بمناسبة مرور 9 سنوات على مجزرة باريس... مقتطفات من حياة ساكينة جانسيز

تعرّف بشرى علي المناضلة ساكينة جانسيز التي قامت بترجمة الجزء الأول من مذكراتها "حياتي كلها صراع" المؤلفة من ثلاثة أجزاء ، وتقول "لا يمكننا أن نوفي ساكينة جانسيز حقها في التعريف عنها، فهي ابنة ديرسم من شمال كردستان الواقعة ضمن الحدود التركية

بمناسبة الذكرى التاسعة على مجزرة باريس واستهداف أيقونات الحرية ساكينة جانسيز وفيدان دوغان وليلى شايلمز، نظم مؤتمر ستار في لبنان محاضرة عن مسيرة ساكينة جانسيز والسبب وراء استهدافها. ألقت المحاضرة رئيسة رابطة جين بشرى علي وحاورتها رئيسة رابطة نوروز الثقافية وممثلية مؤتمر ستار في لبنان حنان عثمان، وذلك عبر منصة زووم.  
 
كارولين بزي
 
"من هي ساكنة جانسيز؟" 
بيروت ـ ، وهي المدينة التي تم تتريكها (أصبحت تركية) وتم تغيير اسمها إلى اسم "تنجلي" وتعني القبضة الحديدة، وهذا الاسم يرمز إلى سياسة القمع التي تمارسها تركيا بحق شعب ديرسم الكرد، أولاً لتاريخهم المليء بالانتفاضات والتمردات وثانياً لأن أغلب أبناء وبنات ديرسم من المذهب العلوي والذي كان ولا زال أفراده يتعرضون للاضطهاد من قبل الدولة التركية". 
وتلفت بشرى علي إلى أن ديرسم لم تعرف معنى الدولة أو السلطة إلى أن نُفذ بحق أبنائها مجزرة ديرسم عام 1938، وبالتالي تربت ساكينة جانسيز على حكايات المجزرة لا على روايات الأطفال، كيف فقدت أقاربها وعماتها وخالاتها في هذه المجزرة. ونشأت على أن كل ما يسمى دولة يعني القمع والاستبداد. 
تتميز شخصية ساكنة بروح التمرد على طريقة التربية والعادات والتقاليد البالية، والتمرد على التمييز والفروقات المجتمعية منذ أن كانت في سن الطفولة. وتصفها بشرى علي ببركان ديناميكي وحيوي ومتواصل من التمرد على كل ما لا تجده يتوافق مع منطقها.  
وتروي المزيد عن شخصيتها "مع دخولها إلى المدرسة تعرضت لصهر عبر مناهج التعليم والتدريس.. وكانت تخجل بارتداء الزي الكردي، عندما ذهبت مع والدها إلى أوروبا وتعرفت إلى الرعيل الأول من حركة التحرر الكردستاني المعاصرة الذين لم يكونوا قد أسسوا حزب العمال الكردستاني بعد، تأثرت بشخصياتهم ومواقفهم وسلوكهم ثم بدأت تبحث عن نفسها".
وتضيف "شعرت بالخجل من نفسها لأنها خجلت من زيها التقليدي، كما أنها كانت تخجل بوالدتها التي لم تكن تجيد اللغة التركية، ولكن عندما تعرفت على الحركة لامت نفسها بأنها كانت تخجل بوالدتها لأنها لا تتحدث التركية".
لم تستسلم للقيود المجتمعية وتمردت على والدتها التي حاولت أن تنشئها على تربية كلاسيكية وضمن القوالب الاجتماعية، رفضت التمييز بين الجنسين لأنها فتاة. ذكرت في كتابها كيف كانت تحب الخبز الأبيض الذي يعتبر خبز الأغنياء، وروت حادثة عن جيرانها الذين يتناولون الخبز الأسود وكيف تصرفت عندما طلبت منها ابنة جيران أن تتبادل معها الخبز الأبيض مقابل أن تحصل الأخيرة على خبز أبيض، فبادرت ساكينة وقدمت لجارتها الخبز الأبيض.
أرادت أن تحصل على استقلال اقتصادي فأكملت دراستها وعلى نفقتها الخاصة ولم تكن تريد أن تعيش وتدرس على نفقة والدها.
كانت تتواصل مع كل الطبقات والمستويات الفكرية، لتكسب ثقتهم وتروج للقضية التي آمنت بها وهي قضية الشعب الكردي وتوضح لهم آلام ومعاناة الشعب الكردي. 
 
"لهذا السبب تعرضت ساكينة جانسيز للقمع" 
وذكرت بشرى علي ثلاثة نقاط ساهمت بجعل ساكينة جانسيز تتعرض للقمع وهي، أولاً لأنها امرأة تعرضت للقمع وتمردت عليه. ثانياً تعرضت للقمع لأنها كردية وثالثاً لأنها علوية، وبالتالي راكمت كل هذه الضغوط التي فجرتها على شكل بركان من التمرد. 
وتتابع "تزوجت ابن عمها من أجل أن تخدم الثورة ففي الحركات اليسارية كان هناك ما يسمى زواج ثوري، وبالتالي رأت بهذا الزواج وسيلة للهروب من العائلة والانطلاق بقضيتها وحياتها الثورية، ولكن عندما وجدت الزواج أقسى من القيد العائلي تمردت على الزواج الكلاسيكي وانفصلت عن زوجها، وبدأت انطلاقتها الثورية مع حزب العمال الكردستاني".
وتضيف "تعرفت إلى الرعيل الأول من المجموعة الفكرية لحركة التحرر الكردستاني المعاصرة عبر مجموعة صغيرة من الشبان الطلاب المثقفين الجامعيين الذين كانوا يستأجرون بيتاً في ديرسم قرب منزلها، أُعجبت بأخلاق هؤلاء الشبان وسلوكهم وكرامتهم، وقامت بزيارتهم برفقة شقيقها للتعرف عليهم، ثم بدأت نقاشاً فكرياً معهم، وسألها أحدهم لماذا لا تقرأ بما أنها جامعية، فاجأها السؤال بأن يطرح شخص هذا السؤال على امرأة في تلك الأيام. خلال نقاشاتها معهم وجدت أنهم يتحدثون بمواضيع مثل الاستقلال وتحرير كردستان والمرأة وحقوقها وضرورة المساواة بين الشعوب، ثم انجذبت لهذه المجموعة وأفكارها".  
وتلفت إلى أن "تمرد ساكينة جانسيز على الواقع الذي كان يقيدها كان القاسم المشترك الذي جمعها بهذه المجموعة التي أتت من مختلف المناطق مع الأفكار التي طرحتها عن الاشتراكية والحرية والوطن كردستان... تعرفت على الفكر الاشتراكي ولكن برؤية مختلفة عن الأحزاب التي كلامها كان أقرب إلى الشعارات". 
عندما سافرت إلى أنقرة تعرفت إلى القائد عبد الله أوجلان، وجذبها سلوكه وشخصيته المتواضعة بالإضافة إلى الكاريزما التي يتمتع بها وكلامه عن المرأة وبوجوب تحريرها وبأن حرية المجتمع تمر بحرية المرأة، ولم يكن حينها حزب العمال الكردستاني قد تأسس بل مجموعة فكرية. 
في المؤتمر التأسيسي لحزب العمال الكردستاني كان هناك 23 شخصاً بينهم امرأتين فقط وهما ساكينة جانسيز وكثيرة يلدريم.
 
دور ساكينة جانسيز في توعية المرأة وتنظيمها   
وتلفت إلى أن "ساكينة جانسيز هي الشخصية التي أسست للتنظيم النسائي الخاص وشبه المستقل ضمن الحركة التحررية الكردستانية المعاصرة، وكانت من أوائل المناضلات اللواتي فكرن بإنشاء مجموعات نسائية توعوية خاصة بالنساء. عندما طرحت الفكرة على القائد عبد الله أوجلان وجد أن هذه الفكرة ممتازة وطلب منها أن تنفذها لأننا نريد أن نترجم حرية المجتمع تمر من حرية المرأة، ومنحها كامل الصلاحيات لخدمة هذا الأمر، وذلك بداية السبعينات". 
وتتابع أنه "لم يكن هناك مصادر واسعة حول القضية الكردية، فالرعيل الأول كان يبحث في الكتب عن كلمة كردستان بكل المكتبات وما كتب عن الكرد وكردستان، لم يكن يوجد هذا الزخم الجماهيري".  
وتشير إلى أن حس التضحية ونكران الذات لساكينة جانسيز وزملائها نابع من الإيمان بوطن اسمه كردستان، الإيمان بالنظرية الاشتراكية بأنها أساس للمساواة بين كل الشعوب، المساواة بين الجنسين وإلغاء التمييز الطبقي والعنصري.  
تعتبر أن ما ميز حركة التحرر الكردستاني هو ردم الهوة بين الفكر والمبدأ والممارسة العملية التي شاركت ساكينة جانسيز بتأسيسها. وتشير إلى أنها وزملاءها قاموا بتوعية المجتمع بيت بيت، امرأة امرأة وشاب شاب أي كل فرد بفرده وذلك وفق شروط سرية لأن أي إخلال بهذه السرية كان يمكن أن تكون خاتمته الاعتقال. 
 
اعتقال ساكينة جانسيز  
اعتقلت ساكينة جانسيز عندما كانت في الواحدة والعشرين من عمرها إثر انقلاب 12 أيلول/سبتمبر 1980 وتم زجها في أحد أسوأ السجون في تركيا وهو سجن ديار بكر حيث مورست بحقها أبشع الممارسات الوحشية مع كل المعتقلين في السجون التركية.
لكنها لم تستلم بالرغم من السجن ولم تكن تخاف من المحكمة أو تحاول أن تخفي انتماءها الحزبي بل قدمت دفاعاً سياسياً عن نفسها وبأنها تناضل من أجل الحرية والمساواة وإلغاء التمييز الطبقي، وفق ما تقول بشرى علي وتضيف "ما يميز ساكينة جانسيز أنها كانت منبعاً للمرح والمعنويات والقوة، وكانت قوة محركة للنساء داخل السجن. واشتهرت خلال فترة اعتقالها بمواجهتها للسجان شاهيد يلدريم الذي بصقت في وجهه عندما حاول أن يسحل العديد من الشابات السجينات، وقالت له لن أخاف منك". 
اختبرت تجربة المقاومة داخل السجون التركية، ثم توجهت إلى جبال كردستان واختبرت تجربة حمل السلاح، وتحولت إلى امرأة مقاتلة. 
توضح بشرى علي أنه عند "وصول ساكينة جانسيز إلى جبال كردستان كانت في نهاية عام 1991 حيث كانت تدور حروب شرسة، وكان هناك عملية فدائية هي الأولى من نوعها ضمن حزب العمال الكردستاني وهي عملية بريتان ديرسم والتي صمدت وتحدت روح الخيانة والأطراف التي كانت تحارب حزب العمال".   
بعد هذه العملية طرح القائد عبد الله أوجلان أطروحة مهمة بأن عملية بريتان ديرسم أثبتت أن المرأة الكردية بالفعل تستطيع أن تكون ريادية حتى بالمجال العسكري، وأكثر من تشبث بهذه الأطروحة كانت ساكينة جانسيز وكان لها دور فعال في تأسيس جيش المرأة ضمن الجيش الكردي العام للمقاتلين الكرد، فأسست الخلايا النسائية المقاتلة ضمن الخلايا العامة، لعبت دوراً مهماً وكبيراً في تأسيس هذا الجيش الذي يحمل اسم قوات ستار، وفي أغلب العمليات العسكرية كان لساكينة جانسيز دور في وضع التكتيك العسكري، بالإضافة إلى تنظيم صفوف المقاتلات الكرديات وانضباطهن وارتباطهن مع الوعي الفكري والسياسي لهؤلاء المقاتلات، وكانت تقول بأنه لا سلاح بدون فكر".   
 
اغتيال ساكينة جانسيز  
توجهت ساكينة جانسيز إلى أوروبا للانخراط بالعمل السياسي والدبلوماسي، حيث كانت المحطة الأخيرة لها في قلب العاصمة الفرنسية باريس، حيث تعرضت مع فيدان دوغان وليلى شايلمز لمجزرة أُطلق عليها اسم مجزرة باريس.  
تتحدث بشرى علي عن حادثة الاغتيال وتروي بعض التفاصيل قبل الاغتيال وتقول "كان هناك اتفاقية أمنية بين تركيا وفرنسا في العام 2007 فيما يخص حزب العمال الكردستاني، قبل حادثة الاغتيال كانت تركيا قد طالبت فرنسا وبلدان أوروبية أخرى بتسليم أفراد حزب العمال الكردستاني، رفضت فرنسا لأنها لو فعلت ذلك في العلن كان ستفضح نفسها. في تلك الفترة التي سبقت الاغتيال مباشرةً وتحديداً مع نهاية 2012 وبداية 2013 كان هناك بداية لحوار لحل القضية الكردية من بعد اتفاقيات أوسلو التي بقيت لفترة طويلة سرية فيما يتعلق بحل القضية الكردية. وكان هناك نية لأن يبدأ حوار مباشر بين الدولة التركية وبين القائد عبد الله أوجلان وكان لأوجلان خريطة طريق لحل القضية الكردية كان قد طرحها خلال مرافعاته وأصدرها ضمن كتيب يحمل الاسم خريطة طريق لحل القضية الكردية. في تلك الفترة صرحت السلطات التركية بأنها تريد حل القضية الكردية بشكل سلمي، فإذا بنا نسمع بمجزرة باريس". 
أما عن سبب استهداف ساكينة جانسيز، فتقول بشرى علي "لأنها من مؤسسي حزب العمال الكردستاني والحركة النسائية التحررية الكردستانية، وثانياً فيدان دوغان هي ممثلة المؤتمر القومي الكردستاني وهو مظلة للوحدة الكردية، وثالثاً ليلى شايلمز هي ممثلة الشبيبة هناك. أما التوقيت فهو استهداف لكل محاولات الحل السلمي للقضية".
وبعد الاغتيال، اعتبر القائد عبد الله أوجلان أنه تم استهداف السلام ومحاولات السلام من أجل القضية الكردية وقد تم استهداف النهج الأوجلاني السلمي عبر استهداف ساكينة جانسيز.   
وتعتبر رئيسة رابطة جين بأن القوى العالمية الامبريالية ومن بينها تركيا تعرف قوة المرأة في حال انتفضت، لذلك تقوم باغتيال وقتل واغتصاب النساء ومن بينهن ساكينة جانسيز.