غزة تُلملم جراحها.. بطلات خلف خطوط النار

وسط ألم الحرب يسطع أمل الهدنة، حاملاً معه قصص صمود إنساني لا تُنسى وواقع قاسٍ ترك بصماته على الجميع.

نغم كراجة

غزة - بعد 470 يوماً من القصف المكثف، ومعاناة تفوق الوصف، دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في شمال قطاع غزة اليوم الأحد 19 كانون الثاني/يناير ليُدخل معه بصيص أمل لسكان عايشوا الحرب وكأنها أبدية.

بين فرحة الهدنة والحزن العميق على ما خلفته الحرب، خرجت الصحفية آية شمالي تجوب شوارع الشمال، تهلل بفرح وتشارك سكان القطاع الذين ذاقوا الموت والجوع والدمار، كانت نموذجاً حياً للصمود ؛ فهي صمدت رغم كل الظروف، وأصرت على تأدية رسالتها المهنية وسط النيران التي لم ترحم أحداً.

تقول آية شمالي بصوت ملؤه التأثر وتختلط فيه مشاعر النجاة بالخوف العالق في الذاكرة، التي بقيت على رأس عملها الصحفي، تغطي لحظة بلحظة ما يجري في الميدان، رغم فقدانها العديد من أحبتها، وإصابة بعض أفراد عائلتها في الغارات الإسرائيلية، "لا أصدق أننا وصلنا إلى هذه اللحظة! ظننت أن الموت سيلاحقنا حتى النهاية"،  مضيفةً "كنت أتنقل من حي إلى آخر أبحث عن الحقيقة، كنت أرى الجثث، أسمع صراخ الأمهات، وأشعر أنني أحمل على عاتقي مسؤولية نقل معاناة أهالي غزة إلى العالم". 

وعلى الرغم من القصف المتواصل والمجاعة التي تفشت بسبب الحصار، لم تثنها التهديدات المتكررة والانتهاكات التي طالتها هي وزميلاتها، تقول وهي تغالب دموعها "الصحفيات الفلسطينيات كن وما زلن حجر الأساس في توثيق هذه الحرب القاسية، نحن لسنا فقط شهوداً، وجزء من القصة، لقد عايشنا الموت، حملنا الكاميرات وسط الدمار، وواصلنا العمل وكأننا نحارب بأسلحتنا الخاصة".

 

الكوادر الصحية خط الدفاع الأخير

من جانب آخر، كان للصحة نصيب كبير من الألم، حيث أظهرت الطواقم الطبية صموداً أسطورياً خلال الحرب، الطبيبة إيمان الزعبوط التي عملت بلا انقطاع في المستشفى الأهلي شمال القطاع، تحدثت عن تلك اللحظات التي وصفتها بأنها "أطول من أعمارنا"، وقالت بصوت يغزوه التعب الممتزج بالراحة "كنا نعمل وكأننا في سباق مع الموت، المصابون يأتون بالعشرات، والجروح أعمق من أن تُشفى بسهولة، كنا نعرف أن أي تأخير يعني فقدان حياة جديدة". 

إيمان الزعبوط، التي لم يغمض لها جفن طوال فترة الحرب، أكدت أن وقف إطلاق النار كان أشبه بحلم بعيد المنال "اليوم، ونحن نرى الهدوء يسود ولو بشكل مؤقت، أشعر وكأنني أستعيد أنفاسي بعد سنوات من الغرق حتى المرضى الذين كان اليأس قد تملك منهم، رأينا في أعينهم اليوم بارقة أمل، لا يمكنني وصف فرحتنا رغم كل الألم الذي نحمله في قلوبنا". 

وتلفت بنبرة فخر "الصمود الذي أبدته الكوادر الصحية كان بطولياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، زميلاتي في المستشفى لم يغادرن أماكنهن رغم الخطر، ورغم كل ما مررنا به من قصف متواصل ونقص حاد في الإمدادات الطبية، هناك من سهرت الليالي لخدمة المصابين بلا كلل، وهناك من تطوعت للعمل فقط لأنها شعرت أن الوطن بحاجة إليها". 

 

التحديات المتراكمة... روايات لا تنسى

كل من آية شمالية وإيمان الزعبوط اتفقتا على أن وقف إطلاق النار لن يمحو الندوب التي خلفتها الحرب، فالقصص التي حملتها كل منهما أشبه بكابوس لا يُنسى.

آية شمالي، التي غطت أكثر من 13 شهراً من القصف والانتهاكات، تقول إنها رأت الموت أكثر من مرة "عندما أقول إنني نجوت بمعجزة، فأنا أعني ذلك حرفياً، في إحدى المرات، كنت أقوم بتوثيق مشاهد من الدمار في حي سكني، وفجأة وقع انفجار هائل على بعد أمتار، شعرت وكأنني فارقت الحياة، لكنني فتحت عيني لأجد نفسي على قيد الحياة". 

أما إيمان الزعبوط، فتتذكر اللحظات القاسية التي مرت بها عندما كانت تواجه خيارات صعبة "عليك أن تختار من بين عشرات الجرحى من يمكنك إنقاذه، ومن لا تملك له سوى الدعاء، هذا الشعور يقتل الروح، ورغم ذلك لم نستسلم، بل كنا نواصل العمل لأننا نعلم أن كل دقيقة تُحدث فرقاً". 

كلتاهما وجهتا تحية خاصة للشعب الفلسطيني، الذي تحمل الألم والجوع والدمار وظل متمسك بحلمه بالحرية والكرامة، وتُمجد آية شمالي "أمهات الشمال هن أعظم من عرفت، يحمين أطفالهن تحت القصف، وتقمن بنقلهم من ملجأ إلى آخر، ويحكين لهم قصصاً عن الحرية، إنهن رمز للصمود الحقيقي". 

في حين أشادت إيمان الزعبوط بزميلاتها في القطاع الصحي، قائلة "لو كان هناك وسام شرف يُمنح للإنسانية، لكنّ هؤلاء النساء أولى به، هنّ من سهر الليالي ووقف بجانب المرضى، وتحمل كل أنواع الضغوط النفسية والجسدية، لا يمكن أن أنسى زميلة لي كانت تعمل لساعات طويلة رغم فقدانها أحد أقاربها في القصف". 

 

بين الحرب والسلام غزة تنبض من جديد

ورغم أن الفرح يبدو سيد اللحظة مع دخول الهدنة حيز التنفيذ، فإن جراح غزة لم تلتئم بعد، الصحفية آية شمالي تؤكد أن هذه الفرحة لا تعني النهاية بل هي بداية لمرحلة جديدة من الصمود وإعادة الإعمار "لدينا الكثير لنفعله، سنعيد بناء منازلنا، وسنروي للعالم قصصاً عن معاناتنا، وسننقل الحقيقة كما هي". 

بينما تشير الطبيبة إيمان الزعبوط إلى أن الجرحى بحاجة إلى رعاية طويلة الأمد، وأن القطاع الصحي يجب أن يكون على أهبة الاستعداد لأي طارئ جديد "علينا أن نستعد لما هو قادم، فوقف إطلاق النار ليس نهاية الحرب، لكنه فرصة لنا لالتقاط الأنفاس، أتمنى أن يكون هذا بداية جديدة لغزة، بداية تستحقها".