من وسط الركام يعلو صوت الحقيقة وتوّثق معاناة الضحايا في غزة

"شاهد عيان" مبادرة إعلامية إنسانية انطلقت لتوثيق معاناة المدنيين في غزة ونقل شهادات حقيقية من قلب الميدان بعدسات الإعلاميين الذين كانوا مرآة لما واجهتها الأهالي من ويلات الحروب والدمار والقتل.

نغم كراجة

غزة ـ في زمنٍ تتسارع فيه الحوادث وتضيع التفاصيل بين أرقام الضحايا وخطابات السياسة، خرجت مجموعة من الشباب والشابات الفلسطينيين بحملة إعلامية إنسانية تحت عنوان "شاهد عيان"، تهدف إلى إيصال صوت الضحايا، ونقل الروايات الحقيقية لمن عاشوا الحرب وواجهوا أهوالها، وتوثيق ما غاب عن عدسات الإعلام، في محاولة لرفع الغطاء عن معاناة يختبئ فيها الوجع خلف صمت العالم.

 

توثيق إنساني لا تقني

حرصت الحملة على تقديم المحتوى بعيداً عن الإثارة البصرية أو استغلال المعاناة بل بمنهج إنساني يعزز التعاطف والوعي، "شاهد عيان" ليس مجرّد اسم رمزي إنما عنوان لكل قصة رُويت من قلب المعاناة؛ شهادة طفل فقد عائلته، امرأة رأت بيتها يتحوّل إلى رماد، أو مسعف انتشل جثمان أحد أقاربه وقد جمع الفريق بين التسجيلات المصورة، المقابلات الصوتية، والشهادات المكتوبة، لتقديم صورة متكاملة تغني عن ألف تقرير سياسي، بمساهمة صحفيين وصحفيات من بينهم مراسلة وكالتنا.

 

فكرة الحملة… من رحم المعاناة وُلدت الكلمة

بدأت حملة "شاهد عيان" نتيجة سلسلة من النقاشات والجلسات المستفيضة التي عقدها فريق شاب آمن بضرورة توثيق الحقيقة، لا عبر الإحصائيات الجافة أو التصريحات الرسمية بل من خلال أصوات الأحياء ممن شهدوا المجازر وكانوا وقودها.

تقود الحملة الإعلامية الناشطة أفنان الشنتف التي أوضحت أن الفريق اختار أن ينهض إلى الميدان رغم مخاطر الموت مستهدفاً نقل شهادة حقيقية من أشخاص مدنيين باتوا شهوداً على أحداث جسام، وكل شهادة تروي صفحة من كتاب الدم الفلسطيني الذي كُتب دون رغبة أصحابه.

 

العمل الميداني... صوت من لا صوت لهم

لم يكن الحراك إعلامياً فقط بل ميدانياً وشجاعاً بكل معنى الكلمة، قررت أفنان الشنتف وفريقها، المؤلف بغالبيته من الشابات أن يخترقوا الخوف ويتقدموا إلى خطوط المواجهة الإنسانية الأولى حيث تتكثف المأساة وتبدو الحياة في أدق صورها هشاشة.

وعن الأعمال التي سعى الفريق من خلاله نقل الحقائق بمساهمة من مراسلة وكالتنا، قالت أفنان الشنتف "تنقلت عدسة الفريق بين مخيمات النزوح ومراكز الإيواء التي تغصّ بالأطفال والنساء، وقد تحوّلت إلى مشاهد يومية لمعاناة مركبة تتجاوز احتمال البشر، وحين دخلنا الخيام لم نرَى فقط من فقدوا بيوتهم بل من فقدوا طفولتهم، آمالهم، وحتى أحلامهم الصغيرة التي لا تكلف هذا العالم شيئاً".

في هذه الأماكن، تم رصد الانتهاكات التي طالت الحقوق الأساسية للإنسان كالغذاء، التعليم، الرعاية الصحية، والأمان، لم تقتصر اللقاءات على الضحايا فقط بل طالت أيضاً من وصفتهم الحملة بـ "أبطال الظل"؛ رجال ونساء الدفاع المدني، المسعفين، والصحفيين، الذين واجهوا الموت يومياً في سبيل إنقاذ آخرين أو توثيق الجرائم، وفي سياق حديثها عن ذلك بينت "نحن لا نحمل السلاح بل نحمل الكاميرا والقلم والمشرط الطبي، لكننا مُستهدفون كأننا خضنا المعركة بأنفسنا، كل شهيد بيننا هو شاهد حي على أن الحقيقة تُقتل أيضاً".

 

دور المرأة… من الهامش إلى صدارة الميدان

والعنصر اللافت في الحملة هو الحضور البارز للنساء في كل تفاصيلها؛ من القيادة إلى التوثيق والتصوير والمقابلات، تقول أفنان الشنتف "اخترنا أن نكون نحن الفتيات في الخطوط الأمامية، لا لنثبت شيئاً لأحد بل لأن هذه الحرب تأكلنا نحن أيضاً، فنحن كذلك لن نفرّق بين مسؤوليتنا ومسؤولية الرجال، كل من تناضل فهي على صواب، وكل من تروي الحقيقة، فهي جزء من المقاومة".

وفي ختام حديثها قالت أفنان الشنتف "نحن لا نوثق فقط للماضي، بل نكتب التاريخ بأصوات الناجين لعل العالم يصحو، ولعل العدالة تسمع".

 

التحديات… العمل تحت القصف

لم يكن العمل سهلاً بل كان محفوفاً بالمخاطر، واجه الفريق صعوبات جمّة، أبرزها انقطاع الإنترنت والكهرباء، نقص وسائل النقل، وتحركهم تحت نيران القصف العشوائي، كان عليهم أحياناً الانتظار لساعات من أجل إتمام مقابلة أو الوصول إلى موقع ما رغم ذلك واصلوا مهمتهم بإصرار يُحاكي صمود من ينقلون عنهم، وبينت أمل كلوب، صانعة محتوى في الحملة "تأخرنا كثيراً في النشر، لكننا لم نتأخر في الفعل، نحن نؤمن أن كل دقيقة تأخير قد تحرم الضحية من إيصال صوتها ولكنها في الوقت ذاته كانت لحظة نجاة من موت محقق".

الحملة لا تكتفي بنقل الصورة أيضاً سعت لتسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين كجرائم حرب ينبغي محاسبة مرتكبيها، لذلك ضمّت شهادات من أطباء وحقوقيين ممن تحدثوا عن انهيار القطاع الصحي، غياب العدالة، وانعدام الحماية الدولية، هذه الأصوات أضافت بعداً قانونياً وإنسانياً يعمّق فهم العالم الخارجي لما يحدث في غزة.

 

من قلب العتمة… أمل

تعتمد الحملة على وسائل التواصل الافتراضية كمنصة رئيسية، وتُنتج مقاطع فيديو قصيرة وشهادات مكتوبة بلغة صادقة تبتعد عن الخطاب السياسي المباشر، الهدف هو إيصال المعلومة لا إثارة الجدل، وبناء حالة تعاطف واسعة من الشعوب لا فقط من المؤسسات، كما أوضحت أمل كلوب "لسنا بحاجة لبيانات تضامن باردة، بل لمواقف حقيقية، ونحن نوفر الأدلة والشهادات لمن يجرؤ على اتخاذها.

ورغم كل مشاهد الدمار والدموع، تحتفظ الحملة بنبرة أمل وإن كانت خافتة، فالفعل ذاته الخروج بالكاميرا إلى حيث لا يصل الإعلام هو نوع من المقاومة، والإصرار على سرد الرواية الفلسطينية بلسان أبنائها هو محاولة للانتصار على النسيان والتزييف.

 

من الركام تولد الحكاية

وتثبت حملة "شاهد عيان" أن الإعلام ليس فقط صوتاً وصورة بل رسالة وشهادة وواجب في ظل الصمت الدولي وتواطؤ بعض المنابر، تبرز هذه المبادرة كصرخة شجاعة خرجت من بين الأنقاض لتقول "نحن هنا، نرى، ونشهد، ونوثق".