بين أصالة الماضي وتحديات الحاضر تبرز أهمية الحفاظ على التراث الثقافي

أكدت سليمة محمد علي أن الانفصال عن التراث بسبب التكنولوجيا والثقافات الغربية، يهدد الهوية الاجتماعية ويضعف الروابط الأسرية والقيم المجتمعية.

أسماء محمد

قامشلو ـ تغير أنماط الحياة الحديثة أثر بشكل كبير وواضح على الهوية الاجتماعية مما وضع الأسرة في مواجهة الضغوط الثقافية والاجتماعية الراهنة.

في ظل تغيرات متلاحقة تعصف بالمجتمعات، لا تزال القيم التي نشأت عليها الأجيال السابقة تشكل أساساً متيناً يستند إليه الكثيرون في مواجهة تحديات العصر الحديث.

وأكدت إدارية لجنة الصلح في مدينة قامشلو بمقاطعة الجزيرة في إقليم شمال وشرق سوريا سليمة محمد علي أن الأسرة والتراث يشكلان الدرع الحامي لهوية المجتمع، في مقابل تأثيرات التكنولوجيا والابتعاد عن الجذور مما يهدد الاستقرار الثقافي والاجتماعي، وهذه الرؤية تسلط الضوء على أهمية العودة إلى القيم الأصيلة لتقوية الروابط الأسرية والاجتماعية، والحفاظ على تماسك المجتمع في زمنٍ تتغير فيه الكثير من العادات والتقاليد.

وترى أن الأجيال السابقة "واجهت صعوبات كثيرة، منها الفقر وندرة الموارد، والاعتماد الكبير على النفس والأسرة، ولم تخلو الحياة من التعب والجهد، لكن رغم ذلك امتلك الناس قلب واحد وروح واحدة، وجراحهم مشتركة، ما خلق نوعاً من التضامن والتلاحم بينهم".

 

"حياة صعبة بطعم مختلف وأوجاع واحدة"

وتحدثت سليمة محمد علي بحنين عن الأمهات والجدات اللواتي كن تتحدين كل الصعاب من أجل بناء أسرة مستقرة، تحملن هم الحياة على أكتافهن بصبر "كانت الأمهات رمزاً للقوة والصبر رغم قسوة الظروف، كن تُسهلن ما تصعبه الحياة وتزرعن المحبة في القلوب، ففي زمنهن لم تكن التكنولوجيا أو وسائل الراحة موجودة، ولكن كانت هناك بساطة جعلت من اللحظات الصغيرة في الحياة كبيرة، مثل قصص الجدات، والأغاني الشعبية التي ملأت الأجواء دفئاً وسلاماً. الحياة كانت أصعب، لكنها كانت أجمل تحمل طعماً مختلفاً، فيه معاني الحب الحقيقي والتضحية".

وأشارت إلى أن الأوجاع التي عاشها الجيل السابق لم تكن مجرد آلام شخصية، بل جراح مجتمع كامل، تكاتف في وجه الصعاب وعمل بلا يأس ليبني مستقبلاً أفضل للأجيال القادمة "لربما الحياة كانت أقسى، ولكنها أقرب إلى القلب، والناس يشعرون ببعضهم البعض. هذه الذكريات تأخذنا إلى عالم مختلف، تذكرنا بأهمية الصبر والتمسك الأسري، وتعيد لنا قيمة ما كان يسمى "قلب البيت"، الذي رغم كل شيء ظل ينبض بالحب والأمل".

 

"الزي الكردي... قصة انتماء لا تنتهي"

تروي سليمة محمد علي بحس عميق واعتزاز بالعادات والتقاليد التي شكلت الركيزة الأساسية لحياة الجيل السابق، وكيف حرصوا على الحفاظ عليها بكل تفانٍ وإخلاص، مشيرةً إلى أن هذه العادات لم تكن مجرد ممارسات يومية، بل تجسيداً للهوية والتراث الذي يميز مجتمعهم الكردي العريق.

وأوضحت أن اللباس التقليدي الكردي من أهم العلامات التي تعبر عن الانتماء والهوية، إذ كان كل فرد يرتدي الزي الكردي بفخر واعتزاز، محافظاً بذلك على جمال وتفرد تراثه، ويعتبر هذا الزي أكثر من مجرد لباس، فهو رمز للكرامة والتاريخ الذي يربط بين الأجيال المختلفة.

ولفتت إلى أن البيت بالنسبة لذاك الجيل بمثابة المدرسة الأولى، حيث يتعلم الأطفال قيم التربية والأخلاق "البيت هو المكان الذي تتشكل فيه شخصية الطفل، ويتعلم القيم والعادات التي سترافقه مدى الحياة، والأمهات تُعّلمن أبناءهن بطرق تربوية دقيقة كيف يكونون أفراداً صالحين يحترمون تقاليدهم ويحافظون على كرامتهم".

 

"جيل المستقبل... بين جذور مهددة ورياح التغيير"

وعن التغيرات التي أصابت الجيل الحالي، وتأثره الكبير بالثقافات الغربية التي تسعى إلى تفكيك المجتمع عبر القضاء على العادات والتراث الأصيل أوضحت أن هذه التأثيرات الخارجية لم تكن مجرد عوامل عابرة، بل باتت تشكل تهديداً حقيقياً لهوية هذا الجيل حيث أصبح كثير من الشباب ينأى عن جذوره وثقافته، ويتبنى أنماط حياة وأفكاراً غريبة عنه لا تتناسب مع قيمه وتقاليده.

وأكدت أن معظم مظاهر هذا التغيير لا تتوافق مع الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمع، بل مبالغ فيها حيث فقد الجيل الحالي بذلك الكثير من ملامح الجيل القديم التي كانت تميز شخصيته وتربطه بماضيه العريق "لم تعد القيم التي نشأ عليها الآباء والأجداد هي الأساس في حياة الشباب، بل أصبحت الموضات الجديدة والعادات الغربية هي التي تتحكم في سلوكهم وتوجهاتهم".

 

الانفصال عن التراث... تحديات تهدد الهوية الاجتماعية والثقافية

وأوضحت أن هذا الانفصال عن التراث لم يكن أمراً سهلاً أو تلقائياً، بل جاء نتيجة تيارات فكرية واجتماعية متعددة، تستهدف محو الهوية الثقافية ومحاولة مسح معالم الأصالة والتقاليد التي بنيت عليها الأسرة والمجتمع. مشيرة إلى أن هذا التحول أضعف الروابط الاجتماعية وأفقد الشباب القدرة على الحفاظ على روابطهم العائلية والتقاليد التي شكلت سنداً قوياً لهم "الجيل السابق عاش حياة متماسكة، تتمحور حول البيت والأسرة، حيث كان لكل فرد دوره ومسؤولياته التي تؤمن استقرار المجتمع وتواصل تاريخه، أما اليوم فتجد أن كثيراً من الشباب يتصرفون بأسلوب فردي وغير مسؤول، مبتعدين عن القيم التي تربى عليها أجدادهم، مما يسبب فراغاً ثقافياً واجتماعياً ينعكس سلباً على المجتمع".

 

التكنولوجيا وتأثيرها على الأسرة

وبينت أنه في الماضي كان صوت الأم يملأ البيت دفئاً وأماناً، والطفل يعيش طفولته بين أحضان العائلة وتحت رعايتها، مما يبني شخصيته ومواهبه، أما اليوم فقد أحدثت التكنولوجيا والهواتف الذكية تغييراً كبيراً، حيث يقضي الأطفال ساعات طويلة منفصلين عن الأسرة، داخل عوالم افتراضية يغيب فيها التواصل الحقيقي "هذا الانفصال زاد من حالات العزلة والاضطرابات النفسية مثل التوحد والقلق، وأعاق نمو مهارات الأطفال ومواهبهم. لذلك، يجب إعادة الطفل إلى دفء الأسرة والتواصل المباشر ليتأسس جيل قوي ومتوازن".

واختتمت إدارية لجنة الصلح في مدينة قامشلو سليمة محمد علي حديثها بالتأكيد على إن "الحفاظ على تراثنا وقيمنا ليس مجرد واجب تجاه الماضي، بل هو استثمار حقيقي في مستقبل أولادنا وأحفادنا. علينا أن نعيد للبيت مكانته الحقيقية كملاذ للدفء والمحبة، وأن نعلم أطفالنا كيف يكونون متمسكين بهويتهم وسط تيارات التغيير المتسارعة. فالجيل السابق تحمل الكثير من الصعوبات والتحديات، لكنه استطاع أن يبني مجتمعاً متماسكاً ينبض بالقيم والتقاليد، ونحن اليوم بحاجة إلى نفس الروح والإرادة لنحافظ على ما ورثناه".