التعاونيات النسائية... نقطة التحول نحو مجتمع ديمقراطي وسلمي
تعتبر التعاونيات خصوصاً تلك التي تركز على تمكين المرأة، أدوات فعالة لتعزيز الديمقراطية والسلام، في ظل الأزمات التي تعاني منها دول الشرق الأوسط.

مقال بقلم الناشطة السياسية مولودة إيبو
إن المجتمعية التي تشكلت منذ أكثر من 500 ألف سنة قبل الميلاد وحتى يومنا هذا قد أعادت إحياء الإنسانية، واستمرت على مر العصور، مما أظهر واقعنا وحياتنا بطريقة لا يمكن التعبير عنها أو تعريفها ببضع جمل أو مصطلحات، لقد كانت هذه المجتمعية ثورة مستمرة أثرت على حياتنا حتى اليوم، على الرغم من مرور الزمن والضغوط التي تعرضت لها.
لقد واجهت هذه المجتمعية هجمات من ذهنيات سلطوية متنوعة وصعبة التوصيف، كما تعرضت لأشكال عديدة من الانحلال والتنكيل والتخريب، ومع ذلك، فإن مقاومة هذا الإرث الثقافي الذي استمر وما زال يقاوم وتحافظ على نفسها بأشكال مختلفة تنبع من جذورها النيوليتية، كما يُقال "كل شجرة تنبت على جذورها"، وهذا ينطبق أيضاً على الميراث الثقافي الذي ينمو من جذوره.
لقد عاش النظام السلطوي لعدة قرون، حيث بُني على أساس الاستغلال والاحتكار والربح الأقصى، لكنه الآن يواجه أزمة خانقة، على الرغم من أن الرأسمالية تسعى جاهدة لتبني جميع السبل والأساليب من أجل إطالة عمرها والخروج من هذه الأزمة. تعاني هذه الأنظمة من فائض في الإنتاج وتضخم نتيجة تكدس البضائع، مما يدفعها إلى خلق الفوضى والفتن والفساد الاجتماعي. وللتغلب على أزماتها، تلجأ هذه الأنظمة إلى فرض سياسات تشتت الانتباه، وقد قامت بإشعال الحروب والأزمات في الشرق الأوسط.
تعتبر الرأسمالية أن دول الشرق الأوسط هي دول نامية، مما يجعلها أدوات لخدمة مصالحها. إن الحروب التي تعيشها هذه المنطقة ليست سوى نتاج لهذه السياسات، حيث أسفرت عن مشاكل اجتماعية واقتصادية مثل البطالة والفقر والمجاعة والأمراض، بالإضافة إلى الهجرة والتآكل الثقافي والحضاري والأخلاقي.
فما تعانيه اليوم دول مثل العراق وتونس واليمن وسوريا ولبنان وغزة وغيرها، ليس سوى تداعيات لهجمات تتخفّى خلف شعارات براقة مثل "حماية الشعوب" دون الكشف عن الأطماع السلطوية التي تمارسها قوى الهيمنة العالمية، من فرض الفردانية إلى الابتزاز والسمسرة، بأساليب تخنق الحضارة الشرقية وتدفع بمجتمعاتها إلى حافة الانهيار.
وعندما نسأل أنفسنا عن المسؤول عما يحدث من دمار وخراب في هذه البلدان، نكاد لا نجد جواباً شافياً، هل تستحق شعوب الشرق الأوسط هذا المصير؟ شعوب كانت يوماً منبع الحضارات، ومصدر العلوم والمعارف في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة، لذا، لا بد أن نُلقي نظرة نقدية واعية على هذه المرحلة، ونستنهض إرادة الشعوب في استعادة دورها التاريخي والحضاري في وجه التهميش والاستغلال.
لقد أصبح الشرق الأوسط مكاناً للقتل والاقتتال، فهل هذه هي الطريقة المثلى لتقديم الحلول؟ هل الحلول المفروضة عبر التهديد والوعود، والتي يُزعم أنها تلبي احتياجات الشرق الأوسط، ستُرضينا حقاً، أم أنها ستزيد الطين بلة وتعمق الخلافات والتناقضات؟ يبدو أن الهدف هو التستر على السياسات القمعية والاستغلالية.
تساؤلات تطرح نفسها: من الذي أسس تنظيم داعش؟ من الذي أنشأ العصابات والمافيا؟ ومن يقف وراء تمويل هؤلاء؟ هل يمكن لهؤلاء الخروج من الأزمات التي وقعوا فيها باستخدام هذه الأساليب؟ بالطبع لا، فهم لا يفعلون سوى تلوين الأزمات بألوان زائفة، مخدعين أنفسهم.
إن الرأسمالية، بطبيعتها الصناعية، لا تستطيع فهم مشاعر وآلام الشعوب الشرقية، إنها حالة من الكيوز "kews" حيث لا يفهم أحد كيف يمكن خلق فلسفة عصرية تلبي الاحتياجات الاجتماعية والثقافية والفلسفية والسياسية، يجب أن تكون هذه الفلسفة قادرة على التغيير ومعالجة الواقع الاجتماعي والسياسي في مجتمع يسعى للسلام والديمقراطية، بهدف تجاوز الذهنية السائدة.
على المجتمع أن يخلق ذاته بنفسه، لأنه صاحب القرار. كما يقول القائد عبد الله أوجلان "الإنسان أكبر تكنيك"، فإن المجتمعية هي التي تخلق ذاتها بذاتها. لولا المجتمعية لما كانت الحياة، والطريق الوحيد الذي يجعل الإنسان حراً هو بناء نظامه بنفسه، كما فعل أجدادنا من قبل، اليوم، يجب أن نكون أغنياء بالسبل المعتمدة على مجتمع السلام الديمقراطي، لأننا أصحاب الحق وصاحب الحق هو السلطان، كما يُقال. نحن نملك ميراثاً ثقافياً عريقاً وموارد مادية ومعنوية، مثل الأرض الخصبة والأيدي العاملة.
ما نحتاجه هو التنظيم في العمل واتباع طرق علمية أكثر، والتخلص من المفهوم القائل بأن ما كُتب على الجبين لابد أن يُرى بالعين، هذا المنطق مطلق، وقد تعلمنا عليه من أصحاب الذهنية السلطوية لتحقيق مصالحهم الاستغلالية، لكن النموذج الديمقراطي الذي يبني نفسه على أساس الكومين، الذي يعد الخلية الأساسية في المجتمعية وصاحب القرار، يمكنه التخلص من كافة أنواع الاستغلال والاحتكار، إن نظام مجتمع السلام الديمقراطي يهدف إلى بناء وحداته الاجتماعية والفلسفية والعلمية والاقتصادية داخل الكومين، الذي يتخذ من مبدأ العقد الاجتماعي أساساً لبناء المجتمع المدني، مما يجعله مستقلاً في جميع جوانب الحياة، سواء في الحماية أو التوعية أو التدريب أو الاقتصاد، ويتم تحقيق ذلك من خلال نظام التعاونيات، الذي يوفر الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وفقاً للظروف والشروط المتاحة.
وأهداف الكوبراتيف "التعاونية" تتمثل في تحقيق المجتمع للتخلص من الأسواق الاحتكارية وبناء أسواق شعبية بعيدة عن الاستغلال، كلما زادت عدد الكوبراتيفات، زاد الإنتاج، مما يساعد في القضاء على مفهوم السوق السوداء، وهذا بدوره يعزز الراحة النفسية للمواطنين في الأمة الديمقراطية.
ومن المبادئ الأساسية للكوبراتيف "مبدأ الثقة" الذي يعتمد على إزالة الخلافات بين أبناء المجتمع، ويهدف إلى تطبيق سياسة "فرق تسد"، ففي إطار الكوبراتيف، يمكن القضاء على هذه الروح السلبية والعودة إلى القيم التي زرعها أجدادنا بكل فخر، أي أنه لولا تلك الروح، لما كنا هنا اليوم.
يمكننا اتباع هذا النهج بشكل أكثر علمية بدلاً من تقليد أو التأثر بأساليب الرأسمالية التي تعزز هذه الروح وتعمل ضدنا يومياً، عبر وضع مخططات وبرامج تهدف إلى النيل من إرادتنا، فمن خلال الكوبراتيف، نستطيع أن نؤكد أننا أصحاب إرادة وشخصية اجتماعية وأخلاقية، أما غير ذلك، فهو مجرد سفسطة دوغمائية تؤدي بنا إلى الوقوع في شباك الرأسمالية وتبعدنا عن أخلاقنا الحقيقية.
فنظام الكوبراتيف في الإدارة الديمقراطية اليوم في روج آفا ليس الأول من نوعه، بل هو جزء من ميراث طويل لنظام الكوبراتيف في العالم ضد النظام الرأسمالي، فما بين عامي (1945 ـ 1960) تم تأسيس أولى الكوبراتيفات في أميليا برومانيا، حيث تطورت الكوبراتيفات لتعمل فيها العديد من الشركات والمؤسسات، مما أدى إلى وجود اتحاد بين التسويق والإنتاج.
كما أن هناك أقدم الجامعات في إيطاليا والبرتغال وكندا وغيرها من البلدان التي تدرس الكوبراتيف وترسخ مبادئه في الواقع العملي، أي أن انتصار الكوبراتيف يتحقق من خلال اتحاد جميع القطاعات الاجتماعية، سواء العامة أو الخاصة، وبهذا يمكن القضاء على السياسات الاقتصادية والاجتماعية الاحتكارية، فالكوبراتيف يعتبر أقوى رابط بين أبناء المجتمع؛ فمثلاً، الكوبراتيف في القرية تعني الوحدة بين أهالي القرية في السراء والضراء، مما يعزز من قوتهم وتماسكهم بهدف تحقيق التساوي في الواجبات والأعمال، ولكن بأسلوب أخلاقي.
وهناك العديد من الأمثلة والتجارب التي يمكن الاستفادة منها في العالم، حيث استطاعت الكوبراتيفات بناء واقع اقتصادي قوي في دول مثل إيطاليا وفنلندا وروسيا وإسرائيل، كما أن هناك العديد من الدول التي تعاني من تدهور النظام الرأسمالي والأزمات التي تعيشها، فتقوم بإصلاحات داخل نظامها عبر ترسيخ مبادئ الكوبراتيف، لأنه النظام الوحيد الذي يحافظ على مصالح القاعدة الشعبية، لذا، أصبحت جزءاً كبيراً من مؤسساتها على شكل كوبراتيف.
في بولندا، على سبيل المثال، تشكل الكوبراتيفات 87% من النظام، حيث تتضمن أنواعاً مختلفة مثل الكوبراتيفات الزراعية والصناعية والنسيجية والبنكية والثقافية والعمالية والمواد الغذائية والأسواق الشعبية والسكانية والتأميم والخدمية والصحية والمدنية، وغيرها.
هناك أيضاً كوبراتيفات تخدم المجتمع من الناحية الإنسانية، مثل دور العجائز ومراكز الصحة وذوي الإعاقة، وتكون منسقة فيما بينها عن طريق مركز خاص يسمى "مركز كوبراتيف"، كما توجد كوبراتيفات على شكل عقود بين الشركات الصغيرة والشركات المختلفة، مثل شركات النسيج أو الخياطة، مما يعزز العلاقات فيما بينها.
وفي القطاع الزراعي، يعمل الفلاحون في القرى على الاتحاد والتعاون، حيث يُشجعهم القادة على جعل مياههم وترابهم وطاقاتهم مشتركة. هنا نستطيع أن نعود إلى الواقع الذي يحلم به مجتمعنا.
تهدف أعمال الكوبراتيف إلى إنشاء اقتصاد تضامني، من خلال تعزيز التضامن بين فئات المجتمع داخل الكومين، مما يشكل روحاً جماعية بينهم، كما أنه يلعب دوراً اجتماعياً وأخلاقياً داخل الكومين، حيث تحل كافة مشاكله الاقتصادية بعيداً عن سعي الربح الأقصى، وهو أحد أهداف الرأسمالية الأساسية.
ولكي تصل الكوبراتيف إلى النتائج المرجوة، يجب على الكومين توفير تدريبات مكثفة لإعداد كوادر قادرة على القيام بهذه الأعمال، حيث تحتاج هذه العملية إلى ثقة كبيرة وأمل في مستقبل المجتمع، وتقوم مراكز الكوبراتيف بدراسات واسعة داخل كل كومين، لتحديد احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية، كما تعمل على تقوية العلاقات بين الأعضاء وتعزيز خبراتهم وتجاربهم، ووضع برامج ومخططات تلبي احتياجاتهم الاجتماعية.
ويعتبر الكوبراتيف نموذجاً جديداً للاقتصاد المجتمعي، وهو نموذج ذو أهمية كبيرة على الصعيد المحلي، حيث إن نمو الكوبراتيف التقليدي يعود بالفائدة على فئات المشاركة ويعمل على تقوية الروابط الاجتماعية، مما يسهم في بناء مجتمع راقٍ بعيد عن الخلافات، ويعزز مبدأ المحبة والسلام، مع التركيز على المجتمع الديمقراطي كأساس له، هذه هي الأهداف التي يسعى إليها القائد عبد الله أوجلان، لبناء مجتمع حر ونموذج يُحتذى به في مجتمعات الشرق الأوسط والعالم بروح عصرية.