'اللون الأسود هو أم الألوان جميعاً، بدون الأسود لا تكتمل الحياكة'

الحياكة عمل يدوي عريق، مارسته الأمهات ورسمن به نقوشاً من الثقافة الاجتماعية، واستمرت هذه المهنة حتى يومنا هذا. طيبت كابار تعمل في الحياكة على النول منذ الصغر

ديلان كورهان
الموصل ـ ، وتقول إن "الحياكة تقوم على أربعة ألوان رئيسية، واللون الأسود هو أم الألوان جميعاً، بدون الأسود لا تكتمل الحياكة".
النسج والحياكة على النول فن يدوي عريق مارسته النساء، ورغم جميع مساعي الصهر الثقافية، فإن إصرار المرأة وعنادها أوصل هذا الفن إلى يومنا هذا. الحياكة تمثل بقاء وإحياء الرموز الثقافية القديمة، كما أنها تعبير عن مشاعر وحكايا المرأة عبر التاريخ. فالنساء تعبرن عن مشاعرهن عبر الرسومات التي ينقشنها على قطعة النسيج. ولكل نقش حكاية واسم. فنقش "لوله بر" مثلاً يعتبر من صنع المهنين الماهرين في المهنة. أما القصة فهي تحكي عن فتاة كسولة، عندما يأتي الخطابة لخطبتها تصعد إلى السطح وتنادي أمها "أمي هل أنقش زهرة كفر أم زهرة لوله بر"، وذلك لتظهر بمظهر الفتاة الماهرة النشيطة أمام الخطابين. أما الأم فإنها أيضاً ترغب أن تظهر ابنتها بمظهر النشيطة والماهرة فتقول لها "ابنتي بما إنك تجيدين النقشين، فارسمي ما يحلو لك"، لكل نقش ورسمة على قطعة النسيج قصة ومعاني تختلف عن غيرها.
 
زهرتي كفر ولوله بر 
في أرياف منطقة بوطان، ورغم جميع السياسات الرأسمالية الرامية إلى نشر الجهل والأمية بين المجتمع، فإن ثقافة النسج والحياكة حافظت على وجودها. وهي تشكل إحدى سبل التعبير عن النفس لدى النساء، مثلها مثل الغناء الشعبي التراثي. 
طيبت كابار من أهالي قرية ميجين في ناحية قلابان التابعة لمحافظة شرنخ، تعلمت جميع فنون النسج والحياكة على النول على يد والدتها منذ أن كانت طفلة صغيرة. منذ طفولتها كانت مولعة بهذا الفن، وينتابها الفضول على الدوام حول كيفية رسم كل نقشة أو وردة في مكانها المناسب، ولإرضاء هذا الفضول كانت على الدوام تحدق في يد والدتها وهي تعمل على النول. خلال مسيرة حياتها في النزوح والغربة على مدى عشرين عاماً، كانت طيبت كابار تصطحب معها على الدوام جميع أدوات الحياكة أينما رحلت، وتعيد نصبها مجدداً أينما حلت. تعيش طيبت الآن في مخيم مخمور للنازحين، نصبت نول الحياكة في فناء دارها وتعمل الآن على حياكة إحدى نتاجاتها.
 
بدأت بحياكة (الشلمة) الحزام 
تقول طيبت كابار إنها عندما كانت صغيرة، كانت والدتها تحيك الـ (الشلمة) "وهو من أنواع اللباس يوضع حول الخصر، وعليه رغبت طيبت بتعلم صناعة الشلمة، وتقول في ذلك: "عندما كنت صغيرة، كانت والدتي وجدتي تنصبن النول وتصنعن أشياء جميلة، وأنا كنت أساعدهن. عندما كن تنصبن النول وتفردن الخيوط، كانت كل واحدة منهن تعمل على طرف معين، وأنا كنت أجلس في الوسط، أمرر الخيوط المصنوعة من الوبر والصوف، والتي تم تلوينها فيما بعد. أحياناً كنت أشعر بالدوار كلما كنت أنتقل بين هذا الطرف وذاك، في بعض الحالات التي كانت فيها شبكة النول طويلة، كنت أشعر بالتعب والانهاك. فشبكة النول تكون عادة طويلة أو قصيرة حسب نوع المنسوج، فنسج الحقائب الصغيرة أو الكبيرة تتطلب شبكة قصيرة، بينما نسج الخيم أو (خرج الدواب- تير) "وهو على شكل جيبين كبيرين يوضع على ظهر الدواب لنقل الأشياء"، فإنه يتطلب شبكة طويلة. وأنا كنت إلى جانبهن وأنظر إلى أيديهن أثناء العمل. كانت أمي تصنع (الشلم) بشكل جميل، وأنا كنت أرغب بشدة بتعلم حياكتها. كنت أجلس لأيام بجانب والدتي وأنظر إليها كيف تعمل حتى تعلمت. وفي النهاية عندما صنعت واحدة كنت سعيدة جداً".
تقول طيبت كابار إن أمها كانت تساعدها في الحياكة فترة من الزمن حتى تمكنت من اتقان العمل جيداً، وفيما بعد بدأت بنفسها بالحياكة: "في البداية كانت أمي تساعدني، كانت تمد جميع الخيوط على آلة النول، وتضع أساس العمل وتحيك عدة صفوف، ومن ثم كنت أنا أكمل باقي العمل. وفيما بعد أتقنت العمل، وبدأت أعمل كل شيء بنفسي. عندما يعمل المرء عملاً ما بنفسه ويكمله إلى النهاية يشعر بسعاد كبيرة".
 
'لكي يرى أطفالي نتاجات جداتهن'
طيب تقول إنهن لم تعدن تستطعن الحصول على نفس خيوط النسيج التي كانت موجودة سابقاً، لذلك تجدن صعوبة بالغة في الحصول على الخيوط اللازمة للحياكة: "سابقاً كنا نغزل الخيوط من أحسن أنواع الصوف، ونلونها ومن ثم نستخدمها في الحياكة. وكانت تلك الخيوط متينة وجميلة. الخيوط المغزولة من الصوف تفيد في الوقاية من البرد ومن الحر أيضاً وهي صحية. حالياً لا يمكننا الحصول عليها. لذلك فإننا نواصل العمل باستخدام أنواع رديئة من الخيوط، نحن نواصل العمل من أجل إبقاء هذه الثقافة حية. والأمر لا يقتصر على ندرة الخيوط فقط، بل إن النول الذي نعمل عليه يجب أن يكون كبيراً كفاية ومصنوع بمهارة، ولكن الحصول على مثل ذلك النول أمر صعب. ورغم كل ذلك فإننا نسعى إلى تذليل هذه الصعاب من أجل ديمومة هذه الثقافة واستمرارها. وكما تعلمت أنا على يد والدتي وجدتي، فإنني أسعى إلى تعليم بناتي أيضاً. يجب أن يبقى النول موجوداً في فناء دارنا، حتى يراه أولادي وأولاد الجيران، وأن يحتفظوا في ذاكرتهم بهذا العمل القيم الذي مارسته جداتهن بإتقان". 
 
'الأسود أم الألوان'
حول الألوان الأساسية التي تستخدمها في الحياكة تقول طيبت كابار: "الأداة المهمة الأساسية هي النول، في البداية يجب إعداده ونصبه، وثم يأتي دور الخيوط والأدوات الأخرى. بشكل عام يتم استخدام أربعة ألوان أساسية في الحياكة، وهي الأسود والأحمر والأزرق والأخضر. ومن بين هذه الألوان يعتبر اللون الأسود هو اللون الرئيسي في جميع المنسوجات، وهو أم جميع الألوان الأخرى، بدون الأسود لا يمكن الحياكة. كانت النول تصنع قديماً من الخشب، وكانت صناعتها تتطلب مهارة ودقة. أما الآن فيتم الأمر بسهولة أكبر، نقطع بعض قطع الحديد بما يناسب عملنا ونمد عليها الخيوط ونبدأ العمل. ولأجل تمتين الخيوط مع بعضها أثناء الحياكة، يأتي دور قطعة الـ (الهبك) أو المشط، وهي قطعة حديدية ثقيلة بأسنان تشبه أسنان المشط، يضرب بها الخيط لدفع الخيوط إلى بعضها. وهناك أيضاً العديد من الأدوات الصغيرة في النول، وفي حال نقصت أي واحدة منها لا يمكن العمل على النول. سابقاً كنا نعد الخيوط بأنفسنا، أما الخيوط الموجودة حالياً فهي ليست متينة وألوانها غير جميلة أيضاً. 
الحياكة والعمل على النول صعبة نوعاً ما، فهي عبارة عن عمليات جمع حسابية، فإذا انقطع خيط واحد يتلف لون المنسوج، لأن القطع المحاكة تضم أشكال معينة كلها منسقة مع بعضها، لذلك لا يجوز الخطأ في الحياكة. يجب أن يكون المرء منتبهاً وحذراً جداً أثناء العمل لكي يتعلم جيداً. ولا يمكن أبداً أن يتعلم الإنسان هذه المهنة بدون الانتباه والاجتهاد والمواصلة. المهم في الأمر هو حب هذا العمل، فإذا كان المرء يحب هذا العمل ولديه الرغبة والفضول لإتقانه فإن بإمكانه قضاء أيام طويلة من أجل التعلم، أما عدا ذلك فإن الرغبة وحدها وكذلك الإهمال لا يساعد ابداً على التعلم واتقان العمل وصنع أشياء جميلة".
إضافة إلى الحياكة والنسيج، تتقن طيبت كابار أيضاً العديد من الأعمال اليدوية الأخرى، وتقول في ذلك: "إضافة إلى الحياكة أمارس أعمال يدوية أخرى. ورغم أن الأعمال اليدوية غير رائجة ولا تباع، ولكنني أواصل العمل من أجل الحفاظ عليها من الضياع والاندثار، كما إنني أشعر بمزيد من السعادة عنما أصنع هذه الأشياء، أنا أعبر عن ذاتي من خلال النسيج والحياكة والأعمال اليدوية الأخرى، فإنا أشعر بالراحة والطمأنينة عندما أنسج الخيوط وأصنع نقوشاً جميلة. لو كانت هذه الأعمال رائجة وقابلة للبيع، لكانت العديد من النساء عملن في الحياكة والنسيج، وكن ستساهمن في حماية هذه الثقافة من جهة، وتأمين مصدر عيش من جهة أخرى. وبسبب عدم رواج هذه المنتوجات في السوق، فإن العديد من النساء ابتعدن عن هذا العمل، أما أنا وأمثالي فإننا نواصل العمل من أجل الحفاظ عليه وكذلك لكسب بعض الراحة والطمأنينة. فبعد الانتهاء من كل قطعة نسيج أشعر بمزيد من الراحة والسعادة".
وناشدت طيبت الفتيات المهتمات بالفنون، وقالت "ندائي لفتياتنا وأمهاتنا هو حماية ثقافتهن وتراثهن الكردي، نحن وضعنا الأسس الأولى، يجب على كل فتاة أن تتعلم من والدتها وجدتها من أجل المساهمة في إحياء الثقافة والتراث".