نضال لا ينتهي رغم المآسي... رسالة صمود في زمن الحرب

"أصبحت أعيش في مشهد لا أستطيع حتى وصفه، لا سقف يحمينا، ولا غطاء يكفينا حين تهطل الأمطار"، بهذه الكلمات عبرت إحدى نساء قطاع غزة عن مرارة العيش في الشارع دون مأوى.

نغم كراجة

غزة ـ وسط نيران الحروب وأصوات الانفجارات، تتجلى حكايات الكفاح الإنساني رغم قسوة الواقع وضراوة المحن، هناك حيث يتحطم كل شيء، تستمر بعض الأرواح في إعادة البناء من بين الرماد لتواجه الموت، هي قصص لم تُكتب بحبرٍ على ورق، بل نُقشت بالدموع والصبر على جدران الدمار، وشهادة حية على قوة الإرادة في مواجهة المستحيل.

على أطراف مدينة غزة وتحت وطأة الحصار والقصف، تحملت الثلاثينية سمر النجار عبء الكفاح في وجه الحرب التي لم تترك شيئاً إلا ونالت منه، بين الركام الذي كان يوماً منزلاً، وفي طوابير الانتظار على المساعدات، تتبدى معاناة امرأة تسلحت بالعلم والصبر، لكنها وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام واقع قاسٍ.

قالت وعينيها ممتلئتين بالحزن "قبل ثمانية أعوام، حصلت على شهادتي في تخصص الرياضيات، وكان لدي طموح أن أصبح أستاذة متميزة تساهم في صناعة مستقبل مشرق للأجيال، انتظرت طويلاً فرصة عمل ثابتة تُنصفني، لكن ما كنت أحصل عليه لا يتجاوز عقوداً مؤقتة، وبعد صراع طويل مع البطالة والانتظار، قررت أن أشق طريقي بنفسي وأفتتح مشروعاً صغيراً، مركزاً تعليمياً للأطفال، لكن ككل أحلامنا في غزة، جاءت الحرب لتقضي عليه قبل أن يرى النور".

كان المركز التعليمي الذي أنشأته سمر النجار بمثابة نافذة أمل وسط ظلام الحصار الخانق، لم تكن الموارد كافية لكنها أبت إلا أن تستثمر ما لديها من علم وشغف في تعليم الأطفال، حتى بدأت أصوات الطائرات تلقي بظلالها الثقيلة على حياة الناس.

ولفتت إلى أنه "في الشهر الثالث من الحرب، لم أعد أملك الخيار سوى النزوح، حاولنا الصمود في منزلنا لكن القصف المتواصل جعل البقاء مستحيلاً، المركز الذي كان يمثل لي حلماً أصبح مجرد ذكرى، والأطفال الذين علّمتهم لم أعد أعرف عنهم شيئاً، كان الأمر أشبه بفقدان قطعة من روحي مع كل ركام يتساقط".

 

نزوح متكرر والبدء من جديد

لم يكن النزوح بالنسبة لسمر النجار محطة واحدة، بل سلسلة من المحطات المرهقة، التي تحمل في طياتها خسائر مادية ومعنوية، مع كل نزوح كانت تحاول أن تعيد بناء ما تهدم، أنشأت خيمة تعليمية صغيرة للأطفال، بدأت من جديد بأبسط الأدوات الممكنة، لكنها كانت تصر على البقاء قوية أمام ما وصفته بـ "القدر الجائر". 

وأضافت "كلما نزحت، كنت أقول لنفسي، لن أسمح للحرب أن تهزمني، فأطفالي بحاجة إلى التعليم، وأطفالي هنا لا أقصد أبنائي فقط، بل كل طفل في هذه الأرض التي تعصف بها الكوارث، كنت أعلمهم بأجر رمزي فقط لأزرع فيهم الأمل لكن النزوح الأخير كان مختلفاً، المنزل الذي احتوانا لم يعد موجوداً، وكل شيء كنت أملكه بات تحت الركام".

وتجلس سمر النجار اليوم مع أطفالها على حصيرة صغيرة في شارع رملي والمطر يهطل على رؤوسهم مما جعلها توزع أبناءها بين جيرانها في المخيمات المجاورة خوفاً عليهم من البرد القارس "أصبحت أعيش في مشهد لا أستطيع حتى وصفه، لا سقف يحمينا، ولا غطاء يكفينا حين تهطل الأمطار، لا أفكر إلا في كيفية حماية أطفالي بعضهم أنقله إلى الجيران، والبعض الآخر أضعه تحت ما تبقى لدينا من أغطية ممزقة"، متسائلة "أين الإنسانية في هذا العالم؟".

وأشارت إلى أن أوضاع النساء في غزة تتفاقم يومياً، حيث تُسلب منهن أدنى حقوقهن المعيشية، وتقول سمر النجار "نحن النساء في غزة لا نحصل حتى على الأساسيات التي تضمن لنا حياة كريمة، كل شيء منتهك، من حقوقنا إلى أحلامنا، أصبحنا نقف في طوابير المساعدات التي بالكاد توفر لنا ما يسد الرمق، وفي كثير من الأحيان نعود خالي الوفاض، بدلاً من متابعة أطفالي وتعليمهم، أجد نفسي أبحث عن الحطب لإشعال النار حتى أتمكن من طهي الطعام، هل هذه حياة؟".

 

التحطيم النفسي والمثابرة المستمرة

ورغم كل ذلك، ترفض سمر النجار أن تنكسر لكنها تعترف بأن العبء بات أثقل من أن تتحمله وحدها، لافتةً إلى أن صوتها وصوت آلاف النساء في غزة لا يجد أذناً صاغية، مما يضاعف من شعورهن بالعزلة والخذلان، "أحياناً أشعر أنني أدور في حلقة مفرغة كلما حاولت النهوض، أسقط من جديد، الحرب دمرت أحلامي وطموحاتي التي لم تتح لي الفرصة حتى لتحقيقها، من ينظر إلى معاناتنا؟ نحن النساء هنا نكافح على كل الجبهات، لكننا نُترك وحدنا لنواجه المجهول".

ووجهت سمر النجار رسالة للعالم "لا تتركونا وحدنا في هذا الجحيم، نحن لسنا أرقاماً أو إحصائيات في نشرات الأخبار، نحن بشر نحلم ونطمح مثل الجميع، لا أريد سوى حياة كريمة، سقفاً يحمي أطفالي، وعملاً أستطيع من خلاله أن أستعيد إنسانيتي، هل هذا كثير؟".

رغم كل المآسي، تظل سمر النجار نموذجاً للإرادة التي لا تنكسر، فإرادتها وعزيمتها المتواصلة شهادة على قوة الإنسان في مواجهة المحن، وهي مثال للمرأة الفلسطينية التي تجسد الكفاح بكل تفاصيله، وتجعل العالم يقف عاجزاً أمام صبرها وثباتها.