"تل حلف" أقدم المناطق الحضارية في تاريخ البشرية

في شمالي غربي مدينة سري كانيه/رأس العين الواقعة ضمن مناطق شمال وشرق سوريا عُثر على أول اكتشاف لآثار من العصر الحجري الحديث في منطقة تسمى "تل حلف" تعود آثارها للألف السادس قبل الميلاد

مركز الأخبار ـ . هناك نشأت الحضارة الحلفية التي اخذت اسمها من المنطقة.     
تل حلف موقع أثري هام في شمال وشرق سوريا تم اكتشافه بداية العقد الثاني من القرن العشرين من قبل الباحث الألماني ماكس فون أوبنهايم.
 
تل حلف تاريخياً 
منطقة تل حلف هي أساس الثورة الزراعية في مزوبوتاميا العليا (حضارة ما بين النهرين)، وتقع على بعد 5كم من مدينة سري كانيه/رأس العين ضمن مناطق شمال وشرق سوريا وهي أقدم المناطق الحضارية في تاريخ البشرية حيث يعود تاريخها إلى حوالي (6000ـ 5300) عام قبل الميلاد.   
حتى الألف الأول قبل الميلاد كان موقع تل حلف يدعى بـ غوزانا، وبعد أن استولى عليه الآراميون من عائلة بخياني أصبح مركز الدولة الآرامية، وبنى فيه الآراميون التماثيل والأبنية على الأسلوب الحثي الغني بالزخارف النافرة. في عام 808 ق.م صنفت المدينة من قبل الدولة الآشورية على أنها تابعة للآراميين فقط.  
أهتم الحلفيون كغيرهم من الشعوب بالجانب الروحاني فبنوا المعابد وصنعوا التمائم وصوروا الآلهة واختصوا بتماثيل الآلهة الأم وهو ما يؤكد انتشار عقيدة الأم بين الشعوب القديمة، كما قدسوا الثور فكثير من تماثيلهم تصور الثيران وكذلك عُثر على جماجم ثيران مدفونة. 
مدينة غوزانا وقعت تحت الحكم الآشوري في عام 911 ق.م وبذلك أصبحت جزءاً من الامبراطورية الآشورية، جاء ذكر تلك الفترة في حوليات الملوك الآشوريين، فالملك أدد نيراري الثاني (911ـ891ق.م) وهو أول الملوك الذين حكموا الدولة الآشورية في العصر الحديدي كان قد عبر نهر الخابور متجهاً نحو غوازانا، والملك شلمنصر الثالث (858ـ824ق.م) جاء على ذكر غوزانا في كثير من كتاباته. 
لم يكن موقع تل حلف مهجوراً في أي فترة من تاريخه لكنه شهد فترتين رئيسيتين من الاستيطان، الأولى تمتد من أواخر الألف السادس قبل الميلاد وحتى الألف الخامس قبل الميلاد، وتتميز بانتشار مساكن مستديرة الشكل وأواني فخارية ذات نقوش دقيقة وألوان مميزة، إضافة إلى أواني مصنوعة من الحجر والمعادن. 
يتوقع الباحثون في التاريخ أن انهيار حضارة تل حلف في الفترة ما بين (4500ـ 4300ق.م) نتيجة لازدهار فترة العبيد الذين طوروا الزراعة وتوسعوا بشبكات الري حتى امتدت ثقافتهم نحو الشمال على حساب ثقافة تل حلف؛ هذا الانهيار أدى إلى تراجع حضارة تل حلف لفترة طويلة بعد أن انهارت شبكتها التجارية المتطورة والتي لم تعد حتى بداية الألف الأول قبل الميلاد.
عندما استعادت تل حلف امجادها عُرفت في السجلات الآشورية باسم "غوزانا" كان أهم أعمال هذه الفترة بناء قصر الملك كابارا بن قاديانو وفق تصميم البيت العالي، وتم انشاء مدفن ملكي عند التنقيب فيه عثر على تمثال لامرأة تتدلى خصلتان من جدائلها وهي تمسك كأساً بيدها أطلق عليها اسم الربة الحلفية، ولشدة اعجابه بها طلب اوبنهايم نحت نسخة مطابقة لها لتوضع على قبره.
وعثر كذلك على تماثيل لمخلوقات متمازجة كتماثيل إنسان برأس أسد أو عقرب أو سمكة وكذلك أسود مجنحة.
 
أوبنهايم والاكتشاف 
بحكم عمله كدبلوماسي جاء المؤرخ وعالم الآثار ماكس فون أوبنهايم إلى سوريا حين كانت الدولة العثمانية تسيطر على المنطقة، وشارك بالتخطيط لإنشاء سكة حديدية تربط إسطنبول بالعراق وسوريا بتمويل من ألمانيا. يقال إن اوبنهايم كان يمسح المنطقة ضمن خطط بناء سكة الحديد عندما أشار له أحد البدو بوجود تماثيل ضخمة عليها رسومات مخيفة.  
لكن في مذكراته أكد أوبنهايم أنه حين كان يتردد على خيمة ابراهيم باشا سمع عن تماثيل غريبة تم العثور عليها أثناء حفر أحد القبور في تل حلف فاتجه صوب تلك المنطقة ليكتشف في عام 1899 بمساعدة البدو قصور وقطع فنية وتماثيل جميعها بحالة جيدة حيث عمل سكان المنطقة على تغطيتها بالرمال واستمر في أعمال التنقيب حتى عام 1940.  
الآثار المكتشفة تعود للنصف الثاني من الألف السادس قبل الميلادي والألف الخامس قبل الميلاد شكلت تل حلف مركزها وانتشرت وامتدت من نهر الفرات غرباً إلى نهر الزاب الكبير شرقاً. الآثار ضمت مقر للأمراء الآراميين يعود للألف الأول قبل الميلاد.
بعد سنوات من هذه الاكتشافات عاد أوبنهايم من جديد إلى تل حلف وكان ذلك في العام 1911 عازماً على التنقيب عن آثار جديدة، وعلى ذلك استعان بمئات من السكان المحليين.
أوبنهايم قضى حوالي أربع سنوات في حفر القصر الذي يعود إلى عهد سلالة الملك "كابارا بن قاديانو" وعثر في داخله على مجموعة من الآثار منحوت عليها رسومات لبشر وحيوانات، وتماثيل حجرية، ثم عُثر على القصر الشمالي الشرقي إضافة إلى سور المدينة وبوابات ومدافن، وحجرة أطلق عليها اسم القاعة الثقافية. 
نقل اوبنهايم معظم الاكتشافات إلى برلين عبر سكة الحديد التي تصل بين المانيا وبغداد والمعروفة باسم قطار الشرق السريع. وخصص لها قسماً في متحف بيرغامون في برلين، عُرضت لأول مرة في عام 1930، لكن ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية تعرضت لتدمير كبير وكان ذلك في عام 1943. 
في عام 2001 أطلق القائمون على المتحف مشروع ترميم القطع الأثرية الثمينة محاولين إعادتها لما كانت عليه قبل التدمير، كانت المهمة صعبة نظراً لحجم الدمار الذي تعرضت له، لكنهم استطاعوا في النهاية جمع 27 ألف قطعة وإعادة ترميمها ووصلوا بها لشكل مشابه لما كانت عليه قبل تعرضها للقصف وتم عرضها في عام 2011.   
الآثار 
 
1ـ مدينة غوزانا
تعد مدينة غوزانا من أهم الاكتشافات الأثرية في تل حلف وأقدمها في تاريخ الحضارات التي عرفتها البشرية، هي عاصمة مملكة بخياني، التي ازدهرت في الألف الأول قبل الميلاد وتقع على الجهة الجنوبية لمدينة سري كانيه/رأس العين، اكتشفت في عام 1910. 
المدينة تنقسم إلى خارجية وداخلية الأولى محاطة بنظام دفاعي يشمل أسوار وأبراج تبلغ مساحتها 50 هكتار، ويتربع القصر على مساحة 5.1 هكتار فيما يعرف بالمدينة الداخلية.
 يحيط بالمدينة سور من الجهة الجنوبية، وسور آخر يفصل الحصن الموجود في الجزء الشمالي عن المدينة السفلى التي تضم معبد مبني على النمط الآشوري.
يمكن تقسيم الفترة التاريخية التي كانت المدينة مأهولة بها إلى عصرين الأول هو العصر الحجري النحاسي في الألف الخامس والألف السادس قبل الميلاد، والثاني في عصر الممالك السورية والذي حكم فيه الآراميون في الألف الثاني قبل الميلاد. وكان للحضارة الإسلامية حضور في تل حلف حيث أن بعض الشواهد الموجودة في مدينة غوزانا تعود للعصر الإسلامي والعربي.    
امتازت حضارات الشرق الأوسط وبلاد ما بين النهرين بتصاميم هندسية مختلفة بحسب كل فترة زمنية، ففي الفترة الممتدة ما بين القرن السادس عشر والسابع عشر قبل الميلاد غلب على الأبنية تصميم هندسي يسمى بيت خيلاني أو هيلاني ومعناه بالآرامية البيت العالي.
وكان قصر المدينة قد بني على هذا الشكل ويتكون من قاعتين كلاهما بشكل مستطيل، القاعة الثانية تسمى قاعة العرش وأمامها باحة مكشوفة لكنها مسورة لها مدخل كبير وبعده درج من الحجر المنحوت، تم تزيين المدخل بمنحوتات حجرية ضخمة، وهناك نقوش نافرة.
يقال إن الملك الآرامي كابارا بن قاديانو ملك مدينة غوزانا لم يبني القصر لكنه أعاد ترميم الحجارة المتهدمة.    
على بوابة قصر المدينة تقف تماثيل ضخمة كحراس لإله الطقس وقرينته إلهة الحب والحرب وابنهما (تيشوب، خيبات، شرما) تقف هذه التماثيل والتي تحمل سقف المبنى بتيجانها على مجسمات لأسدين وثور. في داخل القصر نقوش ومنحوتات من البازلت تصور حروب المملكة، وأساطير تلك الحقبة، وهناك صور ومنحوتات متشابهة تزين جدران المعبد.
المنازل الحلفية شيدت من الطين والقصب، ابتكر سكانها نوع جديد حيث تكون دائرية الشكل ولها أسقف مقببة مطلية بالجبس الأبيض، هذا التصميم أطلق عليه اسم ثولوس ما يعني خلايا النحل، هناك اعتقاد سائد بأن هذا الشكل من المنازل مخصص للعبادة، لكن ومع بداية الألف الخامس قبل الميلاد بدأت تظهر أشكال مستطيلة للمنازل غلبت على سابقاتها. 
 
2ـ الفخار الحلفي
عمل سكان تل حلف على صناعة تماثيل للآلهة عشتار من الطين المشوي جزئياً، لكن حضارتهم تتميز بشكل رئيسي بالفخار، فقد عثر على القطع الفخارية لأول مرة في تل حلف وهي مصنوعة بأشكال وألوان مختلفة عليها نقوش وأشكال حيوانية وزخارف هندسية.
في مناطق مختلفة من مزوبوتاميا العليا كـ بحيرة وان شرقي الأناضول عثر على قطع فخارية حلفية فيها وهو ما يعزز نظرية أن تكون تل حلف عملت على تصديره، كذلك كان الفخار الحلفي يقدم كهدايا بين أصحاب الطبقة الهامة. 
أكد الباحثون أن الفخار الحلفي تطور وتقدم بشكل كبير ووصل إلى درجة لم يتسنى الوصول إليها فيما بعد سواء في حضارة بلاد ما بين النهرين أو الحضارات المجاورة.
يعود ذلك التميز كون الأواني الفخارية تصنع من طين ذا نوعية ممتازة ومنتقاة بدقة، تصنع الآنية بحيث تكون جدرانها رقيقة وقوية، وفي ذات الوقت تزين بنقوش أسماك وأزهار وغزلان وأشجار نخيل، لكن أغلب النقوش التي وجدت هي لفؤوس مزدوجة وصلبان وبوكرانيات وهي النقوش التي يتم فيها رسم رؤوس ثيران بقرون طويلة. 
تطورت صناعة الفخار الحلفي حتى انه سُمي بقشرة البيضة لرقته الشديدة وكان ذلك في المرحلة الأخيرة من الحضارة الحلفية أي في النصف الأول من الألف الخامس قبل الميلاد.   
 
3ـ صناعات متطورة
عندما كانت صناعة النسيج ما تزال جديدة على المنطقة استطاعت تل حلف تطويرها، امتازت تل حلف أيضاً بصناعة الملابس والحصر والسلال والصواني وأدوات الزينة التي تصدر إلى المناطق المجاورة والبعيدة.
سكان تل حلف لم يكتفوا بذلك بل طوروا أعمالهم حتى بدأوا بصناعة أدوات من المعادن كالنحاس والرصاص والاختام التي يعد ظهورها أحد أشكال تطور مفهوم المُلكية الشخصية.
للزراعة حكاية أخرى في تل حلف تلك المنطقة الغنية بالمياه، والتي تعد من أفضل المناطق التي تنبت المحاصيل الزراعية، سكانها القدماء اعتمدوا على الزراعة بشكل كبير المروية منها والبعلية، أراضيهم انتجت القمح والشعير والكتان والقنب، وأخذت تربية الحيوانات حيز كبير من اهتمامهم. ازدهار الاقتصاد بشكل كبير كان سبباً لدخول المنطقة بميدان التجارة فكانت تجارتهم واسعة ومنظمة وصلت حتى الاناضول والمحيط الهندي والخليج العربي.  
 
متحف حلب
لم ينقل اوبنهايم جميع المكتشفات إلى برلين فنحو ثلث الآثار معروضة في متحلف حلب خصصت لها قاعة خاصة معظمها يعود للألف الأول قبل الميلاد وهي منحوتة بازلتية تمثل كائنين مركبين من إنسان وثور يحملان قرص الشمس ورجل بوضعية الركوع. وكذلك تمثال للآلهة عشتار والآلهة حُدد والعديد من اللوحات والمنحوتات التي كانت تغطي الجزء السفلي من جدران القصر، ويبلغ عددها نحو 183 منحوتة منها لوحة حجرية تمثل صيد ايل وثور، ومنحوتة الرجل الطائر، والرجل العقرب. 
تقع تل حلف اليوم تحت الاحتلال التركي ومرتزقته بعد أن شنت تركيا عملية عسكرية في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2019 على مناطق شمال وشرق سوريا، وتعرضت معظم آثارها للتدمير.