حاضرة في شخصية المرأة الإيرانية، التي تحتفظ بجذور القوة والرمزية والارتباط بالطبيعة والخصوبة.

ومن اللافت أن زرادشت نفسه لا يُنظر إليه كشخصية واحدة عاش في زمن محدد، بل هناك روايات عن ثلاثة زرادشتيين ظهروا في أماكن وأزمنة مختلفة، ما يعزز فكرة أن الزرادشتية ليست مجرد ديانة، بل تيار فكري وروحي متجدد، يحمل في طياته تأثيرات ميثراية عميقة، ويعكس صراعاً طويلاً بين الروح الجماعية والسلطة المركزية.

لطالما وقفت غالبية النساء في المجتمع الإيراني في صفوف المجتمع الحر والشعبي، وعارضن الأنظمة الإمبريالية والديكتاتورية وكن رائدات في العديد من الحركات التحررية، ولعبن دوراً في النضالات الاجتماعية، وللأسف نادراً ما تُذكر أسماؤهن، للنساء الإيرانيات تاريخٌ عريق لكن هذا التاريخ ظلّ طيّ النسيان، فالتاريخ، وخاصةً تاريخ إيران المكتوب مليءٌ بالثناء والإعجاب بشجاعة الرجال، وفي حالات نادرة جداً تُذكر النساء ففي الجزء الداخلي من قصور الملوك والبلاط، استُخدمت النساء في الغالب كأدوات جنسية، كان الشاه الإلهي يمتلك العشرات وربما المئات من الجواري وعند الحاجة كان يستخدمهن بما يتماشى مع مصالحه السياسية والعسكرية ومن البلاط الساساني إلى البلاط السلجوقي والصفوي، ومن القاجاري إلى البهلوي، لعبت النساء دوراً مهماً في تحديد سياسة البلاط، ولم يكن هناك نقص في النساء الموهوبات في المجتمع اللواتي أظهرن قدراتهن في مجالات الأدب والعلوم والموسيقى والفن وأبدعن أعمالاً قيمة.

تُشيد شاهنامه الفردوسي، أعظم ملحمة أسطورية إيرانية، بشجاعة الرجال في ساحات القتال، وباستثناءات قليلة، وضعت المرأة على هامش الأساطير والتاريخ الإيراني، يجهلون أن إنجازات المجتمع التاريخي بأسره بما في ذلك إيران لا يمكن أن تتحقق لولا وجود المرأة ومعاناتها وجهودها، كما أن انتصار وبطولة الرجال والملوك الإلهيين في ساحات القتال يرتبطان ارتباطًا مباشراً باستغلال معاناة المرأة وجهودها، ولهذا السبب ظلت هوية المرأة ومعاناتها وجهودها وإنجازاتها على هامش التاريخ، هذه هي الحقيقة المرة لتاريخنا.

خلال عهدي القاجار والبهلوي، ازداد الضغط والظلم ضد المرأة تعرضت لاضطهاد وقمع شديدين، وكان التدخل غير المحدود في حياة المرأة ومصيرها من السمات الرئيسية للنظام الإمبراطوري والمؤسسات الدينية والمثقفين في ذلك العصر، أدت المشاريع التي نفذتها الدول القومية كإيران وتركيا وفي الشرق الأوسط وافريقيا والهند والدول الاستعمارية إلى اندثار وتدمير الثقافات، وتعميق التمييز الجنسي، وإلحاق أضرار جسيمة بالمجتمعات والمرأة .

 

الحجاب

أدى إدخال الحداثة الرأسمالية إلى منطقة الشرق الأوسط إلى تغييرات جذرية في البنية الاجتماعية والسياسية، حيث مهّد الطريق لتفكيك المجتمعات التقليدية وظهور أزمات حادة، القوى الرأسمالية العالمية الكبرى لم تكتفِ بغزو المنطقة سياسياً وعسكرياً بل أغرقتها بمنتجاتها الصناعية، مما أدى إلى تهميش الإنتاج المحلي وربط اقتصادات هذه الدول بالأسواق العالمية، بهذه الطريقة تمكنت من تحقيق مكاسب مزدوجة كالسيطرة على السوق وتنفيذ أجنداتها الاستراتيجية.

في هذا السياق، حاول رضا شاه في إيران أن يحاكي نموذج التحديث الذي تبناه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، عبر مشاريع تهدف إلى بناء دولة مركزية حديثة، إلا أن العديد من هذه المشاريع واجهت عقبات كبيرة، ولم تجد الأرضية المناسبة للتنفيذ الكامل، بسبب اختلاف السياقات الاجتماعية والسياسية بين إيران وتركيا، إضافة إلى مقاومة المجتمعات المحلية التي تمسكت بهويتها الثقافية والدينية.

هذا التداخل بين الحداثة القسرية والمصالح الرأسمالية العالمية ساهم في تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع، وأنتج نماذج من التحديث غير المتجانس، غالباً ما كانت على حساب الهوية المحلية والتوازن الاجتماعي.

من أشهر خطط رضا شاه خلع الحجاب إجبارياً يُقال إن رضا شاه خلال زيارته لتركيا لم ينم ليلةً واحدة وقال بحزنٍ شديد "يجب أن تكون نسائنا مثل النساء هنا وأن تصبحن عصريات" وبالطبع كانت الحداثة التي تحدث عنها هي سياسة الاستيعاب الثقافي، وهي سياسة صُممت بعقلية قومية وجنسية، وقد حالت مقاومة النساء دون تنفيذ مشروع رضا شاه كما هو مخطط له، في ذلك الوقت زار رضا شاه العديد من المدن في إيران لتنفيذ هذا المشروع، وطلب من الناس من مختلف المناطق الترحيب به بملابسهم التقليدية، كان هدفه هو معرفة مدى حداثتها، وعندما جاء إلى كردستان ورأى جمال ملابس النساء الكرديات، أُعجب بها بشدة لدرجة أنه أمر بإبقاء تلك الملابس على شكلها الأصلي وعدم إجراء أي تغييرات عليها.

لا نعرف مدى صحة هذه القصة، التي تُروى بين الشعب الكردي. لكن في طهران والعديد من المدن الأخرى في إيران، استخدمت قوات الشاه القوة والعنف لإزالة حجاب النساء وأغطية الرأس، تم اعتقال النساء اللواتي لم يخضعن للإزالة القسرية للحجاب ومعاقبتهن، ومن الغريب أن الجمهورية الإسلامية تحاول اليوم إعادة فرض الحجاب الذي أزاله رضا شاه بالقوة والعنف عن النساء، تعكس المرأة وأسلوب حياتها ومستواها الثقافي ومعرفتها وقدراتها حالة المجتمع بأكمله، بالإضافة إلى إيران في دول مثل تركيا وأفغانستان والدول العربية أصبح حجاب المرأة أداة لسياسات الحكام، من الواضح أنه لم تناضل النساء في أي مكان من أجل حجابهن بقدر ما ناضلت في إيران، بالنسبة للنساء الإيرانيات فإن الحجاب هو تعبير عن الإرادة السياسية واحتجاج أيديولوجي ضد جميع الأنظمة، أن حركة "Jin Jiyan Azadî"هي المثال الأكثر إشراقاً على نضالات تحرير المرأة الإيرانية.

عندما ننظر إلى ممارسات النظام البهلوي والجمهورية الإسلامية، نجد أن بينهما نقاطًا مشتركة عديدة، ففي سياساتهما تُرسّخ الأبوية والتمييز الجنسي بشكل كامل، كلٌّ منهما يسعى إلى فرض أسلوب حياة ولباس معين على النساء على طريقته الخاصة، متجاهلاً تماماً إرادة المرأة ورغبتها، كل سلطة تصل إلى السلطة في إيران تُخطط لسياسات أبوية واستبدادية ضد المرأة، نظراً لقوتها المؤثرة، كلما ازداد قمع المرأة ازداد ضعف المجتمع أمام الحكومة.

تُعتبر المرأة قوةً حاسمةً في المجتمع الإيراني ويسعى مسؤولو الحكومة غير راضين عن هذا الواقع، إلى ترسيخ دعائم سلطتهم بكسر إرادة المرأة، هذه السياسة الأبوية المناهضة للنساء والتي أصبحت ممنهجة في الحكومة، تنتشر في الأسر والمجتمع بأكمله، ولهذا السبب تتعرض المرأة للعنف والقمع من قبل الرجل يومياً وفي كل لحظة.

منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا شهدنا قرناً من المقاومة والنضال من قبل المرأة الإيرانية ورغم أن المرأة الإيرانية لم تنل بعد ما تستحقه من انتفاضات ومقاومات، إلا أنها لم تستسلم لمواصلة النضال من أجل نيل حقوقها وحرياتها.

في إيران، تُعدّ كل لحظة من حياة المرأة سبباً للنضال، وقد أبدت النساء الإيرانيات سواءً في العهد البهلوي أو في عهد الجمهورية الإسلامية، مقاومتهن لقانون كشف الحجاب وقانون الحجاب الإجباري، ولم تستسلمن لهذه القوانين القمعية، تُمثّل هذه القوانين أشكالاً مختلفة من محاولات الحكومات للسيطرة على جسد المرأة وفكرها وفي بعض الدول، مثل تركيا سُنّت قوانين لتغطية النساء مما دفعهن إلى تفضيل الخيار المعاكس لهذه القوانين.

ليس هدفنا هنا أن نُملي على النساء ما يرتدينه. المهم هو أن تتمتع المرأة بحرية الاختيار واختيار نوع ملابسها؛ لا أن يفرض عليها الرجال والحكومات ما لا تختاره. مع أن الحرية في نوع الملابس قد تبدو بسيطة وسطحية، إلا أننا عند تحليل أسبابها التاريخية، نرى أن الهدف من فرض نوع معين من الملابس على المرأة (سواءً كان الحجاب إلزاميًا أو كاشفًا) هو السيطرة على جسد المرأة، وفي الوقت نفسه السيطرة على أفكارها ومشاعرها وأرواحها.

في النصوص الدينية نجد أمثلة عديدة لمحاولات تشريع ملكية الرجال للنساء، ففي سورة البقرة ورد "والنساء حقلكم، تزرعونه كيف شئتم" تشير هذه الجملة إلى مستوى الملكية المطلقة للرجال في جميع جوانب حياة المرأة.

اندلعت موجة احتجاجات واسعة في إيران تحت شعار "Jin Jiyan Azadî" ما شكّل نقطة تحول بارزة في نضال المرأة ضد النظام الأبوي في الجمهورية الإسلامية، وامتدت هذه الثورة إلى مختلف أنحاء البلاد، لتتحول إلى ثورة اجتماعية تقودها النساء، مطالبة بالحرية والعدالة والمساواة.

وتعد هذه الثورة من أبرز الحركات التي واجهت النظام الأبوي في إيران، حيث كسرت النساء حاجز الخوف ورفضن استخدام الحجاب كأداة للضبط السياسي والاجتماعي، كما وجهت هذه الانتفاضة ضربة قوية للأنظمة التي استخدمت قضية المرأة لأغراض سياسية، وأظهرت رفضاً شعبياً واسعاً لتسييس قضايا الحريات الفردية.

في المقابل، تحاول بعض التيارات السياسية استغلال قضية حرية المرأة لتحقيق مكاسب سياسية، دون الالتزام الحقيقي بمطالب النساء أو دعم نضالهن، ويثير هذا الاستغلال مخاوف من تفريغ الحراك النسوي من مضمونه وتحويله إلى شعارات فارغة. وتؤكد هذه التطورات أن قضية المرأة في إيران لم تعد هامشية، بل أصبحت في صلب الصراع الاجتماعي والسياسي، ما يعكس تحوّلاً عميقًا في وعي المجتمع الإيراني تجاه حقوق النساء ودورهن في بناء مستقبل أكثر عدالة.

 

روج آفا وإيران ورقصة الحجاب

تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات اجتماعية تقودها النساء، مستلهمات من فكر وفلسفة القائد عبد الله أوجلان، حيث بدأن بتحدي القيود التقليدية المفروضة عليهن منذ قرون، فقد تخلت العديد من النساء عن الحجاب الإجباري، بما في ذلك الحجاب الأسود وحجاب الرأس، الذي طالما استُخدم كأداة للهيمنة المجتمعية من قبل أنظمة الحكم في المنطقة.

وكانت ثورة روج آفا في كردستان مثالاً بارزاً على هذا التحول، حيث لعبت النساء الكرديات دوراً ريادياً في مقاومة الإرهاب داعش، وشاركن في مختلف جوانب الثورة، وقد مثّل إحراق الحجاب الإجباري خطوة رمزية قوية ضد مفاهيم الهيمنة الذكورية، وأسهم في تفكيك العديد من البنى الاجتماعية القائمة على التمييز الجندري، ما اعتُبر ضربة حاسمة للأنظمة الأبوية الراسخة.

اتُّخذت الخطوة الكبرى الثانية في نضال المرأة في إطار فلسفة المرأة، الحياة الحرية في شرق كردستان وفي جميع أنحاء إيران، وكما أحرقت النساء في روج آفا وسوريا الحجاب الأسود مرددات شعار المرأة، الحياة الحرية، علّقت النساء في إيران الحجاب على رؤوسهن ورقصن رقصة الحرية، أحرقت النساء الحجاب الأسود الذي يرمز إلى عبودية المجتمع، وقدّمن الحجاب الأحمر لنسيم الحرية واحتفلن ورقصن، تحتفل النساء بحرية باللون الأحمر أي من الحجاب الأسود إلى الوشاح الأحمر.

وأكد القائد عبد الله أوجلان مراراً أن شعار "الحرية" شعارٌ معجز، ما أُثيرت حوله الشكوك في سوريا وروج آفا هو عقليةٌ صدئةٌ لرجلٍ قويٍّ وماكرٍ لآلاف السنين، وهو ما حدثَ في إيران، لم تكتفِ النساء بحرق حجابهنّ وأوشحتهنّ في النار، بل أنهينَ آلافَ السنين من العبودية، مهدن الطريق للحرية وخطين خطوةً كبيرةً نحو تحقيق آمالهن ورغباتهن في الحرية، وتغلبن على خوف الموت وشجعن الجميع على الانضمام إليهنّ في بناء مجتمعٍ حر.