المرأة من العبودية الكلاسيكية إلى الهيمنة الحديثة
بدأت العبودية في النظام الأبوي وتطورت وصولاً إلى شكلها الحديث داخل المنظومة الرأسمالية، وتحولت من قمع جسدي مباشر إلى هيمنة نفسية ـ اجتماعية تعيد تشكيل الإنسان وفق مصالح السلطة، والعبودية المعاصرة أخطر من القديمة.
برجم جودي
كوباني ـ العبودية بنية سلطوية متجذرة في الذهنية الذكورية والنظام الأبوي، تشكل عائقاً أمام منظومة النساء وتعمل كقوة مضادة لمرحلة اجتماعية جديدة تقودها قيم الأمومة.
شهدت ميزوبوتاميا، التي خرج منها أول مجتمع أمومي إلى الوجود، ولادة التناقضات والمشكلات في الوقت نفسه، فهذه الأرض التي كانت مهد الخلق ونموذجاً لنهضة المجتمع الأمومي، تحولت لاحقاً إلى أول ساحة تاريخية لاضطهاد المرأة على يد النظام الأبوي، وعندما خضع الخالق نفسه لعملية التملك، كان من الطبيعي أن تستولى أيضاً على نتاجه، لتبدأ بذلك عملية إخضاع المرأة والمجتمع معاً.
ومن هنا يتضح أن البنية الأبوية نشأت كنظام مضاد لمنظومة النساء، تعمل كحاجز أمام العصر الأمومي، وتشكل نقطة الانطلاق لظهور النظام الأبوي بوصفه قوة تسعى إلى السيطرة على المرأة وإقصاء دورها الخلاق، حيث أشارت الناطقة باسم مركز أبحاث جنولوجيا في مقاطعة الفرات بإقليم شمال وشرق سوريا صديقة خلو إلى أن نساء المنطقة بعد ثورة المرأة أدركن بعمق معنى مفهوم "العبودية" وحدوده "ما زلنا حتى اليوم نعيد تعريف هذا المفهوم من جديد".
النظام الأبوي يعيد إنتاج العبودية
لا شك أن العبودية في عصرنا لم تعد تشبه شكلها في الأزمنة القديمة؛ فمع تطور المجتمعات وتحول النظام الأبوي، تغيرت أيضاً آليات العبودية وأساليبها، فالعبودية في جوهرها، كانت دائماً بنية مضادة لمنظومة النساء، لأن المرأة كانت النموذج الأول الذي استهدفه هذا النظام بالقمع.
وأوضحت صديقة خلو أن القائد عبد الله أوجلان يشدد بدوره على أن الشكل الأول للعبودية بدأ مع استهداف شخصية المرأة "لاحقاً تطورت العبودية بأشكال وأساليب متعددة، واستمرت عبر التاريخ حتى يومنا هذا، فالعبودية كما نعرفها اليوم ترسخت ضمن منظومة تخضع الإنسان وتحوله إلى تابع، وقد واجهت عبر الزمن تحولات عميقة".
الرأسمالية وجه جديد للعبودية
استمرت العبودية الكلاسيكية لأكثر من ثلاثة عصور قبل أن تبدأ بالتراجع تدريجياً، وفي الشرق الأوسط، يشير النبي محمد في أحد أقواله إلى ضرورة أن يستعيد الإنسان إنسانيته وألا يعرف بوصفه عبداً، وهو ما يعكس بداية وعي جديد تجاه مفهوم العبودية، ومع مرور الزمن، وتحديداً بين القرنين السابع والتاسع، بدأت العبودية الجسدية التقليدية بالانحسار حتى اختفت تقريباً.
أما في أوروبا، فقد شهدت الفترة الممتدة بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر تحولاً كبيراً، إذ أسهم الإرثان الروماني واليوناني، ولاحقاً حركة النهضة، في تحرير المجتمعات من العبودية الكلاسيكية، ومع تطور القوانين والاتفاقيات الدولية، لم يعد تحريم العبودية قائماً على الأسس الدينية أو الأخلاقية فقط، بل أصبح حظراً قانونياً رسمياً أنهى وجودها بوصفها نظاماً اجتماعياً.
وأوضحت صديقة خلو بعض الجوانب المتعلقة بالعبودية في العصور القديمة "مع ظهور الأنظمة الصينية وتطور البنى البرجوازية والسلطوية والرأسمالية، انتقلت العبودية الكلاسيكية إلى مرحلة جديدة، فالعبودية التي نعرفها لم تعد مجرد استغلال جسدي، بل بات تأثيرها يمتد إلى الجوانب النفسية والاجتماعية للإنسان، حتى وصلت إلى مستويات قاسية من الاستغلال ما زالت آثارها حاضرة حتى اليوم".
"العبودية الحديثة أخطر من القديمة"
وقال القائد عبد الله أوجلان "إن التطور التاريخي ‑ الاجتماعي، الذي لم يتخذ مساراً طبيعياً، قاد إلى ترسيخ العبودية"، وانطلاقاً من هذا التقييم، وعند تحليل الواقع الاجتماعي الراهن، نرى أن العبودية الكلاسيكية قد انتهت، لكن حل مكانها شكل جديد من العبودية يتمثل في الرأسمالية الحديثة، فالنظام الرأسمالي، بوصفه أكثر أشكال الهيمنة الأبوية تطوراً، يعيد إنتاج العبودية داخل المجتمع عبر الليبرالية ومفهوم الحرية الشكلية.
إنه نظام شديد المكر والقدرة على التغلغل، يتسرب إلى مشاعر المجتمع وروحه ووعيه حتى يصبح جزءاً منه. ولهذا يمكن القول إن العبودية الحديثة لم تعد مجرد ممارسة، بل تحولت إلى ثقافة مترسخة داخل البنية الإنسانية المعاصرة.
وعن ذلك، قالت صديقة خلو إن "العبودية التي نتحدث عنها الآن ونواجهها أكثر خطورة وتهديداً من العبودية الكلاسيكية، لأن العبودية الحديثة أوصلت المجتمع إلى نقطة أصبح فيها عبداً للرأسمالية بكل إخلاص".
أدوات العبودية في العصر الرأسمالي
وسلطت الضوء على مفهوم العبودية الحديثة من خلال مجموعة من الأمثلة، وتعد عمليات التجميل أبرزها، مشيرةً إلى أن النظام الرأسمالي يفرض معايير محددة للجمال، حتى بات كل فرد يسعى داخلياً للوصول إلى تلك المقاييس، ولهذا تُجرى عمليات التجميل تحت شعار "تحقيق الجمال".
وأضافت "لكن ما الذي ينتج عن ذلك؟ إنه يخلق فراغاً داخلياً ويزعزع ثقة الإنسان بنفسه، فعندما يتعرض الشخص لانتقاد أو تعليق سلبي، يدخل مباشرة في حالة من انعدام الثقة، ويبحث عن حلول تجميلية كخلاص سريع، وفي هذه الدائرة تتجلى الخسائر المادية والمعنوية والجسدية التي يعيشها الفرد".
وعن العلاقة بين الرأسمالية وثقافة التجميل، قالت "من جهة أخرى، نرى أن وسائل التواصل الافتراضي تحولت إلى فضاء يصنع عالماً جديداً للمجتمع، عالماً افتراضياً يفرض تأثيره عليه وفي الوقت نفسه يخدم الرأسمالية بشكل مباشر، فالتقنيات الحديثة في عصرنا لم تعزز الروابط الاجتماعية كما يروج لها، بل عمقت العزلة، وتغلغلت في مشاعر الإنسان وشخصيته ووعيه، لتعيد تشكيل المجتمع وفق الصورة التي ترغب بها".
وأكدت على غياب الوعي بهذه العلاقة "إذا فكرنا في الأمر قليلاً، سنجد أننا نمر بهذه التجارب دون أن نعي ذلك، على سبيل المثال، عندما نتصفح الصور على إنستغرام أو فيسبوك، كم مرة يتغير مزاجنا بين كل صورة وأخرى؟ تتغير مشاعرنا بين الصور السعيدة والحزينة، أو بين مواضيع الطعام والرياضة، بعبارة أخرى، نختبر في دقيقة واحدة سلسلة من المشاعر المتباينة، وهو ما يعد بحد ذاته تشويشاً واضطراباً في النفس".
وفي ختام حديثها، أوضحت صديقة خلو أن هناك منظومة عالمية تتحكم بالبشر وتديرهم كما تشاء، وقد باتت حقيقتها مكشوفة اليوم "إن الواقع الذي نعيشه في إقليم شمال وشرق سوريا، أو ما يعرف بالشرق الأوسط، ليس حالة معزولة، للأسف، نحن أمام نظام عالمي أخضع البشرية جمعاء لهيمنته، ونتيجة لذلك تحول الإنسان إلى مجرد قطعة في لعبة يديرها هذا النظام القائم ويعيد تشكيلها وفق مصالحه، وهذه هي الحداثة التي فرضت علينا في هذا العصر".