ثريا الحافظ... مناضلة وأديبة من العصر الحديث
سطرت الأديبة والكاتبة السورية ثريا الحافظ بمواقفها النضالية موسم من مواسم الكفاح والمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي والرجعية المعادية لتحرر المرأة، وأول امرأة سورية خاضت الانتخابات البرلمانية بعد أن نالت حق الترشح والانتخاب
مركز الأخبار ـ .
ثريا الحافظ من النساء اللواتي رأين في دعم الواقع الثقافي للمجتمع سبيلاً لتوعية المرأة فكرياً وثقافياً واجتماعياً، فقادت حركة التوعية من أجل تحرر المرأة، والتظاهرات النسائية، وأسست العديد من الجمعيات والروابط النسائية والصالونات الأدبية، في محاولة منها لصياغة واقع جديد بعيداً عن التهميش واللامبالاة تجاه دور المرأة في المجتمع، ونسجت في صفحات كتبها معالم القضية الوطنية بشقيها السياسي والاجتماعي.
حياتها لم تقتصر على النضال فقط
ولدت ثريا الحافظ في مدينة دمشق عام 1911، تربت يتيمة الأب بعد أن أعدم الوالي العثماني جمال باشا والدها أمين لطفي الحافظ شنقاً، وهي في الخامسة من عمرها، مع 7 أشخاص آخرين في ساحة المرجة بدمشق في 6آيار/مايو عام 1916، بتهمة الخيانة والتواطؤ مع جهات معادية، وذلك على خلفية مناداتهم باستقلال سوريا عن الدولة العثمانية.
ورثت الحس النضالي باكراً عن والدها وهي لا تزال طالبة، فخرجت بأول تظاهرة نسائية في سوريا عام 1928، منددة بالانتداب الفرنسي على سوريا ما بين عامي (1920 ـ 1946)، وحملت السلاح لتكون مثالاً حقيقياُ للمرأة المناضلة، وداوت جرحى التظاهرات، وأسعفت المصابين، وقدمت لأسر الشهداء وأطفالهم الدعم المادي والمعنوي.
تابعت ثريا الحافظ مسيرتها النضالية ضد الاستعمار الفرنسي على سوريا وخاصة بعد عملية الاعتقال التي تعرض لها زوجها رئيس تحرير جريدة "بردى" الصحفي والكاتب منير الريس عام 1939، فقادت التظاهرات الشعبية مع رفيقاتها ألفة الإدلبي وجيهان الموصللي وسنية الأيوبي، للضغط على الحكومة، بهدف فك الأسر عن زوجها وكافة المعتقلين الذين زجوا في السجون على خلفية مواقفهم الوطنية.
تعرضت للاعتقال في العديد من المرات على يد الجنود الفرنسيين الذين كانوا يقتحمون بيتها في الليالي الظلماء، ليجروها من عقر دارها وهي مرتدية ثياب نومها، تاركة خلفها ثلاثة أطفال يتصارخون من الخوف والذعر.
أسست ثريا الحافظ جمعية "دار كفالة الفتاة" عام 1945، لتبدأ بكفالة عشرون فتاة، قدمت الجمعية الرعاية والتعليم والتوجيه للفتيات اللواتي فقدن عائلاتهن خلال الحرب، بهدف مساعدتهن وتمكينهن للقيام بدور فعال في المجتمع، وساهمت بتأسيس جمعية "رعاية الجندي" عام 1956، التي عملت على تقديم الهدايا للجنود في الأعياد والمناسبات وزيارتهم في مواقع تمركزهم في ميدان الحرب، وإرسال الكتب والنشرات والمجلات لهم لتزيد من ثقافتهم و للترفيه عنهم.
دورها في نيل المرأة السورية حق الترشح والتصويت
كرست ثريا الحافظ حياتها في سبيل القضية الوطنية ومقارعة القوانين الرجعية بحق المرأة، ففي السابعة من عمرها بدأت بتعليم مبادئ القراءة والكتابة للنساء اللواتي لم يحظين بفرصة التعلم أو فاتهن قطار العلم، وبعد تخرجها من مدرسة "دار المعلمات" عام 1928، عملت مدرسة للأدب العربي ثم مديرة في مدارس دمشق.
كانت من الرائدات اللواتي دعونَّ إلى منح المرأة حق التعبير عن رأيها وإمكانياتها، لتكون المرأة قادرة على تغيير ملامح المجتمع الذي عمد إلى حرمانها من حق الانتخاب والترشح لمناصب صنع القرار في البلاد، وناضلت كثيراً ليصل صوتها إلى كل أُذنٍ صماء أنكرت قدرة صاحبة هذا الصوت في تغيير الموازين.
فقامت على رأس مئة امرأة بخطوة كانت هي الاجرأ في تاريخ سوريا، فرفعن النقاب عن وجوهِهن في تظاهرة تحررية جابت شوارع عديدة من دمشق، وقد تطوع عدد من الشباب الجامعيين ليجعلوا من أجسادهم ستاراً لحمايتهن والدفاع عن خطوتهن التحررية، فقالت ثريا الحافظ في خطابها الذي أججت فيه أهل الرأي والقرار خلال التظاهرة "كنت عرضة لعداوة الطبقة الرجعية المتلبسة بلباس الدين، باعتباري أول امرأة عربية سورية خرجت سافرة مع مئة سيدة سرن في مظاهرة ضد الرجعيين الذين كانوا يهاجمون النساء ويرمونهن بالبيض الفاسد والبندورة العفنة، أو بماء الفضة لا لسبب، بل لأنهن يرتدن داراً للسينما خاصة بالنساء، أو لأنهن يقصصن شعورهن، ويقصرنها، فيزعم الرجعيون أنهن يتشبهن بالرجال".
رأت ثريا الحافظ ضرورة ملحة في توعية النساء لما لمسته لديهن من معاناة غرسها مجتمع يحكمه نظام ذكوري، فأحيت والروح الثقافية للمرأة من خلال قيادتها لحركة تحرر المرأة التي ألقت فيها الأحاديث الإذاعية والأندية والمحاضرات، وشاركت في تأسيس العديد من الجمعيات والروابط النسائية والصالونات الأدبية منها "يقظة المرأة الشامية" التي تم تأسيسها عام 1927، لتشجيع عمل النساء في الريف وإحياء الصناعات اليدوية التقليدية.
كما وأسهمت عام 1928 في تأسيس جمعية "دوحة الأدب" في اجتماع للمجمع العلمي العربي في دمشق، فشكلت أهداف الجمعية اللبنة الأولى لإشراك المرأة في الحياة العامة، وأسست عام 1931 "الاتحاد العام النسائي" بمشاركة عادلة الجزائري، وأطلقت "منتدى سكينة الأدبي" عام 1953، و"النادي الأدبي النسائي"، هادفة بالمقام الأول إلى زيادة إيمان النساء بقدراتهن وللإعلاء من شأنهن، وجعلت من جريدة "بردى" التي أصدرها زوجها منبراً يدافع عن حقوق المرأة وصوتاً يدعم قضاياها.
اندرجت جهودها ونداءاتها في حصول النساء السوريات على حق الانتخاب وذلك عام 1949، ضمن حزمة الإصلاحات التي طرحها حسني الزعيم الذي تولى الرئاسة في سوريا بعد انقلاب عسكري، لكن اشترط عليهن أن يكن حاملات للشهادة الابتدائية.
ولكن بالرغم من منحهن حق الانتخاب حرمن من حق الترشح، إلى أن صدر دستور عام 1950، ومنح جميع النساء حق الانتخاب دون النظر إلى الدرجة التعليمية.
كانت ثريا الحافظ أول امرأة سورية ترشح نفسها للانتخابات النيابية عام 1953، لتأكد بترشحها على أحقية المرأة السورية في ممارسة دورها السياسي كأي فرد وعضو فعال في المجتمع، فشكلت بذلك خطوة تحررية شجعت المرأة على الخروج من عزلتها، لكنها لم تنجح في الانتخابات بسبب عدم ثقة المجتمع بقدرتها على القيام بدور كهذا، ولم تدخل أي امرأة إلى البرلمان بشكل فعلي حتى عام 1973، أي بعد عشرين عاماً من تاريخ حصولها على هذا الحق قانونياً.
خطوات ثريا الحافظ في الحركة الأدبية والثقافية
ثريا الحافظ لم تكن مناضلة وسياسية فقط، بل كانت أيضاً أديبة بارزة من بين بنات جيلها، فنشاطها الثقافي لا يقل أهمية عن نشاطاتها النضالية والسياسية، فهي صاحبة أول صالون أدبي ومنتدى ثقافي نسائي في العالم العربي في العصر الحديث، وضعت بصمتها على خارطة الصالونات الأدبية في سوريا.
شاركت مع الأديبة ماري عجمي والدكتورة طلعت الرفاعي، في تأسيس "حلقة زهراء الأدبية" عام 1946، تيمناً باسم زوجة أول رئيس للجمهورية السورية زهراء العابد، التي شاركت في تأسيس الصالون وقدمت بيتها الدمشقي العريق ليكون فسحةً أدبيةً تستقبل فيها لفيفاً من أهل الفن والأدب والفكر ونخبة من الشخصيات السياسية، لعقد العديد من الندوات الأدبية والثقافية والسياسية، بهدف تلقيح الأفكار عبر الحوار الصادق بعيداً عن الضجيج والأضواء، بالإضافة إلى الأمسيات الشعرية.
وفي عام 1953 أسست ثريا الحافظ "منتدى سكينة الأدبي" في منزلها بحي المزرعة في دمشق، واشتقت اسم المنتدى من اسم صاحبة أول صالون أدبي في العالم "سكينة بنت الحسين بن علي"، فكان منتداها هو الأول في الشرق الأوسط، ووضعت فيه كل جهودها وغاياتها لرفع مستوى الأدب والفن وتنمية الثقافة الأدبية، فقامت بجمع وطبع أعمال ونتاجات الأدباء العرب وترجمة الأعمال الأدبية المهمة للغرب إلى اللغة العربية والعكس.
ارتاد المنتدى العديد من الأديبات السوريات أمثال ألفت الإدلبي وهبة البهنسي، وقد احتفل خلال هذا الصالون بالشاعرة العراقية نازك صادق الملائكة التي قدمت يومها مختارات من ديوانيها "عاشقة الليل" و"شظايا ورماد"، كما أقيم فيه مهرجان لتكريم الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان.
أجمع الأدباء على أن منتدى سكينة الأدبي من الأعمال المهمة التي قامت بها ثريا الحافظ لخدمة الثقافة والأدب في سوريا، وفي عام 1963 دعاها الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتكون ضيفته في احتفاليات ثورة 23 تموز/يوليو عام 1952، وأثناء تواجدها في مصر وصلها خبر اعتقال زوجها، فبقيت في مصر خشية أن تطالها الاعتقالات السياسية بعد أن منحها الرئيس المصري حق اللجوء السياسي، وبقيت هنالك حتى عام 1970 إلى أن توفيت عام 2000، ووريت الثرى في مدينة دمشق.
كتب سطرت فيها ثريا الحافظ مسيرتها النضالية والثقافية
لم يخطر على بال ثريا الحافظ الاتجاه لفسحة الكتابة إلا بعد التشجيع الذي قدمه لها عمها الأمير مصطفى الشهابي، الذي سمعها ذات يوم تلقي خطاباً عن ضرورة الكفاح والنضال ضد الانتداب الفرنسي على سورية وضد مفوضها السامي هنري دو جوفينيل، في ساحة مدرسة "دار المعلمات"، فقامت بتأليف كتابها الأول عام 1961 بعنوان "حدث ذات يوم"، وفيه تتحدث عن مسيرتها ومواقفها الوطنية والنضالية التي سادت معظم فترات حياتها وعن النضال والكفاح السوري النسوي ضد الاستعمار الفرنسي والأنشطة التي قامت بها.
تركت ثريا الحافظ إرث ثقافياً جمعت فيه تفاصيل حياتها الاجتماعية في كتاب "الحافظيات" الذي صدر عام 1979، ويتضمن مجموعة من المقالات حول أنشطتها ومواقفها وحواراتها في صالون "حلقة زهراء الأدبية"، وبعض المواقف الطريفة التي تعرض لها زوار صالونها، والشخصيات العديدة التي شاركت في محاضرات وندوات الصالون.
تحدثت في كتابها أيضاً عن الجوانب المهمة والمؤثرة في حياتها الاجتماعية والسياسية التي عاشتها بكل ما أوتيت من مشاعر وعواطف إنسانية ووطنية، كتابها الذي وضع في كفي ميزانه القضية الوطنية بجانبيها السياسي والاجتماعي، وقد أهدته إلى المجاهدات في سبيل القضية الفلسطينية.
كما تضمن كتاب الحافظيات سلسلة مقالات رصدت فيها الكاتبة مرحلة الانفصال التي حدثت بين سوريا ومصر عام 1961، وما تبعها من رود فعل واحتجاجات شعبية، وحديث طويل عن صالونها الأدبي.
رحيل ثريا الحافظ لا يعني نهاية الطريق الذي رسمته، فالأثر الذي تركته في تاريخ سوريا والشرق الأوسط، أنار الطريق أمام النساء لتواصلن المسيرة التي بدأتها.