'كتبتُ هذه القصائد وأنا في طريقي إلى عمل فحص الـ ' DNA
"أظن أنّ الحمامة لا تشعر الآن بالأمان بقدر ما تشعر بالخوف، قبل أن تتفتح البيضتان كانت تهرب بمجرد دخولي للبلكونة، الآن صارت تتآلف مع وجودي، ليس لأنها مطمئنة، بل لأنها خائفة أكثر"
إنه فحص لمشاكلي الصحية، وهويتي، وصلات قرابتي بنفسي وبالآخرين
تحرير بني صخر
رام الله ـ ، تقول الروائية والشاعرة وكاتبة قصص الأطفال الفلسطينية أحلام بشارات.
أحلام بشارات مدربة متخصصة في مجال الكتابة الإبداعية، تعدّ من الأسماء المهمة في الكتابة لروايات اليافعين في العالم العربي، وقد لاقت رواياتها نجاحاً كبيراً على الصعيد المحلي والعالمي، ترجمت كتاباتها إلى أكثر من لغة، ومن رواياتها المترجمة إلى اللغة الإنجليزية Code Name Butterfly الاسم الرمزي فراشة، ورواية أشجار للغائبين Trees for the absentees، ومن أشهر رواياتها بالعربية لليافعين "جنجر، مصنع الذكريات". وفي لقاء تحدثت لوكالتنا وكالة أنباء المرأة عن ديوانها اسم الطائر الذي صدر مؤخراً.
من هي أحلام بشارات؟
سأعرّف نفسي من داخل اللحظة أجلس حالياً في بلكونتي، مرتاحة لمنظر تفتح أزهار التوليب والزنابق. أختطف هذه اللحظة وأضعها في قلبي، ولا يتوقف قلقي على ما يحدث في الخارج من فَقدٌ وخوفٌ من الفقد، وغياب قديم للألفة.
في الأعلى، بموازاة رأسي، بينما تدخل الشمس من النافذة الخشبية، فأتأكد بأني كنت محقة عندما قلت للنجار لنترك نافذة هنا، ثمة حمامة بيتية تُخبئ صغارها فتصيبها الشمس. الزغلولان عبارة عن مخلوقين أصفرين. عندما صعدت فوق الكرسي لرؤيتهما لم يصدر عنهما أي صوت!
كانت الحمامة قد وضعت البيض في قوّار لونه كحلي، تتدلّى منه نبتة الست المستحية التي هي الآن منطفئة، لكنها ستعود فتتورّد بمجرد إطلالة الصيف. سيكون لون ورودها بنفسجي داكن. أحب هذه الوردة، ترتبط بطفولتي، بمعرفتي الأولى بالورد قبل أن يخضع للتهجين، بزهور أصابع بنت الملك، وورود أم محمود، ووردة الساعة، ووردة القدسيّة بلون الكمّون والبرتقال.
أظن أنّ الحمامة لا تشعر الآن بالأمان بقدر ما تشعر بالخوف، فقبل أن تتفتح البيضتان كانت تهرب بمجرد دخولي للبلكونة، الآن صارت تتآلف مع وجودي، ليس لأنها مطمئنة، بل لأنها خائفة أكثر.
بين هذه الشعورين المتعاكسين من الخوف والأمان، أستمر في الخروج والدخول إلى حياتي، والتعامل مع كائنات ليست حمامات بيتية، وليست زنابق أو توليبات.
أنا هذه اللحظة عامل في اختبارها، تصبح الأنا، في هذه اللحظة، المكان والزمان معاً، أنا إذن الزمن يتجه صوب المساء في مكان مطلّ، إنها الساعة الثانية بعد الظهر، والزمن ينحدر، والمكان يصغر، فيبدو العالم كله كأنه يقيم معي في البناء نفسه، وقد فرض الإسرائيلي منع التجوال، الذي اختبرته في الانتفاضة الأولى، على العالم كله.
كنتُ في الثانية عشرة من عمري إذ ذاك، الآن عمري 11 عاماً!
قال لي صديق، تحدثنا بعد انقطاع طويل، وكان قد بدأ مشروعه في الزراعة في رواندا، بمجرد سماعه لصوتي إني صغرت. صوتي يظهر أصغر مما كان عليه. ضحكتي أيضاً. أفكاري أكثر نشاطاً. المكان الذي أقف فوقه فأنظر منه إلى العالم لا يهتزّ. بدوت له في حالة موازية للحالة المحيّرة لبينجامين بُتن الذي لعب شخصيته براد بيت في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه "الحالة المحيرة لبينجامين بُتن".
أقرأ مؤخرا لتشالز بوكوفسكي، لا أقرأ عملاً واحداً له، ولا أقرأ فقط، بل أناقش ما أقرأه، وأبحث حوله، دفعتني هذه القراءة إلى التفكير بأنّ الأدب سيظل يتطور وهو يسير في الطرق نفسه الذي اخترناه له، وسيظل يبحث عن أشكال جديده لظهوره وهو يعبر من هذه الطريق، والسبب الرئيسي هو أننا لا نسعى لسرد الواقع كما هو بطريقة ما قد تكون جميلة أو قبيحة لكنها تجعله قابلاً لأن يعيش عبر هذا السرد، وكأن السرد الواقعي هو الطريقة الأنسب لقول ما يريد الإنسان قوله.
الواقع قصة يمكن روايتها، وبعدها قد يكون الأدب نفسه هو تطوير قراءات حول سرد الواقع. إن الأمر بشكل ما أن نسير في طريق آخر لما نسير فيه الآن، أظن غير هذا الطريق، ولا يشترط أن يكون عكسه.
أريد أن أقول هنا إننا نسعى لقول أمر عبر الكتابة، لكننا نطور أدواتنا كي نخفي بعض ما نريد قوله، أجزاء منه على الأقل تختفي. تحترق الحقيقة من أطرافها. لا نريد أن يقول الآخرون عنا أننا مجانين، أو سكارى، أو خارجين عنه. لا نريد أن يقول عنا أننا قذرون أو عاديون، أو لو قال ذلك الأمر فليتركه غامضاً، كي نؤسس، إلى جانبه، علماً لتفسيره. يتحول المنتج الإبداعي إلى دين أيضاً، ولم نكن بحاجة لأديان أخرى وتفاسير واجتهادات أخرى. لقد قصرنا في فهم حياتنا فاستعرنا العالم البديل داخل الفن، انشغلنا بمقاربة حياتنا ولم نتركها تحدث. ماذا لو وصلتنا رسالة شفوية أو مكتوبة على رقعة من الجلد من عنترة لعبلة، رسالة عادية جداً، كلامه، وليس شعره، كلامه وليس بلاغته ولا مجازه. اعتراف بخياناته لعبلة مع ثلاثين امرأة أو زواجه بثمان. سعيه لأن تلد له ولداً. تقبيله ليديها ورجليها كي تسمح له بالاقتراب منها في الفراش.
ربما لا يسعى الإنسان للخلاص سريعاً، يهوى لعبة وجوده، هو موجود هنا، وعندما يغيب نهائياً يظل يثبت وجوده عبر ما تركه خلفه، وفي هذه الحالة سنضطر أن نفسر ما تركه، أن نقترب من "واقعه" فنظن ما ظنه.
ماذا لو كتب الكُتاب ظنونهم، شكوكهم، أمراضهم النفسية، رغبتهم بالقتل، علاقاتهم الجنسية، ربما أتحدث هنا بشكل خاص عن نفسي، بينما بوكوفسكي يقول كل شيء كما يحدث، ولا يختفي الجمال من طريقته، أقرأ مثلا قصيدته العظيمة الطائر الأزرق فأندهش.
نحن متأكدون بعد جائحة كورونا أن ما يحدث تقدم علينا، الأفلام التي كانت تضع توقعات لنهاية مأساوية لحياتنا بتنا داخلها تماماً، ثم لم نستطع إيقاف ما يحدث، الذي يشعر بقلة حيلة الفن أنّ هناك فنانين آخرين ظهروا في اللعبة ليسوا من الفنانين، ليسوا ممن يحسبهم الفن، أولئك الذين طوّروا هذا الحدث، قد يكونون أصحاب رأس مال أو سياسيون أو قتلة!
وقد أصبح الفيروس هو الشكل التعبيري أو حاضنة الشكل التعبيري، وهو من يدير العملية اللغوية برمتها، وهو من جمد داخلها حركة الأدب، بعضنا ينتظر انتهاء هذه المرحلة حتى يكتب عنها، كما يتكرر باستمرار مع الجوائح، بعضنا يكتب ليستمر في العيش، يكتب ليقاوم، الأمر تعدى رغباتنا ككتاب، المؤسسات نفسها تائهة.
بوكوفسكي تائه بطبعه، وكتابته تحاول أن تتبعه. أتساءل فقط متى ستكون مهمتي قول الحقيقة، وكتابتها، دون الانشغال بكيف سأفعل ذلك، سواء فيما أكتبه للأطفال أو في الشعر أو روايات اليافعين أو عودتي إلى القصة أو عندما أذهب للرواية. أريد مثلا وأنتِ تسألينني عن دراستي الجامعية أن أقول إنها لم تضف لي شيئاً، وأن أذكر اسم الجامعة التي درست فيها، وأشتمها، أذكر قصصاً معينة يتحدث بها الأصدقاء مع بعضهم البعض في صورة الندب. أنها جامعة محنطة، ومازال فيها فساد كثير، والفساد لا يرتبط بالمعنى الحرفي للكلمة، بل ما يحدث فعلاً لأن تظل متأخراً عن الآخرين، وأن هناك منظومة كاملة تؤخرك، وكأنّ هذه مهمتها.
بالنسبة للسكن فأنا أعيش في رام الله، وأتنقل إلى بيت العائلة في القرية. بالنسبة للعائلة فهي قصة أحاول كتابتها كما تحدث لكنني ما زلت أستخدم المجاز. أخمن أن لكل مكان إله يديره وأن لكل عائلة إله مسؤول عنها، ولا أظن أن هذا الكم الهائل من التناقضات بين هذا العدد الضئيل من الأفراد الذين يسكنون في بيت واحد يمكن حسمه بسهولة، بكتابة قصائد حب أو كراهية، إنه بحاجة إلى قرآن وتفاسير حتى تتغير الطريق، فتصبح غير طريق الواقعية السحرية، إنه طريق القذارة والنظافة، وسيتم اكتشافه عندما ستختفي هذه الصفات "سحر، نظافة، قذارة".
أحيانا أحتاج للتسلية أو الصحبة لكنني لم أكن أجدها قبل الجائحة بسهولة، هذا الأمر يقود للحديث عن الوسط الذي يعيش فيه الكاتب، وسأتبنى رأي بوكوفسكي: علينا أن نبتعد عن الكتاب. أما بالنسبة للحديث عن الأصدقاء فأظن أني سأفرد لهم عملاً كاملاً. لا يوجد حساسية اتجاه ما يحدث، بل توجد رغبة للفهم. فإذا كان بيننا من فهم ووصل الى إجابة، فليتفضل ويضع حداً لكل هذه الأسئلة، ولننتقل إلى شكل آخر مع تقديم اقتراحات تصلح لزمن ما، ثم لنتركها تبلى.
متى صدر ديوانكِ الأخير؟
صدرت مجموعة "اسم الطائر" في ظل الوباء. مع العجز، والقطيعة، وغياب الفرح، ومن مكان تَشكُل القوة في محل خفي وغريب، والمرء يتراجع إلى الخلف، ليدخل في حياته، من باب مخزن شوالات القمح والخردة والفئران. ليس فرداً بعينه، بل عندما دخل الجميع من هذه الأبواب الخلفية.
لقد صدرت المجموعة في موعد مناسب جداً. أظن أن كل هذه الأجواء تناسب الشاعر أن " يُنسى تماماً" كي يجد نفسه على حد تعبير الفيلسوف إميل سيوران. كانت هذه اللحظة التي غفل الجميع فيها عني، وعن بعضهم البعض، وجدتها الأنسب؛ لأفعل ما أردت فعله منذ سنوات وجبنت، عثرت في داخلي على متعة قديمة، وهي التحرك وأنا مظللّة، فتحركت تحت دخان الخوف.
تحول الجميع خلال عام 2020 إلى كتابة اليوميات، وتراجع الشعر، كان من الخطير أن يعرض الحساسون عواطفهم للفحص، وكان الطائر جاهزاً، منذ سنوات، وينتظر اللحظة المناسبة كي ينطلق، فخرج، ولم يكن الأمر أن أفتح له الباب أو أغلقه. كان أن حدث وكأن الحدث نفسه هو الباب، أو الطائر، أو القصائد نفسها.
لماذا اخترت "اسم الطائر " للديوان... ماذا يعني لكِ؟
ترددت كثيرا حول العنوان، وأنا بطبعي أمارس التردّد واستمتع به على نحو واع. أدرك أني ألفّ وأدور ثم أعود إلى ما اخترته في البداية، ليس لأن الصوت الأول يلعب دور الأب، أبو الأصوات، بل لأني، في حالة "اسم الطائر" كنت أريد أن أبني، من نقطة الصفر، ذلك الإيقاع الذي يبدأ بنباح كلب وجئير بقرة. كنت، بهذه القصائد، أسيّج حظيرة حتى أحمي ما فيها من الوحوش، أو أفتح باب الحظيرة أمام الوحوش لتأكل ما في الحظيرة، ثم تغيرت الأمور، فجأة، وعلى غير ما اعتدته. بعد استشارة بعض الأصدقاء، صار للمجموعة عنوان آخر، كان الأول "الكلب جمل"، وعندما اخترت العنوان الحالي، فعلت ذلك وأنا أحتفظ بالعنوان الأول، أحضنه بشدة. أشعر بأني أضع عنوان اسم الطائر بشريط لاصق فوق عنوان" الكلب جمل"، فأزيل هذا الشريط متى أردت لأنظر إلى ما كانه الاسم!
من يقرأ المجموعة سوف يجد الإجابة عن لماذا" اسم الطائر". لا يكفي قراءة القصيدة التي تحمل هذا العنوان في الصفحة 43 للإجابة على هذا السؤال، فالإجابة تنبض بها المجموعة كاملةً، ليس في كل قصيدة ريشة من ريش الطائر، ولا قطعة من لحمه، بل فيها نتافات من روح الرحلة كلها. أنا شخص مرتحل، وما زلت أحار وأحاول تفسير لماذا أخاف من مجرد الخروج من البيت!
ماذا تقدم أحلام بشارات في الديوان ... ماهي رسالتكِ؟
هناك أمي التي تمشي على الصراط المستقيم، وأخي الذي هاجر إلى الآخرة بادعاء أنه مات عام 2014، وهناك أبي الذي ذهب ليقضي حاجته في مكان قريب ثم لم يعد مجدداً، إن لم تخني الذاكرة فإنه لم يعد منذ عام 1980، رغم أنه بلغ 98 عاماً في عام 2021، هناك سعوط أمي وهيشة أبي اللذان شكلا أول بار عرفته، كان باراً مفتوحاً على الغارب في الحقول في فصل الربيع، والأرض المقفرة صيفاً، وهناك حبيبي الحديد، وثمة رسن معلق في عنق كل امرأة، وهناك الكثير من القرية، ليس باعتبارها مكاناً فقط، كما يحدث فتصبح أرضا للأحداث، بل صوتا مُدلّى في عنقي و"يخرخش" كأني نعجة.
لقد كتبت هذه القصائد وأنا في طريقي إلى عمل فحص الـ DNA الحمص النووي. إنه فحص لمشاكلي الصحية، وهويتي، وصلات قرابتي بنفسي وبالآخرين.
يذكر أن الكاتبة والشاعرة أحلام بشارات تعمل حالياً على كتاب عن سيرة الجسد، يؤّرخ لتجربتها الشخصية، ولها تحت الطبع حالياً كتاب عن ذكرياتها مع الطعام، بعنوان "طعم فمي" وكان "اسم الطائر"، آخر إصداراتها، وهو مجموعة شعرية، تدين فيه إلى نشأتها كفلاحة مرتحلة في كتابة الشعر. حيث سجلت في هذه المجموعة اكتشافاتها نحو العائلة دون مديحها، والقرية دون إعطاءها الصبغة العاطفية المعتادة.
كما كانت آخر مشاركاتها في مهرجان "فلسطين تكتب الأدب" عام 2020، وستحظى بمشاركة في مهرجان مديين العالمي للشعر في كولمبيا في الأول من آب/أغسطس 2021.