عامين على الزلزال... الألم والذكريات لم تنتهي
رغم مرور عامين على فاجعة الزلزال المدمر الذي ضرب شمال كردستان ومناطق من سوريا، الألم لم ينتهي عند ذلك اليوم والمشاهد لا تزال عالقة في ذاكرة ضحايا الكارثة.
![](https://test.jinhaagency.com/uploads/ar/articles/2025/02/20250207-almadt-jpg09314c-image.jpg)
غفران الهبص
حلب ـ اهتزت الأرض بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر في السادس من شباط/فبراير عام 2023، على خلفية زلزال كارثي ضرب شمال كردستان وعدد من المدن السورية، مخلفاً دماراً واسعاً وأعداداً هائلة من القتلى والجرحى، فيما طُمرت آلاف العائلات تحت الركام في مشهد مروّع لكارثة لم تكن عابرة، بل مأساة أعادت رسم معاناة السوريين بآلام مضاعفة، حيث وجد الناجون أنفسهم بلا مأوى، وسط برد الشتاء القارس وشحّ الموارد.
من قلب تلك المأساة، وقفت فرق الدفاع المدني، المعروفة باسم "الخوذ البيضاء"، في مواجهة كارثة تفوق الإمكانيات، حيث كانت الدقائق الأولى حاسمة، والقرار بالتحرك رغم حجم الدمار كان مسألة حياة أو موت، وبين صفوف هؤلاء المنقذين، برزت نساء خضن معركة مزدوجة لإنقاذ الأرواح العالقة تحت الأنقاض، ومواجهة تداعيات الصدمة النفسية التي لحقت بهن جراء مشاهد الموت والعجز عن إنقاذ الجميع.
وبعد مرور عامين على الكارثة، يقف الناجون وفرق الإنقاذ في لحظات صمت، مستذكرين أرواح الذين فقدوا حياتهم تحت الركام وما زالت مشاهد الدمار شاهدة على فداحة الفاجعة، وما زالت وجوه الناجين تحمل آثار الألم الذي لم يندمل، لكن هذه الذكرى ليست مجرد استعادة للحزن، بل تأكيد على صمود من نجى، ورسالة بأن من حملوا العبء في تلك الأيام العصيبة، لا يزالون بحاجة إلى الدعم، خاصة أولئك الذين كانوا في الخطوط الأمامية لإنقاذ الضحايا، ودفعوا الثمن نفسياً وجسدياً.
وعن كيفية مواجهة النساء العاملات في الدفاع المدني هذه التحديات والأثر الذي تركته الكارثة في نفوسهن، قالت ضحوك العزو مديرة مركز صحة النساء والأسرة التابع للدفاع المدني السوري "أثناء قيامنا بانتشال المدنيين من تحت الأنقاض ووسط الفوضى والغبار المتصاعد، لمحتُ طفلاً صغيراً لا يتجاوز السابعة من عمره، يقف أمام كومةٍ من الركام، عينيه غارقتان بالدموع، ويداه الصغيرتان مضمومتان إلى صدره وكأنه يحتضن وجعه، اقتربتُ منه بحذر وسألته لماذا تبكي يا عزيزي، فرفع رأسه ونظر إليّ بعينين تملؤهما الرجاء، وقال بصوتٍ متقطع تخنقه العَبرات، هنا بيت عمي وابن عمي صديق ليّ يقبع تحت هذه الأحجار، أنا أبكي عليه لأنني أحبه، كنا نذهب إلى المدرسة سوياً، نكتب واجباتنا معاً، نلعب ونحلم بالمستقبل، أرجو منكِ أن تخرجيه من تحت هذه الأحجار لأعانقه".
وأضافت "شعرتُ في تلك اللحظة بأن قلبي يتهاوى مع كل حجرٍ يعلو ركام ذلك البيت، ولم أجد سوى الصمت يلفني، لأنني كنت أعرف أن احتضانه لصديقه بات حلماً قد لا يتحقق أبداً".
لم تتمكن ضحوك العزو من حبس دموعها عندما تحدثت عن المشاهد المهولة التي رأتها لدرجة أن الكلمات أصبحت عاجزة اسعافها، فبين أنقاض منزلٍ مدمّر، كانت قصة حبّ وتضحية تروي نفسها، لكنها انتهت بنهاية مؤلمة، ذلك المشهد الذي لم تتمكن من نسيانه، لحظة وداع بين زوجين اختارا أن يواجهوا الموت معاً، ليبقى الحب الذي جمعهما أقوى من كل شيء.
وأضافت "لا يمكنني نسيان ذلك المشهد، وكأن الزمن توقف في تلك اللحظة، كل شيء كان يتحرك ببطء، نحن في مكانٍ محاط بركام منزلٍ انهار على رؤوس ساكنيه، وكنتُ أتابع مع الفريق عمليات الإنقاذ، وفجأة لمحنا جسدين متشابكين تحت الركام، عندما بدأنا في إزالة الحجارة، كان أول ما لفت انتباهي الزوج الذي كان يحاول بكل قوته أن يحتضن زوجته، وكأنما كان يحاول حمايتها من كل شيء، من الموت، من الألم، من الفقد".
وتابعت "كان معانقاً إياها بحب وكأنه يقول سأموت لأجلكِ، لتعيشي، نظرتُ إليهم والحجارة تحيط بهما، يبدوان كأنهما في لحظة وداع، لكن القدر كان أسرع منهما ليفارقا الحياة معاً، وكأن هذا الموت الموحش لم يفرق بين حبهما وبين لحظة الوداع التي لم تكتمل، انهمرت دموعي دون أن أستطيع السيطرة عليها، في تلك اللحظة شعرتُ أن الكلمات عاجزة، وأن فجيعة الحياة تفوق أي شرح أو وصف".
مقابل الحياة الثمن النفسي لإنقاذ الأرواح
وأكدت ضحوك العزو "مما لا شك فيه أن عملنا لم يكن مجرد مهمة إنقاذ، بل كان معركة نفسية مستمرة، حيث كنا نرى مشاهد لم نكن نتصور أن نعيشها قط، ورغم أننا كنا نعمل بقلوب مليئة بالعزيمة، كانت هناك لحظات من التردد والدموع، خاصة حين كنا نرى الأطفال أو الأمهات، لم يكن الأمر يتعلق فقط بإنقاذ الأرواح، بل كان يتعلق بمواجهة كوابيس لا تنتهي".
وأوضحت أن "ما عشناه من صدمات، ترك فينا آثار عميقة لا تزال تؤثر علينا حتى اليوم لأنها الصدمات تلاحقنا في كل خطوة نخطوها، حتى أن العديد من الزميلات أصبن باضطرابات نفسية، مثل القلق والاكتئاب، فأصوات الركام التي تصدح في آذاننا، ووجوه الضحايا أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية".
وأكدت أنه "رغم ذلك، نحن مستمرون، كوننا نعلم أن دقيقة نعمل فيها، يقابلها إنقاذ حياة شخص، هناك أمل جديد، ونحن مصممات على المضي قدماً، على الرغم من كل الألم الذي نعيشه لكننا بحاجة إلى الدعم، لأن آلامنا النفسية لا تقتصر على الجرحى، بل على من قضوا أيامهم في البحث عن الحياة بين ركام الموت".
"ذكراهم في قلوبنا وأملنا بمستقبل أفضل"
وأشارت ضحوك العزو إلى أن "كل ضحية من ضحايا الزلزال كان لديها قصة حياة وحلماً لم يُكتب له أن يتحقق، نتمنى الشفاء للجرحى الذين يعانون آلام لا تُحتمل، لكنهم يقاومون ليمضوا قدماً رغم الألم، ولا يمكن للكلمات أن تعبّر عن حجم الفقد الذي عايشناه، ولكننا نعلم أن هذه التضحيات لن تذهب سدى"، مضيفةً "بالنسبة لي، نظرتي للمستقبل مليئة بالأمل رغم كل ذلك، فالحياة لن تتوقف، ولن نتوقف نحن أيضاً ومن خلال عملنا وتكاتفنا، سنتمكن من إعادة إعمار ما دمره الزلزال، قد يكون الطريق طويلاً، لكن الإصرار على بناء حياة جديدة في تلك الأرض الصامدة لا يتوقف، فنحن شعبٌ لا يعرف الاستسلام، وكل حجر نزيله اليوم هو خطوة نحو إعادة بناء وطنٍ يحلم به الجميع".