المرأة العراقية... بصمة وتأثير في مختلف الحضارات والأزمنة (1)

لوقت قريب كان تاريخ النساء العراقيات مدفوناً في الكتب، النساء اللواتي طالما عانينَّ من الحروب والمجازر والتهجير والقوانين التي تنكر حقوق المرأة

النساء يسترجعن أمجاد إنانا 

سناء العلي

مركز الأخبار ـ . النساء اللواتي ساهمنَّ في نشوء أول حضارة على وجه الأرض كنَّ مغيبات بشكل كامل، لم يذكرنَّ إلا كضحايا للأعراف والتقاليد، ضحايا في الحروب والمجازر. 
المرأة العراقية لم تكن بمعزل عن المؤامرة التي استهدفت نساء العالم منذ أن تآمر الرجل على المرأة وسلب إنجازاتها وحقوقها وهو ما يُعرفه الفيلسوف الكردي عبد الله أوجلان بـ "الانكسار الأول"، حيث يقول "تمأسست ظاهرة التأنيث كأقدم مظاهر العبودية حصيلة بسط نفوذ المجتمع الجنسوي، بعد إلحاق الهزيمة بالمرأة الأم وعباداتها وطقوسها جمعاء بعد صراعات محتدمة ضارية وشاملة طويلة الأمد على يد الرجل القوي الجبار وحاشيته".
المرأة التي سكنت بلاد ما بين النهرين كانت رمزاً للخصوبة، ورمزاً للحياة متمثلة بالآلهة إنانا المقدسة لدى جميع الشعوب القديمة. المرأة العراقية اليوم تسعى لاستعادة أمجاد إنانا فالنساء كنَّ في طليعة المظاهرات التي عمت البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 2019 احتجاجاً على سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. تقدمنَّ المظاهرات عازمات على ازاحة الطبقة الفاسدة.
 
الاحتجاجات العراقية 2019 "ثورة تشرين"
انتفض العراقيون نساءً ورجالاً في وقت كانت الطائفية تنهش بالبلاد خاصة بعد الغزو الأمريكي عام 2003، وسجلت المرأة حضوراً قوياً في الاحتجاجات منذ اليوم الأول، فالعادات والتقاليد والخوف من المجتمع لم يمنعانها من الانخراط في الحراك.  
وبشكل تدريجي ازدادت مشاركة النساء في الثورة، وتقدمن الصفوف ورفعنَّ لافتات مناهضة للطائفية، كما عملنَّ على تقديم المساعدات الطبية والخدمية. 
اختطفت العديد من المتظاهرات أمثال المسعفة صبا المهداوي التي اختفت منذ الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وقال شهود عيان أنه تم اختطافها بعد عودتها من ساحة التحرير من قبل مجهولين يستقلون ثلاث سيارات وسط العاصمة بغداد، وقد دعت منظمة العفو الدولية السلطات العراقية للكشف عن مصيرها، معتبرةً أن اختطافها استهداف لحرية الرأي والتعبير في البلاد قبل أن يفرج عنها بعد 10 أيام تقريباً.
وكذلك اختطفت ماري محمد لمدة 11 يوماً، بعد تعرضها للتهديد من قبل مجهولين بعد مشاركتها في الاحتجاجات، وبعد الإفراج عنها قالت إنها كانت مختطفة وأجبرتها جماعة مسلحة على تسجيل عدة مقاطع فيديو والتهديد بنشرها إن هي عادت للاحتجاجات.
السلطات استخدمت القوة لقمع المتظاهرين والمتظاهرات كالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع والخطف والاعتقال وغيرها من الأساليب لإيقاف الثورة، ومع انتشار فايروس كورونا في البلاد توقفت المظاهرات ولم تحقق الثورة ما كانت تسعى إليه لكن كل ذلك لم يحط من عزيمة النساء. 
في 19 آب/أغسطس 2020 تعرضت سيارة بداخلها أربع نساء لإطلاق نار من قبل مجهولين بينهنَّ الناشطة المدنية ريهام يعقوب التي فقدت حياتها على الفور، وكانت قد شاركت في الاحتجاجات التي عمت البلاد وقادت مسيرات نسائية في محافظة البصرة.
 
أهمية خروج النساء في الاحتجاجات
المجتمع العراقي يتسم بأنه مجتمع محافظ يغلب عليه الطابع العشائري مع أنه الاكثر تنوعاً بين الدول المحيطة به، فمن الناحية القومية يسكنه العرب والكرد والتركمان والشركس، ومن الناحية الدينية فإن فيه المسلمون والمسيحيون والإيزيديون وكل من هذه الديانات لها تفرعاتها فالمسيحيون ينقسمون لنساطرة وأرثوذوكس، منهم من يعود لأصول كلدانية وآشورية وسريانية وأرمنية، كما أن اليهود هم أقدم الشعوب المعتنقة للديانة التوحيدية في العراق، لكن أعدادهم قلت كثيراً بعد ترحيلهم إلى فلسطين عام 1948، وما يزال عدد منهم في إقليم كردستان، هناك طوائف عديدة في البلاد منها الصابئة والكاكائية والزرادشتيون، وبالتأكيد هناك الشيعة والسنة.
بقي الكرد بمعزل عن الخلافات الطائفية مستفيدين من استقلالهم في إقليم كردستان منذ عام 1991 بعد معاناة كبيرة، حيث عملت الدول القومية التي سيطرت على أجزاء كردستان على تهميش الكرد ومحاولة إبادتهم جسدياً وثقافياً. 
في عام 2005 تم التصديق على دستور جديد تَضَمنَ تحديد منطقة إقليم كردستان ككيان اتحادي ضمن البلاد وبقي الإقليم الذي تعيش فيه المرأة حياةً أفضل مقارنة مع نظيرتها العراقية بمنأى عن الاحتجاجات التي عمت البلاد عام 2019. 
الكرد من أقدم الشعوب التي سكنت منطقة ما بين النهرين وساهمت في تطوير حضارتها، كرد اليوم هم أحفاد الهوريين "الحوريين" مؤسسي مملكة ميتاني عام 1500 ق.م، والتي استمرت حتى عام 1300ق.م، وشكل الكرد غالبية سكانها، واستخدمت اللغة الكردية كلغة رسمية فيها.
امتدت مملكتهم من الغرب إلى سلسة جبال طوروس غرب كردستان وحتى كركوك جنوب شرق كردستان ونهر دجلة، حتى مملكة ماري جنوباً.
 
المساهمة النسائية في الاحتجاجات
على جدران الأبنية رُسمت لوحات معبرة عن مشاركة المرأة في الثورة، النساء خرجنَّ إلى الساحات وتظاهرنَّ أمام المدارس وداخل الجامعات. وقفنَّ جنباً إلى جنب مع الرجل. قدمنَّ المساعدات الطبية للمحتجين/ت.
الشابات أسهمنَّ في رسم اللوحات الجدارية، وإصدار جريدة ورقية لنقل يوميات الثورة باسم "تك تك"، وطالبات الطب المتخرجات واللواتي لم يحصلنَّ على عمل وجدنَّ في الثورة فرصة لهنَّ للمشاركة في تغيير الأوضاع وإنهاء الفساد والمحسوبيات وتأمين فرص عمل للعاطلين وليأخذنَّ بدورهنَّ فرصتهنَّ في العمل بمجال اختصاصهنَّ. 
الرجال مع النساء يداً بيد يحضرون الطعام ويشاركون في تنظيف أماكن التظاهر كساحة التحرير والمطعم التركي من أجل يوم أخر يبدأ مع أول خيوط الفجر.
 
"بناتك يا وطن" 
خرجت أول مظاهرة نسائية حاشدة في العاصمة العراقية بغداد دعماً للحراك، في شباط/فبراير 2020 ارتدت النساء العراقيات اللون البنفسجي والوردي تحت شعار "لست عورة"، كان من المخطط أن تنظم المظاهرة في ساحة التحرير وسط العاصمة فقط، لكنها اتسعت حتى شملت كافة ساحات الاعتصام في العراق.
لتشجيع المشاركة في المظاهرة دشنت المغردات على وسائل التواصل الاجتماعي هاشتاغ "بناتك يا وطن" وذلك رداً على الجماعات التي عمدت إلى نشر الإشاعات وتشويه سمعة المشاركات في الاحتجاجات، لكسر عزيمتهنَّ منها اتهامهنَّ بتلقي دعم مالي من جهات أجنبية للخروج في المظاهرات، لكن موقف المتظاهرات بدا صلباً أمام هذه الهجمة حيث قالت أميرة الجابر إحدى الناشطات في الحراك الشعبي أنهنَّ بصدد إقامة دعوى قضائية ضد من يقف وراء تلك الاشاعات.
المتظاهرات حملن لافتات كتب عليها "أنتِ الثورة وهم العورة" رداً على التصريحات التي تُعيب الاختلاط بين الجنسين في أماكن التظاهر وكان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أنتقد الاختلاط وطالب بالفصل بين الجنسين.
 
لماذا خرجت النساء؟
دستور البلاد لعام 2005 أعطى العراقيين الحق في تطبيق مذاهبهم الخاصة وفق الشريعة الإسلامية التي أصبحت مصدر للحكم في العراق بشكل أكبر بعد الغزو الأمريكي، وتختلف المحاكم بين شيعية جعفرية وسنية أتفق كلاها على هضم حقوق المرأة وتكريس الطائفية، إضافة لقانون أحوال شخصية خاص بالمسيحيين.   
لم تتخذ الحكومات المتعاقبة على العراق خطوة جدية باتجاه تغيير القوانين التي تقف ضد حقوق المرأة، حتى بعد مصادقة البلاد على اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة "سيداو" في عام 1986.    
عانت النساء من الأنظمة التي حكمت العراق، وعانين من تبعات الغزو الأمريكي عام 2003 فالسلطات التي جاءت بعد ذلك فرضت قوانين دينية ذكورية. كذلك انعكس الفساد على حياة العراقيين نساءً ورجالاً ففي دولة لا يحظى الرجال فيها على فرص عمل ترتفع نسبة البطالة بين النساء لتتجاوز عتبة الـ 80 بالمئة النساء اللواتي فقدن معيلهنَّ بسبب القتل والاعتقال ساءت أوضاعهنَّ بشكل كبير. 
كذلك تعرضت العديد منهنَّ للاعتقال خلال حكم صدام حسين وبعد الغزو الأمريكي أيضاً ففي تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش عام 2014 تم الكشف عن الآلاف السجينات اللواتي يقبعنَّ في المعتقلات ويتعرضنَّ لممارسات لا إنسانية، التقرير حمل عنوان "لا أحد يعيش في أمان"، ساهمت جمعيات للدفاع عن حقوق المرأة في العراق في إلقاء الضوء على هذه الفئة من النساء اللاتي تتعرضنَّ للشتم والضرب والتحرش ومختلف الانتهاكات والممارسات. الأرقام التي أعلن عنها رسمياً بينت أن 40 ألف شخص يقبعون في السجون منهم 1100 امرأة. يزداد العنف الطائفي بين السنة والشيعة وترتفع أعداد السجينات بسبب هذه المعضلة الصعبة الحل. 
المرأة هي أكثر فئات المجتمع تضرراً من الفقر. صندوق الأمم المتحدة الإنمائي وصف الفقر بأنه عبء تتحمله المرأة خاصة في الدول النامية، وفي العراق هناك أسر كثيرة تعيلها نساء، فمنذ تسعينات القرن الماضي تعاني النساء من العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد. 
الفقر في العراق هو الشعرة التي قسمت ظهر البعير، فرغم أن البلاد تتربع على ثروة نفطية هائلة إلا أن شعبها يعيش في فقر مدقع، بحسب إحصائيات عديدة فإن شخصاً من بين خمسة أشخاص يعيش تحت خط الفقر. 
وزارة التخطيط العراقية كشفت أن نسبة الفقر في البلاد عام 2018 وصلت إلى 20 بالمئة، وفي بعض المحافظات تجاوزت النسبة 50 بالمئة، كما في محافظة المثنى حيث وصلت النسبة لـ 52 بالمئة.
لم يطرأ تغير إيجابي على نسبة الفقر بل إنها ارتفعت إلى 31 بالمئة عام 2020، جراء جائحة كورونا، ففي تقييم صادر عن وزارة التخطيط العراقية عام 2020 كان 42 بالمئة من العراقيين من الفئة الهشة يعانون من الحرمان من التعليم والصحة وظروف معيشية صعبة. و4.5 مليون عراقي يواجهون خطر الوقوع تحت خط الفقر.