القائد أوجلان يطرح رؤية جديدة للسلام والاشتراكية الديمقراطية
قدّم القائد عبد الله أوجلان، لكونفرانس "السلام والمجتمع الديمقراطي" الدولي، عبر رسالة تحليلية، رؤيته لإعادة إحياء الاشتراكية كقوة اجتماعية حية.
مركز الأخبار ـ باشر حزب (DEM) في إسطنبول أعمال الكونفرانس الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي، الذي يناقش تجربة القائد عبد الله أوجلان في إطلاق دعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي" بتاريخ 27 شباط/فبراير الماضي، إلى جانب عرض ومناقشة تجارب عالمية مشابهة.
يشارك في المؤتمر عدد كبير من الشخصيات والوفود الدولية، من إقليم الباسك وجنوب أفريقيا، مروراً بحزب شين فين الوطني في المملكة المتحدة، وصولاً إلى كازاخستان وبلجيكا، حيث حضروا كمتحدثين ومشاركين في جلساته، ليشكل المؤتمر منصة عالمية لتبادل الخبرات والرؤى حول قضايا السلام والديمقراطية.
ألقى ويسي أكتاش، الذي أُفرج عنه مؤخراً من سجن جزيرة إمرالي، كلمة في الجلسة الافتتاحية للكونفرانس، نقل خلالها رسالة القائد عبد الله أوجلان حول السلام وبناء المجتمع الديمقراطي، مؤكداً على أهمية هذه الرؤية في المرحلة الراهنة.
بعث القائد عبد الله أوجلان إلى الكونفرانس رسالةً تحليلياً بعنوان "دعونا نستعيد الاشتراكية من خلال بناء السلام والمجتمع الديمقراطي"، وهو دراسة نظرية معمقة امتدت على أربع صفحات، تضم رؤيته حول سبل تحقيق السلام وترسيخ أسس المجتمع الديمقراطي، بما يشكل أرضية فكرية للنقاشات التي يشهدها المؤتمر.
الاشتراكية كقوة اجتماعية حية
جاء في الرسالة "أيها المفكرون والرفاق الأعزاء، والمندوبون الكرام، وجميع من يزالون يؤمنون بإمكانية تحقيق الاشتراكية؛ من جزيرة إمرالي، حيث أمضيت ستة وعشرين عاماً في ظروف العزلة، أتوجه إليكم في مرحلة جديدة بدأت فيها المفاوضات مجدداً مع الحكومة حول القضية الكردية، سعياً لتحقيق السلام وبناء مجتمع ديمقراطي في تركيا. إن مشاركتي اليوم في الكونفرانس الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي للحديث عن إعادة بناء الاشتراكية تحمل قيمة ومعنى كبيرين. نحن الكرد، وبعد نضال استمر اثنين وخمسين عاماً عبر حزب العمال الكردستاني، أنهينا دخلنا مرحلة جديدة عنوانها إعادة تأسيس الجمهورية الديمقراطية وبناء مجتمع ديمقراطي راسخ".
وأضاف القائد أوجلان في النص التحليلي "لقد نجح الحزب في تثبيت الوجود الوطني للشعب الكردي وأداء مهمته التاريخية، وفي الوقت نفسه كشف عن مأزق الاشتراكية المرتبطة بالدولة القومية. لقد ظهر نموذج الاشتراكية في القرن العشرين كحركة ثورية ناقصة، إذ لم يستطع أن يقدّم بديلاً جديداً. ومع حلول التسعينيات، وفي مرحلة ابتعدت فيها معظم القوى عن الاشتراكية، أعلنت أن الإصرار في الاشتراكية هو في جوهره إصرار في الإنسانية، وكرست حياتي لإحياء هذا الأمل من جديد. ورغم التضحيات الجسيمة، تحول النضال إلى إرث غني بالنقد النظري والتجربة العملية. إن استيعاب هذا الإرث بشكل صحيح يعني إخراج الاشتراكية من كونها مجرد ذكرى، وتحويلها إلى قوة اجتماعية حية تنبض في وجدان الشعب. ويجب النظر إلى التقليد الاشتراكي في التاريخ باعتباره إرثاً موجهاً لبناء السلام والمجتمع الديمقراطي، والطريق إلى ذلك يمر عبر أداء المهام الأممية على المستويين النظري والعملي".
وأفاد أنه "رغم أن الاشتراكيين الطوباويين والماركسيين وجّهوا منذ القرن التاسع عشر نقداً واسعاً للنظام الرأسمالي المهيمن، إلا أنهم لم يتمكنوا من صياغة مسار عملي ناجح يحقق نتائج ملموسة. أما الرأسمالية اليوم فلم تعد مجرد أزمة، بل تحولت إلى مرض يهدد وجود البشرية جمعاء. ويُعد احتكار العنف في صيغة الدولة القومية عاملاً أساسياً في هذا الانهيار. ولا يمكن تفسير الرأسمالية فقط بالأسباب الاقتصادية، كما لا يمكن اختزال فشل التيارات الاشتراكية في الضغوط الرأسمالية وحدها، إذ إن الأخطاء التاريخية والراهنة لعبت دوراً حاسماً في هذا التراجع".
وشدد القائد أوجلان أنه "ينبغي أن تُفهم انتقاداتي الموجهة إلى الماركسية على نحو صحيح؛ فأنا لا أحمّل ماركس المسؤولية، إذ إن زمنه لم يكن مكشوفاً كما هو اليوم، ولم تكن هناك أزمة بيئية، وكانت الرأسمالية في مرحلة صعود. ومع ذلك، كان ماركس مفكراً ذا ثقة عالية بنفسه، يراجع أفكاره باستمرار. لقد التفت إلى قضية حرية المرأة، لكنه تناولها بشكل سطحي ولم يستوعب عمقها، فاعتقد أن تجاوز الاستغلال الاقتصادي سيؤدي تلقائياً إلى إنهاء اضطهاد المرأة. كما أن محاولته تفسير التاريخ الاجتماعي حصراً من خلال مفهوم الطبقة، وعجزه عن تحليل الدولة والدولة القومية بشكل كافٍ، أفضى إلى نتائج وخيمة. ومع كل هذه الملاحظات، أؤكد أنني أكنّ احتراماً كبيراً لجهد ماركس، ولا أشك في نواياه، وأعتبر الماركسية منفصلة عن شخصه. إن ما نقوم به نحن الاشتراكيين عند نقد الماركسية والاشتراكية الواقعية في بعض القضايا الجوهرية، ليس سوى ممارسة للانتقاد الذاتي".
وطالب القوى المناهضة للنظام أن تعيد صياغة المادية التاريخية بما يتوافق مع حقيقة المجتمع البشري "من الضروري أن ندرك أن الرأسمالية لم تظهر فجأة في القرن السادس عشر، بل تمتد جذورها إلى مسار الحضارة في بلاد ما بين النهرين منذ عشرة إلى اثني عشر ألف عام. إن مواقع مثل غوبيكلي تبي وكاراهان تبي تكشف عن هذه البدايات التاريخية. ومن هنا أجد أن توصيف النظام الحضاري القائم بـ "النظام الطبقي القاتل للمجتمع" هو الأدق. وتؤكد الاكتشافات الأثرية والأنثربولوجية أن الطبقات الذكورية من الصيادين طوّرت تقنيات للقتل، وبواسطتها قمعت الجماعات العشائرية النسائية المركزية واستعبدتها. وهذا الانقسام يُعدّ الأعمق في تاريخ البشرية، كما أنه يمثل ثورة مضادة كبرى رسمت مسار تطور الحضارة اللاحق".
ولفت إلى أن تحليل الرأسمالية من منظور تاريخي يمنح رؤية أوسع وآفاقاً جديدة. فهذا النظام لا يقتصر على إذكاء التناقضات داخل المجتمع، بل يهدد وجود البشرية جمعاء من خلال تطوير أسلحة كيميائية ونووية قادرة على إفناء الكوكب، وتلويث المناخ، ونهب ثروات الطبيعة فوق الأرض وتحتها، مما يؤدي إلى تدمير شامل للبيئة. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، يصبح تقديم قراءة جديدة للرأسمالية مهمة إنسانية كبرى، كما يُعد من أبرز الواجبات الأممية في عصرنا.
وبيّن النص التحليلي أن قراءة تاريخ المضطهدين من منظور الكومونة، باعتبارها شكلاً أولياً للدفاع الذاتي قبل ظهور الطبقات "يمنحنا فهماً أعمق لمسار البشرية. فالقبائل البدائية يمكن النظر إليها كبداية للكومونة، ومن ثم يمتد هذا المنظور التاريخي حتى البروليتاريا أو جميع الفئات المقهورة في عصرنا. ومن هنا نقول إن التاريخ لا يقتصر على صراع الطبقات وحده، وإن كان يتضمنه، بل هو في جوهره عملية تفاعل وصراع بين التطور الكوموني والتطور المضاد للكومونة، وهو مسار يمتد إلى ما يقارب ثلاثين ألف عام".
"الاشتراكية الديمقراطية نحو بناء مجتمع حر وعادل"
وشدد القائد أوجلان على ثقته بتحقيق الكونفرانس لأهدافه "استناداً إلى التحليلات النظرية التي قدمتها، سيفتح المجال أمام نقاشات عميقة تُسهم في بلورة برنامج سياسي جديد ورؤية مختلفة للتنظيم. وفي هذا السياق يبقى المنهج الجدلي المادي هو الأساس، غير أنه من الضروري تجاوز بعض المبالغات في الجدلية الكلاسيكية؛ فالتناقضات ليست أقطاباً متصارعة تسعى لإلغاء بعضها، بل هي ظواهر اجتماعية متبادلة التأثير. فالكومونة لا تقوم من دون الدولة، والبروليتاريا لا توجد من دون البرجوازية. لذلك ينبغي التعامل مع التناقض بمنطق تحويلي وبمنظور تاريخي يفتح آفاقاً جديدة، لا بمنطق إلغائي".
وأضاف أن "التطورات العلمية تؤكد أن المنهج الجدلي، ما لم يُطلق عليه طابع المطلق، يظل أداة فعالة في التحليلات الاجتماعية. ومن هنا يصبح تحديث جدلية الكومونة ـ الدولة وجدلية الطبقة ـ الدولة أمراً ضرورياً. إن إخفاق الاشتراكية الواقعية في القرن العشرين يعود إلى سوء قراءة هذه الجدلية التاريخية؛ إذ إن الاشتراكية الدولتية عندما استولت على الدولة انتهت في النهاية إلى الهزيمة أمامها. كما أن ربط حق تقرير المصير للأمم بالدولة القومية أدى إلى الارتهان لحدود السياسات البرجوازية، فيما لم يكن مفهوم "الدولة القومية البروليتارية" سوى إعادة إنتاج للعقلية الدولتية دون أن يقدم بديلاً حقيقياً".
وأوضح من خلال قراءة حقيقية أن "الاشتراكية القائمة على الدولة القومية محكوم عليها بالفشل، بينما الاشتراكية الديمقراطية المجتمعية هي التي تقود إلى النجاح. واليوم آن أوان السير نحو التحرر الديمقراطي على أساس هذا النموذج. وفي هذا الطريق، أؤمن بقدرتنا على إعادة البناء عبر منظور الجمهورية الديمقراطية والأمة الديمقراطية، وبالاعتماد على نموذج مجتمعي يقوم على حرية المرأة، والبيئة، والديمقراطية. هذا الوعي منح حركتنا تجديداً فكرياً وسياسياً، وحيوية تنظيمية، وانغراساً شعبياً، ليصل بها إلى برنامج اشتراكي قادر على الاستجابة لمتطلبات هذا القرن".
وانتقد إعادة صياغة علاقة الاشتراكية الديمقراطية بالدولة في إطار عملية الحل والسلام "أعرّف هذه العلاقة باعتبارها مساراً نحو الديمقراطية. فمفهوم الجمهورية الديمقراطية يقوم على أن الدولة ليست قوة فوق المجتمع ذات طابع إلهي، بل هي بنية تعمل وفق عقد ديمقراطي مع المجتمع. ومن خلال استراتيجية السياسة الديمقراطية يمكن إحداث التغيير والتحول داخل الدولة، وإعادة بناء المجتمع على أسس ديمقراطية راسخة"، موضحاً أن "إرساء هذه الاستراتيجية على قاعدة القانون يشكّل أساساً دائماً للسلام، حيث يصبح القانون الضمانة للعلاقة الديمقراطية بين الدولة والمجتمع، وآلية توازن تمنع العنف وتفتح الطريق أمام الحلول السلمية. كما يتولى القانون دوراً مؤسسياً في تثبيت شرعية الجمهورية الديمقراطية، وترسيخها، وإعادة بناء النظام الاجتماعي على أسس أكثر عدلاً واستقراراً".
وأشار القائد أوجلان إلى أهم الاستراتيجيات التي طرحها في إطار النضال "يبرز مفهوم الاندماج الديمقراطي وما يرتبط به من إعادة بناء القانون. فالقانون في هذا السياق يُعاد تشكيله لصالح المجتمع، على أساس المعايير الفردية والكونية والحقوق الجماعية. ويقوم قانون الاندماج الديمقراطي على ثلاثة مبادئ أساسية، قانون المواطن الحر، قانون السلام والمجتمع الديمقراطي، قوانين الحرية. وإن هذه المبادئ تشكّل الركائز التي تضمن إعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس ديمقراطية عادلة ومستدامة".
وختم نصه التحليلي بالقول إن قانون الاندماج الديمقراطي يشكّل خطوة أساسية لتحويل الدولة إلى دولة معيارية، وفي الوقت نفسه يمنح المجتمع القدرة على تحويل مكتسباته إلى بناء مؤسسي يرسّخ الحرية "دعوة "السلام والمجتمع الديمقراطي" هي في جوهرها مسار حواري. ففي منطقة الشرق الأوسط، بما تحمله من تنوع إثني وديني ومذهبي، يمكن تحقيق الكثير عبر الحوار والمفاوضات الديمقراطية. وأرى أن الاشتراكية الحقيقية لا تقوم على الثورة العنيفة، بل على منهج إيجابي للبناء والوجود، يتجسد في شكل من أشكال الحوار الديمقراطي. ومن الصعب تصور بناء الاشتراكية أو ضمان استمراريتها من دون حوار ديمقراطي شامل وعميق، وقد أكد لينين قائلاً "لا يمكن بناء الاشتراكية من دون ديمقراطية شاملة ومتقدمة"، وانطلاقاً من هذا الإيمان، أتمنى أن يكون اجتماعنا ناجحاً، وأبعث بتحياتي ورفاقيتي الدائمة، مع خالص المحبة".