الكحل العربي مهنة تتوارثها النساء عبر الأزمنة

للحفاظ على التراث الفلسطيني والصناعة التقليدية، ترغب هادية قديح بتوريث صناعة الكحل العربي لبناتها وحفيداتها.

رفيف اسليم

غزة ـ لا تزال النساء في غزة تستخدمن الكحل العربي الذي عرف منذ آلاف السنين لدى العديد من الشعوب ومن بينهم الفراعنة، لعلاج أمراض العيون من الحساسية والرمد وبعض الأمراض الجلدية.

تجلس السبعينية هادية قديح أمام موقد النار لتتفقد عملية صناعة الكحل العربي التي بدأت بها للتو هل ستنجح أم أن الهواء المتطاير بغتة سيحمل الكحل معه ويتجه بعيداً، كسنوات العمر وذكريات إعداده مع أمها عندما كانت طفلة لا تتجاوز العشرة أعوام، لتبقى محتفظة بالطريقة حتى اليوم وتكررها أمام أحفادها بنوع من الحذر وبعيداً عن تلك النسمات.

تقول هادية قديح أن ردة الفعل عندما تصنع الكحل العربي أمام أحد تكون مملوءة بالدهشة والاستغراب، ربما لأن الناظر يتوقع شيء ما صعب يحتاج لساعات طويلة وهو لا يعلم أن ذلك الكحل عبارة عن رماد زيت الزيتون الذي تسخنه على النار حتى يحترق وتنتج تلك المادة السوداء التي تتجمل بها النسوة قديماً وتحظى بعناية خاصة حديثاً.

وأوضحت أن كل ما تحتاج إليه أن تشعل النار من خلال بعض الأخشاب المتواجدة في الحديقة، ومن ثم تجلب قطعة قماش قطنية وتغمسها بزيت الزيتون وتتركه لعدة دقائق ربما 10 لا أكثر حتى تحصل على مبتغاها، مشيرةً إلى أنها تستخرج الحكل الأسود من خلال الحك المستمر للإناء الذي وضعت به الزيت المحروق ومن ثم تعبئه في علبة معدنية تسمى مكحلة ورثتها عن جدتها ولا زالت تحتفظ بها منذ 75 عاماً وحتى اليوم.

وأكدت على أن النساء قديماً كن يعملن كل شيء بأنفسهن كالتطريز والخياطة والصوف والنول، إضافة لإعداد كافة أنواع المأكولات وأعمال الأرض، لافتة أن البساطة كانت سمة أساسية في حياتهم فأكثر ما كانت تفضله العائلة بعد يوم طويل من التعب هو خبز الصاج المعد على الفرن المصنوع من الطين، أما في بداية النهار هي الشعيرية الممزوجة بحليب البقر.

وترجع بنا هادية قديح لتخبرنا أن أهمية الكحل الذي تصنعه تنبع من كونه طبيعياً لا يدخل في مكوناته المواد الصناعية التي قد تضر العين أو تسبب لها حساسية بل بالعكس هو عبارة عن علاج لأمراض العيون من الحساسية والرمد وبعض الأمراض الجلدية التي تظهر حول العين، وهي تهدف من خلال صناعته إعادة احياء التراث الفلسطيني والمساعدة على إنتاجه كعلاج ضمن مخرجات الطب العربي البديل.

وتذكر أنه في ذات مرة أتاها أب لطفل ضاقت به السبل فلم يبقي طبيباً لم يدق بابه لعلاج عيون طفله الصغير لكن بلا جدوى، إلى أن نصحه أحدهم بأن يلجاً للكحل العربي، وبالفعل قدمت له المساعدة دون أن تتلقى أي مبلغ من المال، لأن هدفها هو أن يشفى الطفل وبالفعل رحلت معاناته بعد عدة مرات فقط من استخدام الكحل.

وحاولت هادية قديح أن تتخذ من صناعة الكحل العربي مهنة لها لكنها لم تنجح فالجميع اعتاد أن يأخذ منها العبوات مجاناً دون دفع أي مقابل مادي وبكميات كبيرة، مشيرةً إلى أنها اليوم ستحاول انتاج الكحل بكميات أقل كعينات بسعر زهيد في سبيل تسويقه لأنها متيقنة أن من ستستخدمه مرة ستعود لطلب المزيد، لفوائده الكثيرة كمحافظته على الرموش من التساقط.

وتنتج هادية قديح الكحل من خلال قطعة قماش يتجاوز عمرها الـ 35 عام فقد جلبتها خلال شبابها من دولة الجزائر وما زالت تحتفظ بها حتى اليوم وتخشى عليها كطفلها الصغير، مشيرةً إلى إنّ القماش الموجود في الأسواق اليوم، لا يصلح لصناعة الكحل، لأن تركبيها تختلط بالنايلون والتركيبات الكيميائية الأخرى.

وعن الفئة التي تطلب منها الكحل تروي هادية قديح أنّ الجميع من نساء ورجال وأطفال يرغبون باقتنائه، خاصة أنه لا يختص بالنساء فقط، بل إنّ الرجال العرب تكحلوا قديماً وتزينوا بهذا المسحوق، الذي يعطي دلالات على الفرح والبهجة، ويرمز للجودة والأصالة.

ولفتت إلى أنه كان يستعمل إلى جانب الكحل قديماً كمواد للتجميل كل من البنجر الأحمر كمورد للوجنتين والحنة بديل المناكير، والخيش والإكليل لتزين الشعر ولم تكن تستخدم سوى في الأفراح والمناسبات.

ويرجع تاريخ ظهور الكحل إلى زمن الفراعنة، واشتهر في معظم المناطق العربية، وجاء كذلك أنّ الشعراء العرب، برعوا في التغزل بالعيون المكحلة وكتبوا فيها القصائد، واعتبروها مصدراً للإلهام، واسترسلوا في وصف الكحل وطريقة صنعه وأنواعه.

وأكدت هادية قديح على تمسكها بتلك الصناعة التقليدية، ورغبتها في توريثها لبناتها وحفيداتها، لأنّ ذلك سيساهم في استمرار الحفاظ على التراث الفلسطيني والعربي.