الصحافة في زمن الحرب... بين التضييق والمقاومة
في عالم تعصف به النزاعات والحروب، تتجسد الصحافة كواحدة من أكثر المهن عرضة للخطر، حيث يدفع الصحفيون والصحفيات أثماناً باهظة في سبيل نقل الحقيقة وكشف الواقع، ورغم ذلك لا يزال كثيرون منهم يواصلون الدفاع عن حرية الكلمة، متجاوزين القيود والتحديات.

مقال بقلم الصحفية اليمنية رانيا عبد الله
في ظل الأوضاع التي تعيشها الدول العربية كسوريا والعراق والسودان واليمن وغزة، يخوض الصحفيون والصحفيات فيها تجربة قاسية من القمع والتهديد والاعتقال، وقد يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى القتل.
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف الثالث من أيار/مايو، لا يسعنا نحن الصحفيين والصحفيات في البلدان المنكوبة والتي تعاني من تصاعد الصراعات والحروب، إلا أن نستحضر في هذا اليوم حجم القيود المفروضة علينا والتهديدات التي تلاحقنا خلال سعينا المستمر لإكمال مشوارنا في مهنة تُعد من بين الأصعب والأخطر.
ففي قطاع غزة، الذي يشهد جرائم إبادة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، قُتل أكثر من مائتي صحفي وعامل إعلامي جراء الغارات الإسرائيلية المستمرة، لتصبح واحدة من أكثر الحروب دموية على الإطلاق بالنسبة للصحفيين والصحفيات.
وكذلك الحال بالنسبة إلى اليمن، التي تشهد حرباً مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، حيث تصاعدت الاعتداءات ضد الصحفيين والصحفيات، مما جعلهم يدفعون ثمناً باهظاً، وأصبحت البلاد واحدة من أسوأ البيئات للعمل الصحفي؛ حيث فرضت الأوضاع الراهنة خيارات قاسية، فاضطر بعضهم لترك المهنة والبحث عن عمل آخر، بينما غادر البعض الآخر البلاد بحثاً عن مكان آمن له ولأسرته، أما من بقي داخل اليمن ويواصل العمل، فيواجه القمع والتحريض والاختطاف.
تتفاوت الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون والصحفيات في اليمن من منطقة لأخرى، فلا تخلو المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً من القيود والانتهاكات التي تُفرض على العمل الصحفي، أما في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، فالوضع أكثر سوءاً؛ إذ تمارس الجماعة جميع أشكال التضييق على العاملين في مجال الصحافة والإعلام ممن يخالفون سياساتها، فقد أغلقت وأوقفت تحت الإكراه العديد من الوسائل الإعلامية، واعتقلت كل من يعارضها، وباتت المناطق الخاضعة لسيطرتها تفتقر لأي صوت إعلامي مستقل، ولا يُسمح إلا بوجود وسائل إعلامية تخدم توجهاتها وتخضع لإدارتها وسيطرتها الكاملة وأصبح الوضع الإعلامي في المناطق التي تسيطر عليها أشبه بالصحراء القاحلة.
منذ بداية الحرب في اليمن، راودتني فكرة ترك مهنة الصحافة، والبحث عن عمل واهتمامات أخرى، أسوةً ببعض زميلاتي اللواتي فضّلن الابتعاد عن المهنة في ظل الانقسامات والقيود المفروضة منذ انقلاب جماعة الحوثي واندلاع الحرب في عام 2014، وفعلاً، توقفت عن العمل لعام كامل، ثم عدت كما تعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها. لم أستطع الصمود أكثر وأنا أرى المعاناة الإنسانية التي يعيشها المدنيون في مختلف أنحاء البلاد، وكان هناك ما يدفعني من الداخل للاستمرار في نقل ولو جزء بسيط من هذه المعاناة، فعدت واستمريت في العمل الصحفي، لكني في كثير من الأحيان أوبخ نفسي على قراري هذا.
تتضاعف الانتهاكات والقيود المفروضة على الصحفيات مقارنة بزملائهن الصحفيين؛ إذ تُفرض عليهن قيود اجتماعية وسياسية، ويواجهن الإساءة، وتلفيق التهم، والتشهير، وحتى الخوض في الأعراض، لمجرد الاختلاف في الرأي مع جهة أو جماعة، يصل الأمر ببعضهن إلى حد الابتزاز، ما يدفعهن أحياناً إلى الاستسلام والانسحاب من بلاط صاحبة الجلالة.
يقف الصحفيون وحيدين في مواجهة أعداء الكلمة، فلا تحميهم قبيلة أو وجاهة اجتماعية، وغالباً لا يجدون أدنى حماية حتى من الجهات المعنية، وإن وُجدت بعض الجهات، فإن دورها في الغالب لا يتعدى رصد الانتهاكات وإصدار البيانات، التي لا تتصاعد على المستوى الدولي، وتبقى التقارير حبيسة الأدراج.
في المرحلة القادمة، يجب على جميع الجهات المعنية الوقوف إلى جانب الصحفيين والصحفيات، والعمل على تصعيد قضاياهم دولياً، وتقديم الاستشارات القانونية لهم، وضمان حقهم في ملاحقة من انتهك حقوقهم وحرض ضدهم أمام المحكمة الجنائية الدولية، مع الأسف، فإن معظم الانتهاكات الموثقة تبقى حبيسة الملفات، وما يجب فعله الآن هو تحريك تلك الملفات إلى المحافل الدولية، حتى لا تضيع حقوق الصحفيين في غياهب النسيان.