"المابعد الآن" حينما تصبح الفاجعة لوناً على اللوحة
أكدت الفنانة هند الراشدي أن الفن بات وسيلة للشفاء وجزءاً من العلاج النفسي للكوارث "نجسد مأساتنا بالفن، بالشعر، بالرواية، لا شيء يُمحى، لكنه يصبح أخف وطأة مع الأيام".

ابتسام اغفير
بنغازي ـ في ليلة عاصفة من شهر أيلول/سبتمبر 2023، ضرب إعصار دانيال مدينة درنة الليبية، مخلفاً وراءه واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية في تاريخ البلاد، لم يكن مجرد إعصار عادي، بل تحول إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة بعدما تسببت الأمطار الغزيرة في انهيار سدي وادي درنة، ما أدى إلى تدفق سيول جارفة اجتاحت أحياءً بأكملها وأغرقت المدينة في ظلام الموت والدمار، لم يتعافى الليبيون إلى الآن من هذه الكارثة ولكن يسعون جاهدين لتجازوها بعد مرور عام وأشهر عليها.
لم تكن مجرد ألوان تزين لوحاتها، بل كانت صرخةً صامتة تحمل بين طياتها الألم والرجاء، الحزن والتعافي، الكارثة وما بعدها، الفنانة التشكيلية هند الراشدي، التي عاشت مأساة إعصار دانيال في درنة، لم تستطع أن تقف صامتة أمام حجم الفاجعة، فحملت ريشتها لتترجم المشاهد التي لم تفارق ذاكرتها إلى لوحاتٍ تنبض بالحزن، لكنها تحمل في طياتها بذور الأمل.
في معرضها الفني الأول "المابعد الآن"، الذي نظمته مؤسسة تاسيلي للفنون بمدينة درنة، واستضافته مؤسسة برح للثقافة والفنون في بنغازي أمس السبت 15آذار/مارس، وكان العنوان الشعبي "لما الصورة تحكي" أكثر تعبيراً عن جوهره، حيث لم تكن اللوحات مجرد ألوان، بل شهادات حية على وجوه الناجين، خاصة النساء اللاتي كنَّ الأكثر تأثراً بالفاجعة.
حين بدأ الألم يتحول إلى فن
تقف هند الراشدي في زاوية المعرض، تتأمل إحدى لوحاتها التي رسمتها بعد ستة أشهر من الإعصار، اللوحة التي أعادتها إلى عالم التشكيل بعد أن ابتعدت عنه، كانت اللوحة تمثل ما وصفه صديقها صبيحة الإعصار وما حل في المدينة من دمار، فهو لم يكن يعي حجم ما حصل في المدينة من موت ودمار إلا عندما رأي السيارات تمر من أمامه ومن الخلف لفت الجثث في السجاد والأقمشة لعدم وجود أكفان تكفيهم، هو لم يعرف أن ما يوجد داخل اللفائف جثث إلا بعد أن رأى شعر النساء تطيره الرياح فصدم من هول ما رأى، حين أخبرني بما رأى، شعرت أنني بحاجة إلى رسم ما عايشه، لم يكن مجرد وصف، بل تجربةٌ نقلتني إلى عمق الألم، وهناك ولدت لوحة "دانيال"، تقول بصوت يملأه الحزن.
توقفت هند الراشدي عن الرسم بعد الكارثة، فكيف يمكن للريشة أن تلتقط ألوان الألم؟ لكنها عادت بعد أشهر، وكانت الألوان التي اختارتها مختلفة تماماً، تقول "أصبحت ألواني مستوحاة مما رأيناه جميعاً ماءٌ وطين، آثار المطر، والخضرة التي بقيت شاهدةً على ما كان، هذه الألوان أصبحت جزءاً من ذاكرتنا، وندوباً لن تُمحى بسهولة"، تضيف بنبرةٍ تأملية.
المرأة كانت كل شيء
لم تكن رمزية المرأة غائبةً عن لوحات هند الراشدي، فقد كانت العيون النسوية التي رسمتها بلا ملامح كأنها مرآةٌ تعكس وجع كل امرأة فقدت عائلتها، أو صارت وحيدة بعد الطوفان، في درنة المرأة ليست نصف المجتمع، بل هي المجتمع كله، الفنانات، الصحفيات، الشاعرات، والأمهات، جميعهن كنَّ هناك، تعشن الألم وتحملن العبء"، مشيرة إلى أن أكثر ضحايا الإعصار كنَّ من النساء والأطفال.
ورغم الألم، تؤمن أن المرأة قادرة على التعافي، خاصة الأمهات "حين يكون لديك طفلٌ يعتمد عليك، تصبح أكثر قدرة على تجاوز المحنة، نحن لا ننسى، لكننا نستمر".
لماذا بنغازي؟
كان اختيار بنغازي لإطلاق المعرض الأول لهند الراشدي قراراً نابعاً من القلب، فالمدينتان تربطهما علاقة وجدانية خاصة، بعد الكارثة كانت بنغازي الملجأ للكثير من أهالي درنة، كأنها اليد التي امتدت إلينا حين فقدنا كل شيء"، مؤكدة أن المعرض لن يتوقف هنا، فهناك محطة قادمة في درنة، وربما محطة أخرى في تونس.
حين يصبح الفن وسيلةً للنجاة
لم يكن "المابعد الآن" مجرد معرضٍ فني، بل رسالةٌ تقول إن درنة ستتعافى، وإن الفن يمكن أن يكون وسيلةً للشفاء، في العالم كله أصبح الفن جزءاً من العلاج النفسي للكوارث، ونحن في درنة نجسد مأساتنا بالفن، بالشعر، بالرواية. لا شيء يُمحى، لكنه يصبح أخف وطأة مع الأيام، مختتمة حديثها بالقول "لقد كانت درنة دائماً مدينة الفن، وستبقى كذلك، حتى بعد كل شيء".