يربط الأجيال بهويتها العميقة... الوشم الأمازيغي يتجاوز الرسم على الأجساد

من خلال الإبداع في عالم الوشم الأمازيغي، تقدم منال مهدواني مثالاً حياً على قوة الفنون في الحفاظ على الهوية وكيف يمكن للفن أن يكون وسيلة فعالة لإحياء الثقافات المتلاشية.

إخلاص الحمروني

تونس ـ وسط محاولة تسلل الرأسمالية لتفاصيل حياة شعوب شمال أفريقيا ومحو الثقافة من ذاكرة الأجيال بشكل متعمد، لا تزال هناك نساء تتشبثن بموروثهن الشعبي لتنقلنها للأجيال القادمة ومنع إمحائها من ذاكرتهم.

في عصر يشهد تغييرات ثقافية عميقة، يسعى البعض للعودة إلى الجذور لتوثيق هوية الأجداد واستعادة تاريخ مفقود، وفي وقت يتعرض فيه الكثير من التراث الشعبي والتقاليد العريقة إلى التهميش والنسيان، تبرز الشابة الأمازيغية منال مهدواني، كأيقونة من أيقونات النضال الثقافي والفني من خلال إحيائها لفن الوشم الأمازيغي الذي كان قد اختفى تدريجياً من ذاكرة الأجيال المعاصرة حتى أنها أصبحت تصبح واحدة من الفنانات اللاتي تمكنّ من فتح أفق جديد للوشم التقليدي في تونس والعالم، وجعلته أداة للهوية الثقافية والفنية تتجاوز الحدود.

منال مهدواني التي نشأت وسط التراث العربي، كانت تحيط بها ثقافة عميقة الجذور؛ إذ تنتمي إلى منطقة تعتبر الوشم جزءاً من هويتها الثقافية، لكن بمرور الزمن تحولَ الوشم الأمازيغي الذي هو رمز من رموز الهوية إلى شيء يُنظر إليه بنظرة سلبية عند بعض الشباب في كثير من الأحيان، ولأن هذا التغيير في النظرة المجتمعية للوشم الأمازيغي كان مؤلماً بالنسبة لها، قررت إعادة إحياءه من جديد وجعله فناً عصرياً يقبل عليه تونسيون وحتى غير تونسيين.

وبينت منال مهدواني أنه مع كل تحدٍّ واجهته في بداية طريقها، آمنت أنَّ هذا الفن يجب أن يعود إلى مكانه الصحيح في تاريخ وثقافة تونس "عندما بدأت في هذا المجال، كانت فكرة الوشم الأمازيغي تبدو غير مألوفة، إذ يُنظر إليه وكأنه شيء قديم أو غريب، ولكنني أردت تغيير هذه النظرة المغلوطة".

ولم تكن بدايتها في عالم الوشم الأمازيغي مجرد اختيار لمجال فني جديد بل كانت بداية لرحلة طويلة من البحث والاهتمام العميق بالرموز الأمازيغية وتاريخها العريق "اعتبر أول امرأة تتعامل مع هذا الفن في تونس، وكان الأمر غير معترف به على المستوى الاجتماعي، فالناس ربطوا الوشم بمفاهيم سلبية، لكنني أردت أن أغير هذه الصورة، وأثبت للناس أن الوشم ليس مجرد زخارف على الجلد، بل هو جزء من تاريخ وحضارة".

وحاولت أن تدمج بين الفن والأبحاث، فبدأت في البحث عن رموز الوشم الأمازيغي التقليدي لتتشبع بهذه الثقافة وتفهم أسرارها ومعاني رسوماتها "الوشم في الثقافة الأمازيغية يحمل معانٍ ودلالات عظيمة، فكل علامة على جسد المرأة تحمل تاريخاً كاملاً، سواء كانت عن مكانتها الاجتماعية، أو حتى عن حالتها الصحية أو العاطفية"، ومن خلال هذا البحث المستمر، تعمقت في رمزية الوشم وأعادت تقديمه بشكل يتناسب مع العالم المعاصر، في الوقت نفسه الذي يحترم فيه جذوره القديمة.

وفي حديثها عن أهمية الوشم الأمازيغي، أوضحت منال مهدواني أنه شكل وسيلة لتوثيق ملامح حياة الأفراد داخل المجتمع الأمازيغي "الرموز الأمازيغية كانت تدل على هوية القبيلة، وتاريخ الشخص وعلاقاته الأسرية، على سبيل المثال تُوشم المرأة لكي يُعرف ما إذا كانت متزوجة أو عزباء، وإذا كان لديها أطفال أم لا، وكان بإمكان الآخرين قراءة هذه المعلومات من خلال تلك الرموز الموجودة على جسدها، فهو في ذلك الوقت بمثابة بطاقة شخصية، وعندما أبدأ برسم الرموز على جسد شخص، أشعر أنني أكتب تاريخاً على جسد هذا الشخص".

أما بالنسبة للجديد الذي أضافته منال مهدواني في هذا المجال، فقد اعتبرت أنها لا تقتصر على رسم الوشم على أجساد الأشخاص فحسب، بل تسعى إلى تعليمهم أيضاً المعاني العميقة لتلك الرموز، لافتة إلى أن "الهدف بالنسبة لي ليس أن يرسم الشباب الوشم على أجسادهم فحسب، بل أن يتعرفوا على تاريخ وثقافة الأمازيغ، عندما يشاهدون في الشارع امرأة تحمل وشماً أمازيغياً، يفترض بهم أن يفهموا قيمة هذا الوشم واحترامه كجزء من الهوية".

ووفق تحليلها، لا يعد الوشم الأمازيغي في تونس مجرد طابع خارجي يتم تطبيقه على الأجساد، بل هو عملية معقدة من الفهم والبحث المستمر، فمن خلال تفاعلها مع كبار السن الذين لا يزالون يحملون آثار الوشم على أجسادهم مثل نساء قابلتهن في الجنوب التونسي، تمكنت منال مهدواني من إعادة رسم العديد من التصاميم التقليدية "التقيت بامرأة في الشارع، تحمل على جسدها العديد من العلامات الأمازيغية، تحدثت إليها معمقاً وسألتها عن معاني هذه الرسوم وعندما فهمتها قررت أن أنقل هذه الرسوم بعناية شديدة".

وأضافت "من خلال هذا الفن، أردت أن أُعيد الحياة إلى الوشم الأمازيغي وأُعرف الشباب بأن هذا التراث هو جزء من حضارتهم وتاريخهم، ليظلوا فخورين به"، ومن خلال هذا البحث المتواصل والتوثيق الدقيق، أضافت منال مهدواني بُعداً تاريخياً وثقافياً إلى فن الوشم الأمازيغي، مما جعله يتجاوز كونه مجرد موضة أو تأثير عصري ليصبح جزءاً من ذاكرة الجمعية التونسية.

وخلال ممارستها لفن الوشم الأمازيغي واجهت بعض التحديات الاجتماعية خاصةً بسبب الرفض الذي يواجهه فن الوشم التقليدي من قبل بعض الأوساط لكن سرعان ما فرضت اسمها كفنانة مختصة يزورها تونسيون وسياح ويقصدها أجانب للوشم.

وأوضحت "عندما بدأ الناس يتعاملون مع فكرة الوشم الأمازيغي كفن، بدأت أشعر أنني أكسر الحواجز الثقافية السائدة، كان هناك نوع من التحفظ تجاه هذا الفن في البداية، ولكنني تمكنت الآن من تغيير هذا الموقف ومع مرور الوقت يمكنني القول بأنني فخورة بإعادة تقديم الوشم الأمازيغي على أنه جزء من ثقافتنا وهويتنا، وليس مجرد شيء يُعتبر قديماً أو غير عصري"، مؤكدة بأنها لا تعتبر فن الوشم الأمازيغي فقط وسيلة للتعبير الجمالي بل هو وسيلة لتوثيق الثقافة والتراث وإن رسالتها تتجاوز تزيين الأجساد فقط بل تتضمن إعادة ربط الأجيال الجديدة بهويتهم العميقة وجذورهم التي قد تكون غابت مع مرور الوقت.

وقالت منال مهدواني في ختام حديثها "نحن بحاجة إلى أن نفهم ونعرف قيمنا الثقافية، وأعتقد أن الوشم الأمازيغي هو جزء من هذه القيم، عندما نتعرف على رموزنا، فإننا نعيد بناء هويتنا الثقافية وننقلها إلى الأجيال القادمة".