عامان من حرب الإبادة... المرأة الفلسطينية في غزة بين البقاء والانكسار
منذ اندلاع الحرب في غزة عام 2023، تحوّلت حياة النساء الفلسطينيات إلى فصلٍ مفتوح من الفقد والمعاناة، تتقاطع فيه المأساة الإنسانية مع صمودٍ أسطوري يواجه الموت اليومي بثباتٍ لا ينكسر.

نغم كراجة
غزة ـ بعد مرور عامين على حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، ورغم الاتفاق على وقف إطلاق النار، لا تزال المرأة الفلسطينية في قطاع غزة تواجه يومياً امتحاناً قاسياً للبقاء في واقعٍ تتساقط فيه القنابل كما تتساقط الأحلام، وتنهار فيه مقومات الحياة واحدةً تلو الأخرى.
حرب الإبادة الجماعية التي بدأت قبل عامين لم تتوقف فعلياً بل امتدت في وجوهٍ جديدة من الجوع، والمرض، والحرمان، والتشريد ومع كل هذا، بقيت المرأة الفلسطينية في قلب المأساة، متماسكة رغم الانكسار، تحمل مسؤوليات تفوق طاقتها، وتقاوم في كل تفصيل من تفاصيل الحياة المتهالكة.
جميلة أحمد، امرأة فلسطينية في الأربعين من عمرها وأم لخمسة أبناء، تمثل صورةً مكثفة لهذه المعاناة المستمرة، نزحت من منزلها وسط القطاع بعد أن استهدف بشكلٍ مباشر بغارةٍ إسرائيلية دون إنذار، ما أدى إلى إصابتها في ظهرها ورجلها اليمنى لكنها لم تستسلم، بل تابعت طريقها المليء بالوجع لتبقى أماً حاضرة في حياة أطفالها.
تقول بصوتٍ يختلط فيه الإصرار بالحزن "حين سقط المنزل وأصابني الركام، لم أفكر إلا في أولادي كان الألم يمزقني لكني أقسمت أن أعيش من أجلهم، أنا اليوم أجري خلف شاحنات المياه، أقف في الطوابير الطويلة لأجل رغيف خبز، أبحث عن اسمنا في قوائم المساعدات التي لا تصل بانتظام، وأعود كل مساء بخيبةٍ جديدة، لكني أعود ومعي عزيمتي التي لم تنكسر".
وتضيف، وهي تمسح العرق عن وجهها المثقل بالتعب "ما نعيشه اليوم يفوق كل وصف. لم تعد الحرب قصفاً فقط بل أصبحت مجاعة، مرضاً، إذلالاً متكرراً، وانطفاءً بطيئاً للحياة، نحن النساء في غزة نحمل على أكتافنا كل هذا الخراب، نحاول أن نبقى للأبناء، ونزرع فيهم الأمل ونحن نكاد نفقده، نحميهم ونحن أنفسنا بلا مأوى ولا دواء لكن رغم كل ما فقدناه، لن نسمح لأنفسنا أن ننهار، لأن انهيارنا يعني ضياع من تبقى من العائلة".
أرقام مفزعة
في المخيمات المؤقتة ومراكز الإيواء، تتكرر قصة جميلة أحمد كل يوم بألف وجه، فبحسب تقارير الأمم المتحدة، قُتلت أكثر من 28 ألف امرأة وفتاة في غزة منذ اندلاع الحرب، أي أن امرأة تُقتل كل ساعة تقريباً، ويُقدَّر عدد النساء والفتيات النازحات بنحو 951 ألفاً، تركن بيوتهن تحت القصف ولجأن إلى الخيام أو المدارس أو الأرصفة، كما أصبحت عشرة آلاف امرأة أرملة خلال الحرب، بعد أن فقدن أزواجهن وأضحين المعيلات الوحيدات لأسرٍ بلا مأوى ولا موارد.
هذه الأرقام المفزعة لا تُجسِّد سوى جزء يسير من المأساة، فخلف كل رقم قصة وجعٍ طويل، النازحات تعشن ظروفاً غير إنسانية في الملاجئ المكتظة حيث لا خصوصية ولا أمان ولا مرافق صحية كافية. كثيرات تشاركن أماكن النوم مع غرباء، ويتعرضن للبرد والحر والمرض، فيما تغيب تماماً خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، أما الحوامل والمرضعات، فهنّ الحلقة الأضعف في هذه المأساة، إذ تعاني معظمهن من سوء التغذية، وانعدام الرعاية الصحية، وتعذّر الوصول إلى المستشفيات التي دُمِّرت أو أُغلقت أو تعاني من نقص حاد في الكوادر والمستلزمات الطبية.
وفي الوقت ذاته، باتت النساء يواجهن خطر العنف في أكثر من شكل، فإلى جانب الخطر المستمر من القصف، تتعرض كثيرات للعنف القائم على النوع الاجتماعي نتيجة الضغوط النفسية، وازدحام أماكن النزوح، وغياب الرقابة أو الحماية القانونية، كما أن تدهور الوضع الاقتصادي جعل النساء أكثر عرضة للاستغلال أو العمل الشاق مقابل مبالغ زهيدة، تقول جميلة أحمد "نحمل مسؤوليات مضاعفة، نُطعم أبناءنا، نبحث عن الماء والدواء، نغسل ونطبخ، ونسهر على حراسة خيامنا ليلاً، لم نعد نطلب الراحة، فقط نريد أن نحافظ على ما تبقى من حياتنا حتى أجسادنا لم تعد تحتمل، لكننا لا نملك رفاهية الانهيار".
النساء تواجهن الموت بصمت
المأساة تمتد أيضاً إلى الجانب الصحي، إذ حذرت تقارير أممية من أن انهيار المنظومة الطبية في غزة جعل آلاف النساء يواجهن الموت بصمت، هناك نساء تعانين من إصابات الحرب دون علاج، وأخريات تعشن بإعاقات دائمة بعد أن فقدن أطرافهن أو قدرتهن على الحركة ورغم ذلك، تُشاهد هؤلاء النساء وهن يزحفن على عكازاتٍ أو كراسٍ متحركة نحو نقاط توزيع المياه أو المساعدات، لا لشيء سوى أن يُبقين أسرهن على قيد الحياة.
عامان من الحرب جعلوا غزة مكاناً لا يصلح للحياة، والنساء هن من يحملن عبء هذا الانهيار الأكبر، فبين الجوع والعطش والمرض، أصبحت المرأة الفلسطينية في معركة مستمرة ضد الموت، ومع ذلك فهي من تبني الحياة وسط الخراب، وتعيد النظام داخل الخيام، وتُنشئ "نظاماً اجتماعياً بديلاً" في ظل غياب الحكومة ومؤسساتها حيث تتحول كل أم إلى قائدة، وكل زوجة إلى معيلة، وكل طفلة إلى مساعدة صغيرة تحاول أن تواسي والدتها أو تعتني بعائلتها.
ولفتت إلى أنه "نحن لا ننتظر تعاطف العالم، فالعالم شاهدنا نموت ولم يتحرك، نعيش لأننا لا نملك خياراً آخر، كل يوم يمرّ هو معركة جديدة للبقاء، أحياناً أبكي بصمت، ثم أنهض وأغسل وجهي وأقول لنفسي ما دام أولادي أحياء، فالحرب لم تنتصر بعد".
لكن رغم هذا الثبات الأسطوري، فإن الواقع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، المجاعة تضرب عمق القطاع، والنساء يتحملن العبء الأكبر من انعدام الغذاء والماء والرعاية، الطوابير أمام المخابز وصهاريج المياه أصبحت مشهداً يومياً، كثير من النساء يفقدن وعيهن من التعب أو الحر أثناء الانتظار، وبعضهن يتعرضن للإصابات في التدافع أو تحت نيران القصف المفاجئ. ومع انعدام المساعدات الدورية، تلجأ كثيرات إلى تدبير احتياجات أسرهن بوسائل بدائية، مثل جمع الحطب أو تجفيف الخبز التالف لاستخدامه في الطهي.
"كل يوم في غزة هو معركة من أجل البقاء"
لم يتغير شيء منذ بدء الحرب سوى ازدياد المعاناة. النساء اللواتي قدّمن للعالم درساً في الصبر والإرادة، لم يحصلن على شيء سوى المزيد من الألم، لا يكفي اليوم أن تُوزَّع عليهن طرود غذائية أو جلسات دعم نفسي، فالحاجة باتت أعمق من ذلك، إن المرأة الفلسطينية في غزة بحاجة إلى برنامجٍ شامل لإعادة التأهيل الجسدي والنفسي والاجتماعي، برنامجٍ يُعيد بناءها كما تُبنى البيوت التي دُمِّرت، ويمنحها الفرصة لتستعيد قدرتها على العيش بكرامة بعد كل ما فقدته.
بعد عامين من الإبادة، تقف نساء غزة في وجه العدم، ثابتات على الأرض التي تحولت إلى رماد، متمسكات بالحياة رغم موت من حولهن، وفي كل وجهٍ متعبٍ مثل وجه جميلة أحمد، يمكن قراءة تاريخٍ طويل من الصمود والنضال والإرادة التي لا تُقهر، وكأن كل امرأة في غزة تقول للعالم بلغتها الصامتة "قد سلبتم منا الأمان، لكنكم لن تسلبوا منا الإصرار على الحياة".
ذلك الإصرار الذي لم تزعزعه سنتان من الجحيم، ظل وقوداً تبني به المرأة الفلسطينية معنى الصمود من تحت الركام، فكل يوم جديد في غزة هو معركة صغيرة من أجل البقاء، وكل امرأة فيها تُمارس البطولة دون أن تحمل سلاحاً فقط بإصرارها على أن تبقى واقفة في وجه موتٍ طويل المدى. ما بين ركام البيوت وطوابير الإغاثة وأصوات الطائرات التي لا تغيب، تعيش النساء اليوم واقعاً فاق حدود الاحتمال، لكنهن يواصلن السير بخطىٍ مثقلة نحو الحياة، كما لو أنهن وُلدن ليحمين هذا الوطن من الفناء.