شيران مدينة الأسود
تمتلك ناحية شيران آثاراً عريقة يفوح منها عبق التاريخ، وشعباً ما زال يحافظ على ثقافته وتراثه
كوباني ـ . شيران والتي تعني الأسد باللغة الكردية مدينة أثرية في شمال وشرق سوريا يعود تاريخها إلى الألف الأول قبل الميلاد، وتعد من أعرق المدن ليس في سوريا فقط وإنما في العالم أيضاً.
تحتضن هذه البقعة من الأرض العديد من الأماكن الأثرية وما قرية شيران إلا أحد الأماكن التاريخية التي شهدت حضارات عريقة منذ ما قبل التاريخ، وتندرج جميعها ضمن حضارة ما بين النهرين.
الموقع وأعمال التنقيب
تقع ناحية شيران في الجنوب الشرقي لمدينة كوباني في شمال وشرق سوريا، وتبعد عنها حوالي 7كم. تميزت بموقع استراتيجي حيث أنها تقع على الطريق التجارية القديمة بين حران وكري سور "تل أحمر".
شهدت ناحية شيران على العديد من الحضارات ومنها حضارة حداتو أو خداتو كما هي معروفة في النصوص الآشورية نسبة للملك الأرامي حدات، وأطلق عليها العثمانيون اسم أرسلان طاش وتعني الأسود الحجرية وذلك لكثرة الأسود المنحوتة من الأحجار البازلتية فيها. وتضم الناحية مملكة شيران وهي من أهم المواقع الأثرية في سوريا عموماً، وتقع على أطلال مدينة حداتو.
آثار عريقة
أجريت أعمال التنقيب من قبل بعثة أثرية فرنسية في عام 1928، بإشراف الأمين العام لدائرة الآثار الشرقية في متحف اللوفر تورو دانجان، الذي يعود له الفضل في اكتشاف مدينة حداتو الأثرية.
أجرت البعثة حملتي تنقيب الأولى في فصل الربيع شارك فيها الأب أوغسطين باروا، والباحث جورج دوسان، أما الحملة الثانية فكانت في فصل الخريف بمساعدة عالم الآثار موريس دونان. كشفت هذه التنقيبات عن حضارة عريقة ازدهرت في الألف الأول قبل الميلاد أي فترة حكم الدولة الآرامية والآشورية للمنطقة.
لكن الفضل في لفت الانتباه للأهمية الأثرية للمدينة يعود إلى مدير متحف اسطنبول في ذلك الوقت عثمان حمدي بك والذي زار المنطقة عام 1883، وسجل بعض الملاحظات حول الموقع، ولم تنقطع بعدها زيارات علماء الآثار للمنطقة.
مدينة حداتو المكتشفة بُنيت على شكل بيضوي فيها حصن ضخم ويحيط بها سور من الطوب المعروف في المنطقة باللبن الطيني مرصوف بدقة فوق أساسات حجرية، يبلغ طول الحصن 750 متراً، وعرضه 550 متراً، وله ثلاث بوابات تحرسها تماثيل لأسود ضخمة كُتب على قواعدها بثلاث لغات هي الآرامية والآشورية والحثية.
لم يكن لمدينة حداتو أي أهمية قبل سيطرة الآشوريين عليها واتخاذها عاصمة لإحدى مقاطعات الإمبراطورية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد.
تغلث فلاسر الثالث والذي حكم الدولة من عام 745ـ727 ق.م شيد في مدينة حداتو قصراً؛ بعد أن اتخذها كمحطة لتوقف جيوشه، وبذلك زادت أهميتها، لكنها سرعان ما فقدت هذه الأهمية مع سقوط إمبراطورية نينوى أو الإمبراطورية الآشورية.
تشير الآثار المتبقية إلى أن المدينة استعادت أهميتها وازدهارها خلال الحضارة الإغريقية، وما يدل على ذلك اكتشاف أنقاض قصر بُني فوق أنقاض القصر الآشوري.
داخل المدينة معبد كبير وفي واجهته ثوران كبيران يحرسانه، مع ذلك لم يتم الكشف عن مزيد من الآثار داخله عدا عن ستة تماثيل للآلهة، أبرزها تمثال الإله حامل صندوق الأعطيات، أحد هذه التماثيل موجود في متحف حلب، والآخر في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس. وما زال أهالي شيران يعثرون على قطع من الفخار عند حفرهم للأرض.
بيت العاجيات
كشفت أعمال التنقيب عن قصر قديم يسمى "بيت العاجيات" نسبة للتماثيل والقطع الأثرية المصنوعة من العاج، والتي يعود تاريخها إلى القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، ولها أشكال عديدة منها لأشخاص ومنها لحيوانات ونباتات، وأشكال خيالية مثل امرأة مجنحة يعتقد أنها وصيفة الربة عشتار، وكان للنساء نصيب كبير من الآثار، فوجدت تماثيل لنساء يرتدين تيجاناً على رؤوسهن ويمسكن زنبقة في كل يد.
وتوصف هذه التحف بالعاجيات الفينيقية، واستحوذت على اهتمام عالم الآثار تورو دانجان فكان أن وصف أكثر من مئة عاجية منها في كتابه "أرسلان طاش"، مرفقة بصورها.
في الكتاب صورة لولادة إله الشمس عند المصريين "حورس"، تحيط به أجنحة جنيتان وهو جالس على ساق زهرة، وموضوع على رأس الجنيتان تاج مصر العليا ومصر السفلى فوق شعر كثيف ومجعد مصفوف على الطريقة المصرية كذلك.
وضم الكتاب "الحزمة الرمزية" وهي عبارة عن صورة لجنيتان على رأسيهما تاج مصري مزدوج، ترتديان معطفاً طويلاً بجوارب، وتربطان حزمة من البردي يجلس عليها إنسان صغير يمسك بيده شبحاً وعلى رأسه قرص شمسي.
من العاجيات أيضاً صورة المرأة المطلة من النافذة وهي عبارة عن رأس امرأة يطل من فوق درابزين له أربعة أعمدة، لها شعر مجعد وممشط على الطريقة المصرية، وتعلوه زخرفة مسطحة كما أن أذناها مزينتان بأقراط.
وكما ذكرنا سابقاً فإن الصور تضمنت لوحات لحيوانات كصورة البقرة المرصعة التي تدير رأسها لتلعق عجلها الذي يرضع بنهم. وصورة لإبل رأسه منخفض ولسانه يتدلى وكأنه يرعى أو يشرب.
سكان المدينة الأثرية... عادات وتقاليد
لا تتوقف عراقة المدينة على الآثار بل إن فيها شعباً عريقاً له تاريخ طويل يتكون من عشائر غالبيتها من المكون الكُردي منها (كيتكان، ديدان، شيخان، شدادان، دنان، قره كيجان، أوخيان، ميران، بيشان، عليدينان، معفان، زرواران وعاصيان....).
يعمل سكان ناحية شيران بالزراعة، يزرعون القمح والكمون والبقوليات. ويقع الجزء الأكبر من العمل بالزراعة على عاتق النساء، بالإضافة إلى عملها في نسج السجاد والتعليم والانضمام إلى المؤسسات المدنية. معظم الرجال يعملون في أعمال الحفر لذلك يقضون معظم الأوقات في الخارج وأحياناً كثيرة يسافرون خارج البلاد.
يقع على عاتق النساء الحفاظ على الثقافة والتقاليد كونهن مربيات الأجيال، من خلال تعريف أبنائهن على ثقافة وتراث المدينة فهذا العمل الذي لا يلاحظه الناس من أهم الاعمال التي تقوم بها النساء على كوكب الأرض.
كما أنهن ما زلن تحافظن على الأدوات والمواد اللازمة لصنع خبز الصاج على الرغم من انتشار الأفران، التي اتاحت للنساء فرصة للراحة من الأعباء الملقاة على كاهلهن، بالإضافة إلى عملهن في نسج السجاد وخيط الصوف والأزياء الفلكلورية التي لا تزال نساء الناحية يرتدينها في الاحتفالات.
مزار الشيخ سروجي
أما عن مزار الشيخ سروجي الواقع بجانب جامع شيران له ثلاث مقامات، إحداها في مدينة دمشق والآخر في تركيا.
المزار الموجود في شيران قديم جداً، ويستقبل العديد من الزوار كل عام وفي مختلف المناسبات، حيث يعتبره الناس بيت من بيوت الله، والشيخ سروجي كردي الأصل.
وتُمثل القبة التي يعود تاريخها إلى قبل 200 عام أبرز ما في المزار كانت مبنية من الفخار لكن أهالي شيران قاموا بترميمها وبنائها بالإسمنت للحفاظ عليها، خاصة بعد تدميرها من قبل مرتزقة داعش الذين لم يتوقف استهدافهم للبشر، فكان أن دمروا آثار المنطقة لمحو حضارتها ضمن سياسة الإبادة الثقافية التي تسعى تركيا إلى تطبيقها في شمال وشرق سوريا من خلال هؤلاء المرتزقة، فعندما هاجمت مرتزقة داعش على كوباني في أيلول/سبتمبر2014 عمدوا إلى تخريب القبة ودمروا العديد من الأماكن التي يعود تاريخها إلى حضارات قديمة تعاقبت على القرية.
وتم ترميم القبة من قبل السكان، بعد تحرير مدينة كوباني من قبل وحدات حماية الشعب والمرأة في 27 تشرين الأول/أكتوبر2015.
سرقة الآثار
تم سرقة معظم الآثار من مكانها الأصلي. نقلت أغلب هذه الآثار إلى متحف اسطنبول خلال فترة الاحتلال العثماني للمنطقة، وأرسلت العديد من الآثار إلى فرنسا خلال فترة الانتداب الفرنسي على البلاد، كون أول بعثة قامت بالتنقيب تابعة لبلد الانتداب، فقامت فرنسا بأخذ جميع الآثار التي عثرت عليها فرق التنقيب بقيادة مستر توروس.
كما ويوجد بعضها في متحف حلب منها أسود البوابة وتمثال الإله حامل صندوق الأعطيات الذي يبلغ ارتفاعه 1.73متراً وهو أحد التماثيل التي كانت موجودة في المعبد الآشوري.
أما بالنسبة إلى الأسود الموجودة حالياً في القرية فهي غير حقيقية، فالتماثيل الحقيقية نقلتها الحكومة السورية إلى حديقة الرشيد في مدينة الرقة ومتحف حلب الوطني ويضع بدلاً عنهما أسود مزيفة، والأسدين الموجودين بالقرب من مقبرة شيران كانا مفصولي الرأس قبل أن تقوم بعثة أجنبية بترميمهما، بعد ذلك تم نقلهما إلى متحف حلب، في قسم خاص بآثار قرية شيران.