'حجب البيانات لعدد المعنفات ليس حياداً بل شكل آخر من العنف'
مع انطلاق حملة الـ 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة، تتجلى الحاجة إلى مناقشة واقع النساء والتحديات التي تواجهنها يومياً، وتسليط الضوء على أشكال العنف المختلفة، والبحث في تأثيراته العميقة على النساء والمجتمع.
ابتسام اغفير
بنغازي ـ في بلد تتداخل فيه آثار الحروب مع الأزمات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية العميقة، تحضر ظاهرة العنف ضد النساء كإحدى أكثر الظواهر تعقيداً وتشابكاً، وبينما ترتفع الأصوات المطالِبة بالتصدي لها، يظلّ الواقع أكثر قسوة مما يبدو في التقارير الرسمية.
في هذا السياق، تفتح رئيسة مركز "وشم" لدراسات المرأة عبير أمنينة، مساحة واسعة لفهم جذور العنف، وتفكيك أنماطه، والبحث في أسباب استمراره، سواء داخل الأسرة أو على مستوى المؤسسات، وتقدم عبر رؤيتها تحليلاً عميقاً حول ما يحدث في ليبيا اليوم، وتأثير الحروب، والتشريعات الغائبة، والبيانات المحجوبة، وصولاً إلى العوامل التي تدفع بعض النساء لتبرير العنف أو الصمت عنه.
الوضع الاجتماعي الهش للنساء
تؤكد عبير أمنينة على أنّ أول ما يخطر في البال عند تناول موضوع العنف هو الوضع الاجتماعي الهش الذي تعيشه النساء في ليبيا، فالأحداث الأخيرة من قتل وتنكيل وتعنيف حاد تفتح باباً كبيراً للأسئلة حول الأسباب التي تصنع هذا الواقع، والعوامل التي تجعله يستمر "العنف ليس حالة معزولة أو حادثاً طارئاً، بل يرتبط بشبكة من العلاقات المركّبة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فضلاً عن بُنى مؤسسية وقانونية تسهم في تكريسه".
وترى أن العنف ضد النساء هو في جوهره، نتاج لوضع اجتماعي مرتبك، تتداخل فيه الأدوار النمطية داخل الأسرة، وضغوط المجتمع، وتحوّلات في شخصية المرأة لم يستطع المجتمع استيعابها "التطور الكبير في وعي النساء وتعليمهن وخروجهن للعمل لم يواكبه تطور مماثل في الوعي المجتمعي، مما خلق صداماً في الأدوار، وضاعف من حدّة التوترات داخل البيوت، وإلى جانب كل ذلك تأتي الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي زادت من العبء الملقى على النساء، ما يجعل بعض الرجال يجدون في العنف وسيلة للهيمنة أو رد الفعل".
الرضوخ للعنف خوفاً من المستقبل المجهول
ووتربط عبير أمنينة العنف بالعديد من العوامل، أولها العامل الاقتصادي؛ فالمرأة التي لا تملك مصدر دخل أو مسكناً بديلاً ترى أن عودتها إلى الزوج رغم التعنيف "أهون الشرّين"، وهنا كما تقول تتجلى أهمية استقلال المرأة اقتصادياً حتى تتمكن من امتلاك قرارها.
أما العامل الثاني فهو الضغط الاجتماعي، الذي يُثقل كاهل المعنّفة؛ فبعض الأسر ترفض استقبال بناتها بعد الطلاق، وبعض المجتمعات لا تزال تنظر للمطلقة بعين الرفض أو الريبة، وما يصاحب ذلك من شروط قاسية مثل ترك الأبناء أو الخضوع لإملاءات العائلة، هذه الضغوط تجعل كثيرات تفضلن البقاء في دائرة العنف على الخروج إلى مستقبل مجهول.
وتتوقف عبير أمنينة عند سلوك مقلق يتمثل في إلقاء بعض النساء اللوم على أنفسهن، فتقول إحداهن "ضربني لأنني كنت مستفَزًة… هو لم يقصد إيذائي"، معتبرةً أن هذا النوع من التبرير يضاعف الألم ويجعل العنف مركّباً، إذ تتحول الضحية إلى شريكة في تبرير الألم الواقع عليها، وهو من أسوأ أشكال العنف كما تؤكد.
رؤية بعيدة تماماً عن روح الدين
وعند الحديث عن المقارنة بين العنف الأسري والعنف المؤسسي، تشير إلى أن كلاهما مؤذٍ، لكن العنف الذي يُعاش يومياً داخل البيت أكثر قسوة، لأنه يضرب قلب المكان الذي يفترض أن يكون آمناً وهادئاً، وتضيف أنّ المجتمع والمشرّع كثيراً ما يعلقان على العنف الأسري ويعتبرانه "أمراً طبيعياً" أو "تأديبًا"، مستندين إلى تأويلات خاطئة للنصوص الدينية، بينما هي رؤية بعيدة تماماً عن روح الدين.
وتتوسع عبير أمنينة في تحليل أثر الحروب على شكل العنف، مؤكدةً أن النزاعات المسلحة دائماً ما تنتج أوضاعاً أكثر قسوة وتعقيداً "واجهت المرأة الليبية خلال سنوات الصراع حالات نزوح وفقدان للمعيل، وحرماناً من السكن والدخل والعمل، واضطرت للتعامل مع مؤسسات غير قادرة على تلبية احتياجاتها، مما فتح الباب أمام أشكال جديدة من الابتزاز الاقتصادي والإداري"، مشيرةً إلى أن دراسات عديدة أثبتت أن فترات الحروب تدفع المرأة إلى تحمل مسؤوليات الأسرة وحدها، حتى مع وجود الرجل أحياناً.
كما تذكّر بأن جائحة كورونا بدورها عمّقت العنف داخل البيوت، وفرضت أدواراً إضافية على النساء، ودفعت بعض العائلات إلى تزويج بناتهن القاصرات بحثاً عمّا يسمّى بـ "الستر"، مما أدى إلى مشكلات نفسية واجتماعية لا تزال آثارها قائمة.
حجب الإحصائيات لا يدفع الضرر
وبينت عبير أمنينة أنها حاولت مرات عدة الحصول على إحصائية دقيقة حول العنف الموجّه ضد النساء "لم تُقدَّم لي سوى بيانات عامة تغطي ثلاثة أشهر فقط "يوليو وأغسطس وسبتمبر"، كانت فيها الأرقام صادمة وتشير إلى ارتفاع حالات العنف بمختلف أشكاله، من الإيذاء البسيط إلى القتل العمد، ومع كل طلب لإعادة الفرز وفق النوع الاجتماعي، ظلّ الرد غائباً، وكأنّ السؤال نفسه يُدفع إلى الهامش بلا تفسير، وهو لماذا هذا الامتناع عن تقديم بيانات مفصّلة تخص النساء؟ وما الذي ينبغي أن تفعله مؤسسات الدولة فعلياً للحد من العنف الموجّه ضدهن؟".
وتجيب عن ذلك بالقول إن قضية البيانات والإحصائيات، وغيابها يشكّل أحد أكبر العوائق أمام وضع سياسات فعّالة للحد من العنف، فعندما طُلبت إحصائيات رسمية حول عدد المعنفات، لم تُقدَّم إلا أرقام عامة لا تُظهر حجم الأزمة الحقيقي "بعض الجهات تتعامل مع طلب البيانات باعتباره تهديداً للأمن القومي أو محاولة لإعطاء صورة سلبية عن المجتمع الليبي، بينما الحقيقة أن أي سياسة دون بيانات مفصّلة هي سياسة بلا جدوى".
قانون الحماية لازال مجمداً
وتتأسف لغياب الإرادة التشريعية لمعالجة جذور المشكلة، مشيرةً إلى أن مشروع قانون حماية المرأة من العنف لا يزال مجمداً في مجلس النواب منذ أكثر من عامين، دون مناقشة أو تعديل أو حتى رفض رسمي، وترى أن هذا التجاهل يعكس موقفاً عاماً غير مستعد للتعامل الجاد مع قضية العنف.
وتتوقف عبير أمنينة عند قرار إنشاء مؤسسة جديدة لحماية المرأة والطفل في المنطقة الشرقية، واصفة إياه بـ "رد فعل شعبي غير مدروس"، خاصةً أن وزارة الداخلية تمتلك أصلاً مكاتب مختصة، وتتساءل لماذا لا يتم تطوير الهياكل القائمة بدل خلق أجسام جديدة تستهلك الوقت والميزانيات؟ كما تنتقد دمج الطفل مع المرأة في مؤسسة واحدة، داعية إلى جسم مستقل للمرأة يتمتع بصفة دستورية وصلاحيات واضحة.
تدفع ثمنه من أمنها وحياتها
وفيما يتعلق بالآراء التي تطالب بالتركيز على العنف بشكل عام، تذكّر عبير أمنينة بأن العنف الأسري يضغط على النساء بشكل خاص، وأن المقارنات الإحصائية لو توفرت ستُظهر الفارق الكبير بين ما تتعرض له النساء وما يواجهه الرجال، خاصةً أن عنف الرجال غالباً ما يندرج ضمن الجنح، والجنايات، بينما تقع المرأة ضحية عنف أسري ممنهج تدفع ثمنه من أمنها وحياتها.
وتصف إرجاع حالات انتحار النساء إلى "السحر والغيبيات" بأنه تراجع خطير في فهم الظاهرة، معتبرةً أن الحل يكمن في تحليل نفسي واجتماعي واقتصادي للضحايا، لا في تفسيرات غيبية تُقصي الأسباب الحقيقية.
وفي مقارنة مع دول الجوار، ترى أن العنف في ليبيا ومصر والجزائر متقارب في طبيعته وتداعياته، بينما تتميز تونس بوعي جمعي أفضل ومؤسسات أكثر فاعلية، ما يمنح المرأة قدرة أكبر على الاستفادة من القوانين.
وتختتم رئيسة مركز "وشم" لدراسات المرأة عبير أمنينة حديثها بالتأكيد على دور مركز "وشم" في دراسة الخلل التشريعي وتنظيم حوارات حول العنف رغم الصعوبات اللوجستية، وتتمنى أن تنجح منظمات المجتمع المدني في تعزيز الوعي بالحقوق، وأن تحصل المرأة على إرشاد نفسي وقانوني قبل الزواج، حتى تعرف حقوقها كاملة وتتمكن من الدفاع عنها.