لطيفة زيواني سفيرة الخزف الذي يعبر عن أصالة وتراث المغرب
رغم أنه مجال ذكوري بامتياز، إلا أن لطيفة زيواني كسرت القاعدة وأعلنت تمردها على العائلة والمجتمع لتصبح سفيرة للخزف بدون منازع.
رجاء خيرات
المغرب ـ نشأت لطيفة زيواني وسط عائلة تمتهن صناعة الخزف بمدينة أسفي غرب وسط المغرب، فتعلقت بهذا التراث وأخلصت له.
تعد صناعة الخزف تراثاً في مدينة أسفي، حيث لا يمكن لزائر المدينة ألا يُعرِج ناحية السوق لاقتناء تحف من الخزف، يحملها معه تذكاراً لمدينة تمتاز بصناعة الخزف، وبميناء يعد من أكبر موانئ المغرب، كما توجد بها أكبر معامل لتصبير السمك الذي يميز هذه المدينة الساحلية.
فضاء مغلق
من الصعب تواجد النساء في ورشات الخزف أو الفخار، لأنه عرف دوماً كمجال يمتهنه الرجال، لكن لطيفة زيواني استطاعت بفضل عزيمتها وعشقها لهذا التراث أن تنتزع حقها في امتهانه منذ مرحلة مبكرة من حياتها، حيث تشربت أسس الحرفة، قبل أن تصقل موهبتها بالدراسة والتكوين لتصنع بذلك اسماً لامعاً في مجال الخزف سواء داخل المغرب أو خارجه.
أغلب الفتيات في مرحلة معينة من حياتهن يتم توجيههن إلى نوادي تعلم الخياطة والتطريز وبعض المهارات اليدوية كنوع من تقليد أخلصت له الأسر "المسفيوية"، حيث لا يمكن للفتاة، بل حتى المتعلمة منهن، ألا تتعلم هذه المهارات، إلا أن لطيفة زيواني توجهت نحو ورشات الخزف لتتعلم أسسه بدل الخياطة والتطريز الذي لم يكن يعجبها فيه إلا تناسق الألوان والأشكال التي استلهمت منها ما خطته يداها على القطع الخزفية.
تقول "منذ صغري أحببت الخزف الذي يعتبر مهنة عائلتي، ورغم أنه لا يسمح للمرأة بأن تدخله، إلا أنني كسرت القاعدة وخضت معركة شرسة من أجل أن أُثَبت قدمي في هذا المجال".
ولكي تثبت قدمها في مجال الخزف، كان لابد أن تمر عبر عدد من الاختبارات، أولها التأكد ما إذا كانت ستستمر في هذه المعركة إلى ما لا نهاية أم ستستسلم عند أول منعطف. تقول حول ذلك "كانت أولى معاركي هي الإقناع، كيف يمكن أن أقنع والدي بولوج فضاء يعج بعمال حرفيين كلهم رجال، وقد ساعدني في ذلك أنه كان شخصاً منفتحاً يحترم اختيارات أبنائه رغم أننا كنا نعيش في وسط منغلق ورافض تماماً لوجود امرأة في مجال يحتكره الرجال".
ولكي تربح لطيفة زيواني هذه المعركة كان يجب أن تثبت تفوقها الدراسي أولاً، لتزيل أي تبرير قد يدفع المعارضين إلى إبعادها عما اختارته لنفسها منذ البداية وحاربت من أجله.
أمام رفض الإخوة نزولها إلى الورشات الحرفية، ارتأى والدها أن يجلب لها كميات من الطين للبيت، وهي صغيرة السن، فكانت تلهو به وتشكل قطعاً منه، "كلما لامست الطين شعرت أنني ألمس العالم بيدي، علاقتي به غريبة وملتبسة ولا يمكنني شرحها، ما كنت متأكدة منه هو عشقي اللامتناهي للطين والخزف وبأنني ملتصقة به مدى الحياة".
الطين مقدس
من العادات التي تأثرت بها لطيفة زيواني تلك الطقوس التي كان يمارسها الحرفيون القدامى، حيث كانوا ينزعون نعالهم في حضرة الطين قبل أن يلمسوه، شكلت هذه العادات وجدانها وحفرت في ذاكرتها صوراً لا تمحى، كما قربتها أكثر من الأجواء التي تتم فيها صناعة الخزف، وجعلته يحتل مكاناً مهماً في حياتها.
لكل صانع لمسته الخاصة وأسلوبه في الصنع، حيث أنه يضع اسمه أسفل القطعة، بل إن الملمين بالخزف يعرفون جيداً لمن تعود القطع من شكلها واختيار ألوانها.
دراسة الأدب
دخلت الجامعة ودرست الأدب وحصلت على الإجازة، ولكن ذلك لم يثنها عن مواصلة مشوارها الذي تدرجت فيه، من الورشات الحرفية إلى محلات البيع والتعامل مع الزبائن. تقول عن ذلك "كنت أقضي جميع العطل المدرسية في الورشات لتعلم صناعة الخزف ووضع الزخارف والألوان والطلاء النهائي. أمكث خلال عطلة الصيف في المحلات إلى ما بعد منتصف الليل، وأباشر المبيعات وأدون الحسابات".
كما ساعدها حبها للأدب في البحث عن سبل جديدة وخلق علاقة خاصة مع القطع التي تتفنن في صناعتها، وعدم الاكتفاء بالنظر لهذا المجال على أنه مجرد مصدر عيش فقط، بل هو تعبير عن هوية وثقافة ينبغي المحافظة عليها وتطويرها.
كما وجدت نفسها بعد ذلك مسؤولة عن تنظيم معارض خارج المغرب، في روسيا وكندا وبلدان الشرق الأوسط وأوروبا وغيرها من البلدان، وهو ما منحها هذا الانفتاح على جهات أجنبية وعزز تجربتها في أن تمثل قطاعاً اقتصاديا وثقافياً مهماً يزخر به المغرب.
سفيرة الخزف
لا تنتهي علاقة لطيفة زيواني بقطعة الخزف بعد بيعها بل إنها تمتد إلى أبعد من ذلك، حيث تقول "أعتبر أن هذه القطعة التي ستخرج من المحل سفيرة لثقافة وتراث، إنها تعبر عن هوية، لذلك فأنا أكن لها الاحترام والتقدير، وأتفانى في صناعتها، قبل أن أنظر إليها على أنها مصدر ربح". كل القطع التي تصنعها لطيفة زيواني تحمل توقيعها مع إضافة "المملكة المغربية، أسفي" وهذا يشير إلى أنها متشبعة بثقافة الاعتراف والسعي إلى التعبير عن الهوية الثقافية لبلدها ومدينتها أسفي.
بموازاة عملها في مجال الخزف، تنظم لطيفة زيواني ملتقيات ثقافية بمدينة أسفي في إطار ما يعرف بالدبلوماسية الموازية، وكانت آخرها "الملتقى المغربي الإسباني"، هذا اللقاء الذي حضره عدد من المسؤولين الحكوميين من إقليم الأندلس، تخلله حفل جمع فرقة لـ "الفلامنكو" وفرقة لفن "العيطة" بمدينة أسفي، حيث قدمت الفرقتان عروضاً فنية امتزج فيها اللونان الغنائيان، كما نظمت على هامشه ورشات للرسم والرقص والخزف، ولم يفتها تقديم هدايا عبارة عن قطع من الخزف للضيوف الذين حملوها معهم إلى بلدهم.
كما خاضت تجربة سياسية، حيث انتخبت مستشارة بالغرفة الثانية للبرلمان المغربي، لولايتين متتاليتين كأول امرأة تفوز في انتخابات الغرف المهنية بمقعد عبر الانتخاب الفردي، وقد شكلت هذه التجربة مرحلة مهمة في حياتها لأنها كانت تمثل واحداً من القطاعات المهمة التي تحتاج إلى التفاتة من قبل المسؤولين، واستطاعت أن تسمع صوت الصناع الحرفيين وتوصل معاناتهم جراء ما يتعرض له القطاع من مشاكل متراكمة، زادتها أزمة كورونا استفحالاً خلال السنتين الأخيرتين.
تكوين مستمر
لم تكتف لطيفة زيواني بما تعلمته في الورشات الحرفية لوالدها، بل سعت دوماً إلى تطوير معارفها في المجال عبر تلقي تكوينات في الخارج، خاصةً في مجال تجفيف الطين من خلال وضعه في الأفران. وقد استطاعت أن تجلب تقنيات جديدة أدخلتها لأول مرة إلى القطاع في مدينة أسفي، كالأفران الغازية وقطع الغيار وبعض أنواع الصباغة التي لم تكن معروفة من قبل. كما تلقت تدريبات مكثفة وتكوينات في مجال خلط الأصبغة وجلب بعضها من الخارج، لأنها تؤمن بأنه بدون ابتكار أساليب وأشكال جديدة تواكب روح العصر لا يمكن الاستمرار والارتقاء بهذا القطاع الحيوي.
ولم يفتها أن تلتفت للعاملات في إطار التعاونيات الحرفية، من خلال التأطير وتقديم الدعم التقني واللوجستي لكي يطورن من مهاراتهن ويضمن مشاريع مدرة للدخل.
وتعتبر أن الخزف هو تراث ثقافي يحتاج إلى العناية والاهتمام اللازمين، بغض النظر عن مكانته الاقتصادية، لذلك فهي بصدد التحضير لإصدار كتاب حول الخزف وأهميته في حياة أهالي مدينة أسفي خصوصاً والمغاربة عموماً.
هذا الكتاب يعد مرجعاً أساسياً دونت لطيفة زيواني أغلب تفاصيله من خلال الروايات الشفوية التي سمعتها عن شيوخ ورواد صناعة الخزف بآسفي، كنوع من الوفاء لذاكرة المدينة وتراثها الغني. كما ساهمت في إنشاء المتحف الوطني للخزف الذي يتضمن قطعاً من توقيع عائلة "الزيواني" التي تنتمي إليها لطيفة، وكذلك بالمعلومات التي دونتها لشرح ما يزخر به هذا المعلم الثقافي.