سجون فارغة وأرصفة ممتلئة باليأس وتجاهل لملف المغيبين
بعد سنوات من الانتظار، فتحت أبواب السجون ليجد أهالي المعتقلين والمعتقلات أنفسهم أمام فراغ موجع، لا أثر لأحبائهم، فقط سجلات متناثرة وأسماء ملأت الأرصفة ومواقع التواصل وفي المقابل تصر إدارة هيئة تحرير الشام على تجاهل هذا الملف.
![](https://test.jinhaagency.com/uploads/ar/articles/2025/02/20250209-almadt-jpg199380-image.jpg)
غفران الهبص
حلب ـ بعد 8 كانون الأول/ديسمبر حمل أهالي المعتقلين والمعتقلات أملاً كبيراً برؤية أحبائهم الذين غيبهم ظلم نظام الأسد خلف القضبان لكن خيبة الأمل كانت أكبر من أن تُحتمل، فالسجون التي انتظروا تحريرها بفارغ الصبر كانت فارغة، ولم يجدوا سوى جدران تحمل أوجاع وبصمات من كانوا خلفها، فضلاً عن السجلات المتناثرة التي تحمل أسماء بلا أجساد.
أصبحت السجلات المنتشرة على الأرصفة شاهدة على مأساة المعتقلين، فيما تستمر إدارة هيئة تحرير الشام بالاستهانة بهذا الملف الإنساني الذي يمس أرواح الآلاف، ومعاناة الزوجات اللواتي انتظرن عودة أزواجهن، والأمهات اللواتي طال انتظارهن لأبنائهن، والأطفال الذين حُرموا من آبائهم، كلها تصرخ في وجه هذا الصمت المطبق.
وفي ظل غياب المحاسبة يصبح ما يسمى "التحرير" نفسه حلقة جديدة من الظلم فلا عدالة تحققت، ولا إجابات شافية قُدمت، فقط عائلات تبحث عن الحقيقة بين أروقة النسيان، فيما يزداد اليأس ويتحول الأمل إلى خيبة مستمرة.
بداية النهاية
روت كوثر جندي (40) إحدى زوجات المغيبين قسراً وهي أم لطفل من مدينة حلب، قصة اعتقال زوجها قائلةً "تم اعتقال زوجي منذ أكثر من عشر سنوات، ولم يكن هناك أي سبب واضح أو مبرر لذلك، فما فعله هو أنه سافر إلى لبنان، وكان ذلك بداية لنهاية حياتنا لا أستطيع أن أصف كم كانت تلك اللحظة قاسية، حيث لم أكن أتخيل أبداً أنني سأكون وحيدة مع طفل في مثل هذا العمر، بدون أي فكرة عن مصير زوجي، وبعد اعتقاله بدأت حياتنا تتغير بشكل لا يمكن تخيله فكان طفلي في سن صغير ولم يكن يفهم تماماً ماذا يحدث، ففي بداية الأمر كنت أقول له أن والده مسافر، حاولت أن أكون قوية أمامه وأخفي عن عينيه الحقيقة القاسية، لكن مع مرور الوقت، بدأ يكبر وبدأت الأسئلة تتزايد، ولم أستطع أن أستمر في إخفاء الحقيقة عليه واضطررت أن أصارحه، رغم مرارتها، فقلت له إن والده مفقود، وأننا لا نعرف أين هو ولم يكن لدي ما أقدمه له من أجوبة سوى الحقيقة المرة، التي جعلتني أرى الحزن في عينيه، وأدركت حينها أن جزءاً من طفولته قد سرقت".
وأضافت "عندما بدأت عملية فتح السجون وتحرير المعتقلين، شعرت بشيء من الأمل يراودني بعد سنوات من الألم والانتظار فكنت أجلس وأترقب، عيني على الباب، منتظرة أن أسمع خبراً عن زوجي مع رؤية مشاهد تكسير الأقفال أمامي فكلما تزايدت أصوات الحطام، كان قلبي يزداد خفقاناً، على أمل أن أسمع اسمه بين الأسماء التي سيتم الإفراج عنها أو الناس التي تخرج حافية الأقدام من تلك الأماكن الأكثر وحشية، بينما ابني يجلس بجانبي، ينتظر بلهفة وعينيه تتساءلان، هل سيظهر والده اليوم، كل شيء كان يبدو في تلك اللحظة وكأنه على المحك، بين الأمل في رؤيته وبين الخوف من أن تكون اللحظة الحاسمة لهذا الأمل، وبالرغم من أن فكرة أنه داخل سجن صيدنايا المعروف بالمسلخ البشري، لأنها من أكثر الإجابات التي حصلت عليها في السابق، لكن للأسف لم أجد له أي أثر".
من سلطة ظالمة إلى سلطات مستهينة
وأشارت كوثر جندي إلى أنه "في أيام النظام السابق، كنت أذهب إلى الأفرع الأمنية كلما شعرت أن هناك بصيص أمل قد يظهر في البحث، وأطرق أبواب تلك الأفرع، أطلب بكل ما تبقى لي من قوة أن أسمع خبراً عنه، لكن الردود التي كنت أتلقاها لا تقل قسوة عن المعتقل نفسه، فكانوا يبتزونني ويهينونني، ويتعاملون معي كأنني مذنبة لمجرد أنني كنت أسأل عن مصيره وأخرج من أمامهم مطرودة بكل احتقار، وقلبي يزداد حزناً وعجزاً".
وأضافت "لم يكن لدي ما أقدمه سوى الدموع، ولكن لا أحد كان يعيرني أي اهتمام وأعود خالية الوفاض، بلا أي إجابة شافية، ولا حتى لمحة عن الأمل، وبعد التحرير عندما بدأت عملية فتح السجون، ذهبت مجدداً على أمل أن أجد له أثراً، لكن الحقيقة كانت أقسى مما توقعت لا شيء ولا أثر، ولا حتى اسم ليتحول الأمل الذي كان يملأ قلبي إلى صدمة كبيرة وأواجه الواقع بألم لا يوصف فالذي يجب أن يكون بداية جديدة تحول إلى خيبة أعظم، وكأن الحياة تأبى أن تمنحنا فرصة للسلام".
وانتقدت استهانة إدارة هيئة تحرير الشام في البحث بملف المغيبين قسراً "كنت آمل أن تتغير الأمور، وأن يكون لدي فرصة لمعرفة مصير زوجي، لكن ما صدمني استهانة الإدارة الجديدة بقضية المفقودين والمفقودات، ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مفيدة، وكلما حاولت التواصل مع أي جهة لا أجد من يتعامل مع الموضوع بجدية ولا أحد يجيب على أسئلتي، أو يكترث لما نعيشه من ألم وقلق، فحاولت مراراً البحث عن أي شخص يمكنه مساعدتي أو حتى إرشادي إلى المكان الذي يمكنني فيه الحصول على معلومات، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل".
وأكدت أن "إدارة هيئة تحرير الشام لا يهتمون بالقضية، وكأننا مجرد أرقام في سجل لا قيمة لها" حيث أنها لم تستطع الوصول لأي شخص يطلعها على الحقيقة ولا يوجد أي دعم يُقدم لها في هذا الظرف الصعب.
وأشارت إلى أنه "ما كان يجب أن يكون تحقيقاً جاداً، تحول إلى تجاهل تام فالإدارة لم تحاول حتى البحث في سجلات وأسماء المغيبين أو جمع الدلائل التي تساعد في الكشف عن الحقيقة لنعرف أين هم، أين دفنوا، وبأي حق تم تعذيبهم وإخفاؤهم، ولا نعرف أين ذهبت أجسادهم، ولا كيف تم التعامل معهم، وأي جريمة ارتكبوها لكي يُعاملوا بهذا الشكل، ففي ظل هذا الصمت نجد أنفسنا عالقين في دائرة من الألم والظلم، ولا نعلم إلى أين نذهب أو إلى من نلجأ؟".
مناشدة وأمل
وطالبت بفتح تحقيق لمعرفة مصير المفقودين "أوجه هذه المناشدة إلى الجهات المختصة والمنظمات الدولية، نحن بحاجة ماسة إلى أي مساعدة يمكن أن تقدم لنا لمعرفة مصير المفقودين ونطلب فتح تحقيقات جدية وجمع الأدلة والسجلات التي قد تسهم في كشف الحقيقة فقد عشنا سنوات من الألم والتساؤلات دون أن نجد أي إجابة، وأصبحنا لا نعرف إلى من نلجأ أو من يصدقنا، كما نحتاج إلى دعم حقيقي، سواء كان ذلك من خلال فتح ملفات المعتقلين أو توجيه الضغط على السلطات الحالية لتقديم المعلومات الكافية. إن الحق في معرفة مصير أحبائنا ليس مجرد حق قانوني، بل هو حق إنساني لا يمكن تجاوزه".
وأكدت على حقها في معرفة ما تعرض له زوجها أثناء الاعتقال "رغم أنني فقدت الأمل في رؤية زوجي، لا أزال أتمسك بحقه في أن أعرف الحقيقة، والأمل اليوم بالنسبة لي ليس في عودته، بل في الحصول على إجابة أين كان، ولماذا تم اعتقاله، أين دفن، كيف يمكن أن يكون قد اختفى دون أن يترك أي أثر، هذه الأسئلة تتردد في ذهني يوماً بعد يوم، ولا أجد لها أي إجابة، وبالرغم من الألم الذي أعيشه، سأستمر في البحث عن الحق وسأبقى أصرخ من أجل أن يعرف الجميع ما جرى لأحبائنا الذين اختفوا دون أي مبرر فهذه الفترة التي أعيشها اليوم ليست أقل قسوة من التي عشتها في السابق، ولكنها تظل مليئة بالأمل في أن نصل يوماً إلى الحقيقة التي طال انتظارها".