"فلاحات تزرعن الأمل" بين ريادة المشروع وشقاء الحقول
بين قصة ليلى التي تجسّد الطموح وشهادات خيرة ونجمة التي تعكس واقعاً صعباً، تتضح ملامح المشهد الزراعي النسائي بتونس فهناك نساء تخضن المعارك الإدارية والتقنية بعقلية جديدة، وأخريات ما زلن تعملن في ظروف هشة يدفعهن الفقر إلى الصبر والتحمل.

إخلاص حمروني
تونس ـ يشهد القطاع الزراعي في تونس تحوّلات لافتة، تقودها نساء اخترن الأرض كمجال للعمل والإنتاج والإبداع. في وقت تشير فيه الإحصائيات إلى أن أكثر من 100 ألف امرأة تنشط في هذا القطاع، بنسبة تفوق 20% من أصحاب المشاريع الزراعية، تتعدد وجوه الحكاية بين نجاحات ملهمة، ومعاناة يومية صامتة.
ليلى بنت محرز من محافظة القصرين هي نموذج لفلاحة رائدة جعلت من شغفها مشروعاً واعداً. وفي المقابل، تتحدث فلاحات أخريات عن ظروف قاسية تكشف عن واقع هشّ يحتاج إلى الإصلاح. هذا المقال يرصد بعيون النساء تفاصيل العمل الزراعي كما يعشنه حقاً بين الحلم والواقع، بين الأمل والانتظار.
في "مدرسة هنشير القصعة" من منطقة بوزقام بمحافظة القصرين، بدأت ليلى بنت محرز مسيرة لم تكن في الحسبان. لم يكن في مخططها أن تصبح مزارعة محترفة، لكنها اختارت أن تتبع شغفها، فحوّلت الأرض التي ورثتها عن والدها إلى مشروع زراعي متكامل، مزجت فيه بين حب الأرض والعلم الحديث.
تغيير بسيط كان بداية لرحلة ممتعة
عن بداية قصتها والدافع الذي جعلها تختار هذه المهنة، تقول ليلى بنت محرز "بدأت رحلتي كهواية، لم أكن أتصور أنني سأخوض مجال الزراعة كمهنة، لكن بعد أن حضرت تدريباً في تقنيات الري، بدأت أكتشف أن الأمر يستحق، فواصلت المشوار خطوة بخطوة. البداية كانت من نقطة الماء، ثم التحقت بتدريب شامل مدته ستة أشهر يشمل الأشجار المثمرة، الأبقار، والدواجن. لاحقاً، شاركت في فيديوهات تطبيقية وأسابيع تدريب ميدانية، لأكوّن فكرة أوضح عن المجال. رغم أنني ابنة فلاح فإن الفلاحة اليوم لم تعد كما كانت في السابق كل شيء تطور حتى أبسط التفاصيل".
وأضافت "أرض والدي لم تكن تحتوي إلا على بعض أشجار الزيتون، لكنني قمت بإحداث نقطة ماء وزرعت الزيتون، اللوز، والفستق، وركّبت نظام ري حديث. هذا التغيير رغم بساطته كان بداية لرحلة ممتعة وصعبة في الوقت نفسه".
وفيما يخص التحديات التي واجهتها كامرأة في هذا المجال وكيف تجاوزتها، أوضحت أن "الزراعة مجال مليء بالتحديات. أول وأكبر عقبة واجهتني كانت المياه. حفرت ثلاث نقاط اثنتان لم تنجحا والثالثة فقط وفّرت المياه المطلوبة. تكلفة الحفر كانت مرتفعة، لكن كان لا بد منها، إضافة إلى ذلك يواجه الفلاح عراقيل إدارية، وصعوبات في التمويل والقروض، وفي بعض الأحيان العوامل طبيعية مثل البَرَد أو حجر تُفسد الموسم بأكمله".
وأشارت إلى أن "الأمل والإصرار هما الأساس، وجدت دعماً حقيقياً من وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية، التي ساعدتني في الحصول على قرض عقاري واستثماري، ووفرت لي تدريباً مجاناً لمدة ستة أشهر. هذا التدريب فتح لي الباب لفهم المجال والتعرف على المؤسسات والتعامل مع الإدارة بثقة".
وعن سبب جذب الاستثمار في القطاع الزراعي العديد من نساء تونس (يبلغ عددهن أكثر من 100 ألف امرأة، وتشكل 20% من أصحاب المشاريع الزراعية)، لا تتفاجأ ليلى بنت محرز من هذا الرقم، بل ترى فيه انعكاساً منطقياً لقدرة المرأة على التأقلم والعمل الجاد "المرأة دائماً ما تبحث عن فرصة تعمل فيها في بيتها أو أرضها وتحب العمل الحر، بالإضافة إلى ذلك فإنها غالباً ما تكون منظمة أكثر من الرجل، مما يجعلها أكثر أهلية للحصول على التمويل".
وأوضحت أنه "أحياناً، الأرضية تكون مؤهلة تلقائياً لتبدأ المرأة مشروعها، مثل وجود مساحة لتربية النحل أو الدواجن. المرأة تستفاد من هذه الفرص وتتعلم بسرعة، ولهذا نجد العديد منهن يتوجهن لهذا القطاع".
وترى أن النساء قادرات اليوم على قيادة الفلاحة التونسية نحو التطوير بفضل انفتاحهن على التدريب والتكنولوجيا. تؤمن أن المرأة التي تحب عملها وتتقنه، يمكن أن تكون قاطرة للتغيير خاصة أن الآلات الحديثة توفر الكثير من الجهد وتقلص الحاجة إلى العمالة، مما يمنحها قدرة على التسيير بكفاءة، ورغم أنها لا تدّعي أن النجاح مضمون بالكامل، فإنها تؤمن أن الإرادة والعلم والابتكار مفاتيح أكيدة للمضي قدماً.
وفي ختام حديثها تقول ليلى بنت محرز "المرأة دقيقة في عملها، متقنة، وتحب ما تفعله وهذا وحده كفيل بأن يطور أي قطاع، بالإضافة إلى ذلك توجد تقنيات حديثة اليوم تتيح لها تحقيق نتائج كبيرة بعدد محدود من العاملين. مثلاً، هناك آلات لجني البطاطا أو الثوم تحتاج فقط لثلاثة أو أربعة أشخاص بدل العشرات، وتوفر الوقت والجهد".
واقع آخر "مهمش"
ليلى بنت محرز ليست مجرد فلاحة، بل نموذج حيّ للمرأة التونسية الطموحة التي تتحدى الصعاب وتعيد رسم مستقبلها بيديها. قصتها تبرهن أن الزراعة لم تعد حكراً على الرجال أو على الطرق التقليدية، بل هي اليوم حقل واسع للتجديد والنجاح، تقوده نساء مثل ليلى بإصرارهن ومعرفتهن وحبهن للأرض.
لكن صورة المرأة الفلاحة ليست دائماً بذلك البهاء. بعيداً عن قصص الريادة والنجاح، هناك نساء تعشن يومياً ظروفاً قاسية في الحقول. خيرة بن منصور، فلاحة تصف العمل الزراعي بأنه شاق ومهين في بعض الأحيان، خصوصاً عندما لا تكون المرأة صاحبة المشروع، وتقول إنها تعمل تحت ضغط الحاجة في ظل غياب وسائل النقل اللائق، وضعف الأجور، وطول ساعات العمل، وسوء المعاملة.
وترى أن المرأة يمكن أن تنجح في الزراعة فقط عندما تكون حرة في أرضها تديرها بنفسها وتملك القرار فيها، وتضيف "أحلم بأن يكون لي مشروع خاص، اغرس فيه التين الشوكي والزيتون، وأكون أنا سيّدة القرار".
نجمة رابحي، فلاحة منذ سبع سنوات، تعمل من الخامسة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر دون راحة. تعاني من الإرهاق اليومي وتشرب أحياناً ماءً ملوثاً لغياب البدائل، وتروي كيف يمنعهن صاحب الأرض من أخذ قسط من الراحة حيث تقف لساعات طويلة في الشمس وتخشى الحديث عن حقوقها خاصة بعد أن تعرّضت شقيقتها لحادث عمل نتج عنه كسر "أجبرت على العمل بسبب الحاجة فقط ولا أنصح أي امرأة بدخول هذا القطاع ما لم تكن الظروف مختلفة".
وفي ظل هذا التباين، تبرز الحاجة إلى دعم فعلي للنساء في هذا القطاع ليس فقط من حيث التمويل والتدريب، بل كذلك من حيث الحقوق الاجتماعية وتحسين ظروف العمل وضمان الكرامة الإنسانية لكل امرأة اختارت أن تزرع الأرض وتنتج الغذاء.