إقليم شمال وشرق سوريا بين عبء المخيمات وإرث داعش ـ 3

يواجه إقليم شمال وشرق سوريا، الذي يقف في الخط الأمامي لمواجهة داعش، أزمة إنسانية وأمنية معقدة تتمثل في احتجاز ورعاية الآلاف من عائلات داعش داخل المخيمات، هذه الأزمة، التي تفاقمت ألقت بظلالها الثقيلة على المجتمع.

شيلان سقزي

مركز الأخبار ـ بينما تتنصل القوى الكبرى من مسؤولياتها فيما يتعلق بملف داعش، يترك إقليم شمال وشرق سوريا ليدفع وحده أثماناً باهظة، في صورة صارخة لانعدام العدالة وتراجع الأخلاق في إدارة الأزمات العالمية. 

الجزء الثاني من الملف أوضح كيف أن الفراغ القانوني، وامتناع الدول عن تحمل المسؤولية، حول مخيمات إقليم شمال وشرق سوريا إلى مأزق إنساني وأمني. لكن الأزمة لا تتوقف عند حدود القانون والعدالة؛ بل إن تبعاتها تثقل بشكل مباشر على الاقتصاد والمجتمع ومستقبل منطقة أنهكتها الحرب، وهو ما سنتناوله في الجزء الثالث، صحيح أن له بعد خفي ولكنه حاسم، ألا وهي الكلفة الإنسانية والاقتصادية والسياسية التي اضطر إقليم شمال وشرق سوريا لدفعها في ظل غياب العدالة. 

إن إدارة مخيمات احتجاز عائلات داعش في إقليم شمال وشرق سوريا، تمثل نموذجاً صارخاً للاقتصاد السياسي للأزمات، حيث تقع التكاليف المباشرة وغير المباشرة على كاهل الأضعف. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عشرات ملايين الدولارات تنفق سنوياً لتأمين الحماية والغذاء والرعاية الصحية وإدارة هذه المخيمات.

ووفقا لتقارير محلية ومنظمات غير حكومية، تبلغ تكلفة إدارة مخيم الهول وغيره من المخيمات في إقليم شمال وشرق سوريا ما بين 50 إلى 70 مليون دولار سنوياً، هذا المبلغ يُغطى جزئياً عبر دعم محدود وأحياناً مشروط من منظمات دولية وبعض الحكومات الغربية، لكن العبء الأكبر يقع على المنطقة نفسها، وهي منطقة تعيش حالة حرب وانتقال سياسي. 

ومع ذلك، فإن المجتمع في إقليم شمال وشرق سوريا لا يتحمل فقط الأعباء المالية، بل يواجه أيضاً تبعات إنسانية ثقيلة من ضغوط نفسية واجتماعية ناجمة عن وجود آلاف الأشخاص في المخيمات، بينهم أطفال حديثو الولادة ونساء ورجال تخلت عنهم دولهم الأصلية.

إن الاقتصاد السياسي لإدارة هذه المخيمات يعكس بوضوح اللاعدالة وانعدام المسؤولية على المستوى العالمي، فكيف يطلب من إقليم شمال وشرق سوريا وشعبها، وهم أنفسهم ضحايا الحرب والتهديد، أن يدفعوا ثمناً باهظاً؟ ثمناً لا يقتصر على المال، بل يشمل الأخلاق والمجتمع والإنسانية، هذه الحقيقة المريرة تكشف كيف تتحول الأزمات الإقليمية إلى أدوات للسياسات غير المتكافئة والاستغلال الاقتصادي، وكيف يتغاضى المجتمع الدولي عنها، ملقياً عبء الأزمة على الهامش. 

إعادة التأهيل أم فخ سياسي؟ 

إن البرامج البديلة وخطط إعادة التأهيل وإعادة الإدماج في المجتمع التي نفذت لعائلات وبقايا داعش في إقليم شمال وشرق سوريا ومناطق أخرى من العالم، هي مثال على محاولات نصف ناجحة ومليئة بالتناقضات في إدارة الأزمات الأمنية ـ الاجتماعية. هذه النماذج، رغم أهدافها الإنسانية، غالباً ما تقع في قلب النزاعات السياسية، والقيود البنيوية، والقصور التنفيذي. 

لقد حاولت الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، رغم محدودية الموارد والضغوط السياسية، إطلاق عدة برامج لإعادة التأهيل تشمل تعليم مهارات الحياة، التدريب المهني، والدعم النفسي، لكن هذه المشاريع غالباً ما توقفت في منتصف الطريق، واصطدمت بغياب الدعم الدولي والانسداد السياسي. 

في مخيمات روج وعين عيسى، جرت محاولات لتعليم الأطفال والنساء، وهي نماذج لإعادة التأهيل، لكنها واجهت مشكلات خطيرة مثل نقص الإمكانات، هشاشة الأمن، والمخاوف الحقوقية. 

إن غياب التخطيط طويل الأمد والميزانية الكافية يعد العامل الأهم في فشل هذه النماذج، إضافة إلى العجز عن بناء شبكات دعم شاملة تشمل التعليم، الصحة النفسية، وفرص العمل. كما أن الضغوط السياسية والأمنية، التي تعطي الأولوية للسيطرة والقمع، تؤدي إلى تجاهل الأبعاد الإنسانية والحقوقية لإعادة التأهيل. 

وبالتالي، فإن برامج إعادة التأهيل ومكافحة التطرف، وإن بدت في ظاهرها حلولاً للأزمة، إلا أنها في الواقع تقع في فخ السياسات الأمنية والمصالح الوطنية. هذه النماذج، من دون دعم واسع، وضمانات قانونية، والتزام طويل الأمد، محكوم عليها بالفشل. الدرس الأساسي هو أن إعادة التأهيل لا يمكن أن تنجح إلا عبر مقاربة إنسانية ـ قانونية ـ سياسية متوازنة، وبمشاركة المجتمع الدولي وتحمّل المسؤولية. وإلا فإن هذه المشاريع ستتحول إلى أدوات تعمق الأزمة بدل أن تحلها. 

 

صفقة قانونية ـ سياسية أم لعبة قوة؟ 

تحول ملف احتجاز عائلات داعش في مخيمات إقليم شمال وشرق سوريا إلى ساحة معقدة تتقاطع فيها الضغوط الدبلوماسية والتنافس بين القوى الإقليمية والدولية. القضية لم تعد مجرد تحدٍ قانوني أو إنساني، بل أصبحت أداةً تستخدمها الدول لتحقيق مصالح سياسية وجيوسياسية. في هذا السياق، تبدو الحاجة إلى صياغة "صفقة قانونية ـ سياسية" متوازنة وفعالة أمراً ملحاً، لكنه في الوقت نفسه شديد التعقيد. 

الحلول المطروحة تتحدث عن "حزمة متعددة الأبعاد"، محاكمات عادلة وفق المعايير الدولية، برامج لإعادة التأهيل تشمل الأطفال والنساء، وهيئات رقابية مستقلة لضمان الشفافية. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مطالبان بتوفير الدعم السياسي والمالي، فيما يُفترض أن تضمن روسيا وإيران أن إعادة الأفراد لا تهدد استقرار المنطقة. 

كما يطرح خيار إنشاء هيئة دولية متخصصة تضم الأمم المتحدة ودول المنطقة ومنظمات حقوقية، لتوزيع العبء القانوني والسياسي ومنع احتكار القوة.  لكن من دون هذه الصفقة القانونية ـ السياسية، سيظل الملف عبئاً إنسانياً وأمنياً ثقيلاً، ويتحول إلى أداة بيد القوى الكبرى. النتيجة أن المجتمع المحلي وضحايا الحرب هم من يدفعون الثمن، بينما يؤجل الحل العادل والإنساني. 

إقليم شمال وشرق سوريا الذي يقف في الخط الأمامي لمواجهة إرهاب داعش متعدد الجنسيات، أصبحت ساحةً يتسابق الجميع لاستغلالها، لكن لا أحد يريد أن يتحمل التكلفة الحقيقية أو المسؤولية الكاملة، وهكذا تكشف الأزمة عن حجم اللاعدالة واللامبالاة العالمية تجاه مأساة إنسانية وسياسية عميقة. 

 

لا أخلاقية الدولة في مأزق إنساني 

في النهاية، يظل السؤال بلا إجابة وهو تحدٍ للتناقض العميق الذي نشأ في مواجهة الأزمات الإرهابية، كيف يمكن، بعد فترة قصيرة من الجرائم الواسعة التي ارتكبها الإرهابيون، أن يتجه معظم الفاعلين السياسيين والإعلاميين والحقوقيين نحو التعاطف والشفقة مع هذه الجماعات، بينما يعزل خط المقاومة الحقيقي ضد الإرهاب بشكل منهجي، ويشوه، ويستهدف بهجمات إعلامية وقانونية؟

هذا الواقع يعكس سياسة مزدوجة وأداتية على المستوى الدولي، حيث تحل الصور الموجهة والروايات المنحازة محل الحقائق الميدانية والأخلاقية. المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام العربية، عبر التركيز على تضخيم الادعاءات السلبية ضد إقليم شمال وشرق سوريا، تحاول رفع عبء مسؤولية مكافحة الإرهاب واحتجاز بقاياه عن كاهل القوى الدولية والإقليمية. 

الوضع السائد اليوم في أزمة إعادة عائلات داعش في مخيمات إقليم شمال وشرق سوريا هو مثال صارخ على الفشل السياسي عالمياً وإقليمياً، فالأخلاق تقتضي أن الدول لا تضمن فقط حقوق مواطنيها، بل تتحمل أيضاً مسؤولية الأمن الجماعي والعدالة التاريخية. إن اللامبالاة واللعب السياسي بأرواح آلاف البشر، تجاوز للخطوط الحمراء الأخلاقية وتحويل للأزمة إلى جريمة مضاعفة ضد الإنسانية. 

من منظور العدالة، فإن قرار "الإعادة أو عدم الإعادة" ليس مجرد خيار سياسي، بل قضية معقدة ذات أبعاد قانونية وإنسانية وأمنية تتطلب توازناً دقيقاً. إن رفض الإعادة يترتب عليه تكاليف اقتصادية وبشرية طويلة الأمد، ويؤدي إلى انعدام الأمن، وإعادة إنتاج التطرف، وأزمات إنسانية تهدد المنطقة بأكملها. 

النماذج العملية التي يمكن أن تحفظ الأمن والحقوق بشكل متوازن يجب أن تقوم على مبادئ الشفافية والعدالة الانتقالية والعدالة التصالحية. من الضروري أن تُنشأ هياكل دولية وإقليمية لتسهيل إعادة آمنة، مع محاكمات عادلة، ودعم نفسي واجتماعي، وبرامج لإعادة التأهيل ونبذ العنف. مثل هذا النهج لا يوزع العبء الأخلاقي فحسب، بل يقلل أيضاً من التهديدات الأمنية والأزمات الإنسانية. 

اليوم أكثر من أي وقت مضى، يجب التخلي عن سياسات اللامبالة، وأن تتحرك الدول بخطة عملية متعاطفة للخروج من هذا "المأزق الإنساني"، مع احترام الكرامة الإنسانية والأمن الجماعي. استمرار هذا الوضع لا يؤدي فقط إلى تفاقم الكارثة الإنسانية، بل يهدد بانهيار الأخلاق الجماعية والأمن الإقليمي. 

إن إدانة سياسة اللامبالاة غير كافية؛ المطلوب هو العمل والمسؤولية الفورية. إنها امتحان جدي للمجتمع الدولي، هل يستطيع تجاوز السياسات النفعية القصيرة المدى وتحقيق العدالة والأمن المستدام، أم سيظل شاهداً على سقوط الأخلاق أمام المصالح الضيقة؟ 

أزمة احتجاز وإعادة عائلات داعش هي اختبار صعب لأخلاق المسؤولية الجماعية والعدالة التاريخية، وقد عجزت الدول والمؤسسات الدولية عن مواجهته. فقرار "الإعادة أو عدم الإعادة" ليس مجرد سياسة، بل قضية أخلاقية ـ إنسانية تمزج بين حقوق الإنسان والأمن الجماعي والعدالة الاجتماعية. 

سياسة اللامبالاة التي انتهجتها الدول، والتي أدت عملياً إلى ترك مواطنيها في المخيمات، لا تفرض فقط تكاليف إنسانية فادحة على الناجين، بل تلقي أيضاً عبئاً أمنياً ثقيلاً على المناطق المتضررة والمجتمع الدولي، هذا الهروب من المسؤولية يغذي من جهة أزمات أمنية وتطرفاً جديداً، ويقوض من جهة أخرى العدالة وحقوق الضحايا. 

الحلول الحقيقية يجب أن تبحث عند تقاطع الأخلاق والعدالة والأمن، عبر نماذج تحفظ حقوق الإنسان وتضمن الأمن الإقليمي في آن واحد. وتشمل هذه الحلول إعادة تحت إشراف قانوني، دعم نفسي ـ اجتماعي شامل، محاكمات عادلة وشفافة، برامج لإعادة التأهيل ومنع التطرف. مثل هذا النهج يمكن أن يخفف الضغط عن المناطق الحدودية ويمنع تفاقم الأزمات الإنسانية والأمنية. 

في النهاية، هذا المأزق الإنساني لا يمكن تجاوزه إلا بخطة عملية ملتزمة، تخرج الدول والمجتمع الدولي من حالة الانفعال والسياسة الضيقة، وتضع المسؤولية الإنسانية في المقدمة. إن مجرد إدانة اللامبالاة لا يكفي.