أبجدية "النوشو" الكتابة الوحيدة في العالم الخاصة بالنساء

كونت نساء إقليم هونان الصيني أبجدية خاصة بهن منذ آلاف السنين تعرف بلغة النوشو للهروب من الواقع المظلم الذي يحيط بهن، بحيث لا يمكن للرجال فك رموزها وفهمها

مركز الأخبارـ .
تعد لغة النوشو التي تعرف باللغة الصينية "كتابة النساء" أو "لغة النساء" الكتابة الوحيدة في العالم التي ابتكرت أبجديتها وكتبتها وتحدثت بها نساء مقاطعة جيانغ يونغ في إقليم هونان الصيني. 
عكست هذه اللغة أنماط حياة النساء والفتيات اللواتي حُرمن من تعلم القراءة والكتابة أو الاحتكاك بالوسط الاجتماعي، فاستخدمن رموز هذه الأبجدية للحديث عن حقيقة وطبيعة الواقع في ظل مجتمع قائم على التمييز بين الجنسين وعدم المساواة فضلاً عن هيمنة العادات التقليدية التي تعمل على تهميش دورهن في مجالات الحياة.
ففي تلك المقاطعة كانت تخصص للفتاة عند بلوغها السابعة من العمر، غرفة خاصة لها في منزل العائلة وحتى بعد زواجها في بيت زوجها لا تخرج منها إلا عند الوفاة، بحيث تحدد واجباتها ضمن نطاق الأسرة وشؤون المنزل، دون أن يُعطى لها حق تقرير المصير أو حق التعليم وغيرها من الحقوق والحريات كأبداء الرأي وحرية التعبير والمشاركة في القرارات. 
النساء ابتدعن هذه الأبجدية لتكون خاصة بهن ولا يمكن للرجال فك رموزها وفهمها، واستخدمت للتعبير عما يدور في دواخلهن من أفكار وأحاديث، ولتكون أسلوب للمحاورة والتفاهم فيما بينهن.
كانت أغلب النصوص المكتوبة بلغة النوشو مأخوذة من الحياة العامة الواقعية للنساء منها ما تخص تجاربهن الشخصية ومعاناتهن من الزواج الفاشل، ومنها ما تشمل الضغوطات العائلية والاجتماعية آنذاك، إضافة إلى كتاباتهن التي تشمل تعرضهن للعنف والاضطهاد سواءً من العائلة أو المجتمع، فهذه الكتابة ساعدت النساء على التأقلم مع الوضع السائد حينها.
 
البصمة النسوية في أبجدية النوشو
استطاعت نساء مقاطعة جيانغ يونغ الاحتكاك وتمتين العلاقات الودية مع نساء القرى المجاورة، حيث عبرن عن معاناتهن وهمومهن التي يصعب عليهن البوح بها، باستخدامهن للغة النوشو، وقد وجدن فيها متنفساً للهروب من الواقع وصعوبات الحياة. 
وشكلن مجموعات تضم ثلاث أو أربع فتيات، كانت تعرف هذه الروابط بـ "الأخوات المُحلفات"، حيث كن يتعهدن بالحفاظ على الصداقة وتعزيز الروابط الودية مع بنات جنسهن بكتابة خطابات أو إنشاد أغانٍ بلغة النوشو التي تجمعهن.
استعملت هذه الكتابة في تحرير السير الذاتية والتي عُرفت بـ "سانز هاوشو" أي دفاتر اليوم الخامس وهي تهاني ومباركات كانت تُرسل للعروسين بعد حفل زفافهما بثلاثة أيام، بالإضافة إلى تدوين ونسخ أغاني شعبية فلكلورية تُحيي الثقافة والتراث الخاص بنساء المقاطعة، فضلاً عن القصائد المترجمة من الشعر الصيني والنوادر والألغاز الغنية بالمعلومات الفكرية والثقافية والتراثية، والبحوث العلمية التي شملت علم الآثار وعلم أصول الانسان وعلم الاشتقاق ومجالات اجتماعية وإنسانية أخرى. 
وبنقل الأبجدية عبر النساء المسنات حافظت نساء مقاطعة جيانغ يونغ على لغتهن الخاصة، وغالباً ما تكتب تعابيرهن ضمن قالب شعري مؤلف من سبع حروف وأحياناً من خمس حروف. لم يكن لكتابة النساء بلغة النوشو أي معايير محددة، بل كان كل نص مكتوب بالنوشو يحمل بصمة من كتبته، سواء من ناحية أسلوبها الخاص في التعبير عن شخصيتها، أم من ناحية انتقاء المفردات والتعابير والتي غالباً ما تختلف فيها عن غيرها.
 
كتابة البعوضة
تقرأ أبجدية النوشو من اليمين إلى اليسار، وتعد مزيجاً من اللهجات الأربعة في المجتمع الصيني وهن " يوى، هن مندرين، وو، مين"، وتخص النساء اللواتي ينتسبن من قوميات "هان وياو ومياو"، وتنتقل كتابة وتعليم حروفها من الأمهات إلى بناتهن، لتكون وسيلة تعليمية سرية وأداة وصل مع النساء المقربات والجارات والصديقات، وما كان على المتعلمة سوى نقل النص المكتوب كما تلاحظه محاولة رسم ما تشاهده. 
كتابة النوشو مشتقة من أبجدية الحروف الصينية الأصلية، وملائمة للهجة المحلية "شنغون توهوا". اعتمدت في شكلها على خطوط طولية نحيفة ومائلة نحو الجهة السفلى، أطلق عليها اسم "كتابة البعوض" بسبب مظهرها الخارجي الطويل والنحيل. 
تتألف من أربعة عناصر أساسية هي "النقطة والخطوط العمودية والمائلة والمقوسة"، كما يمثل المقطع الواحد صوتاً متعدد المعاني. كانت تكتب بواسطة عصي الخيزران الحادة والحبر المصنوع من بقايا أواني القلي المحروقة.
نظراً للشكل الجمالي التي تمتاز به رموز وأحرف النوشو فقد استخدمتها نساء إقليم هونان لكتابة كلمات معبرة عن الفرح والصداقة والمحبة في التطريز على علب المحارم وأغطية الرأس والمراوح والأحزمة القطنية.
 
وثائق ومخطوطات نادرة 
تعتبر الوثائق والمخطوطات الخاصة بأبجدية النوشو نادرة جداً، والسبب أنها كانت تدفن مع النساء المتوفيات، أو تحرق كالمعتاد بالشكل التقليدي، تبعاً لوصية النساء المسنات قبل وفاتهن حيث يكتبن سيرهن الذاتية وقبل وفاتهن يوصين بناتهن بدفنها معهن أو حرقها أمام الجنازة، حتى تبقى أسرارهن بمنأى عن الرجال ولا يشاهدها أحد. 
تعود الجذور الأولى لهذه الكتابة إلى عهد أسرة سونغ من عام 960 إلى عام 1279، وبعضهم يرى أنها ترجع لعهد أسرة شانغ الحاكمة قبل أكثر من 3000 عام. 
تتناقض الرواية التي تقول بأن النساء في تلك المقاطعة ابتكرن هذه اللغة مع بعض المصادر التاريخية التي تشير بأن هذه اللغة ظهرت على يد الإمبراطورة الصينية يونغ بينغ التي تزوجت في سنٍ مبكرة، وقد صاغتها كي تحكي لبنات جنسها عن المؤامرات والدسائس التي أحيكت ضدها حول العرش، وبدأت في تعليمها لبعض الوصيفات المقربات، لتكون لغة خاصة بنساء الإمبراطورية التي تناقلت إلى بناتهن.
حظر استخدام اللغة من قبل بعض الزعماء الشيوعيون بعد اندلاع ثورة ماو تسي تونغ الثقافية في خمسينيات القرن التاسع عشر على اعتبارها جزءاً من الماضي وهي مصدر خطر، وعوضاً عن تدريس لغة النوشو الخاصة بالنساء قامت السلطات بإلحاق الفتيات إلى مدارس التعليم الرسمية.
وجدت كتابة النوشو على قطعة نقدية من البرونز في نانكين عاصمة مقاطعة جيانغسو، تعود إلى عهد المملكة السماوية للسلام الأكبر من عام 1851 إلى 1864، مكتوبة بثمانية حروف معناها "كل النساء تحت السماء ينتمين إلى نفس العائلة".
 
آخر امرأة تتحدث النوشو
لم يكن أحد خارج مقاطعة جيانغ يونغ يعرف شيئاً عن الأبجدية حتى مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر، إلى أن تم الكشف عنها عبر رسالة واحدة من نساء المقاطعة التي كتبتها لصديقتها المقربة بلغة النوشو وفي طريقها لإرسال الرسالة استوقفتها القوى الأمنية التي لاحظت كتابة غريبة على المخطوطة الورقية. 
تمكنت الكاتبة "يي نيانهوا" القاطنة في قرية بواي من إجادة اللغة وترجمت أعمالها إلى اللغة الصينية الرسمية. 
تعتبر يانغ هوياني أخر امرأة تتحدث لغة النوشو، وقد توفيت في عام 2004 عن عمر ناهز الـ 98 عاماً، وكانت لا تجيد الكتابة والقراءة باللغة الصينية. قالت الباحثة الصينية ليمينغ زاو في كتابة النوشو "إن لغة النوشو منذ وفاة يانغ هوياني، دخلت مرحلة ما بعد كتابة النساء، إذ أصبحت تُدرس وتستخدم لأغراض التجارة والسياحة، وهذا بالطبع يعد نوعاً من جهود الحفاظ عليها"، كما أنها لا تزال وسيلة لتقدير قوتهن، وأداة ثقافية خلفت أعمالاً ناضجة بالحكمة والبداهة عبر الزمن.
 
إعادة إحياء اللغة النسوية 
مع بداية الثورة الثقافية الصينية، حرصت الحكومة الصينية على حفظ التراث والموروث الثقافي، فعملت على تمويل الجامعات والسماح لها بالحفاظ على تراث اللغات المنقرضة، فكانت النوشو أولى المشاريع التي نجحت فيها جامعة "تسينجهوا" في جمع مخطوطات عنها وترجمة أكثر من 95% من الوثائق الأصلية التي كتبت بلغة النساء، كما تم تعيين أخصائيين في النوشو للقيام بتحرير كتيبات سهلة يوضح فيها الإطار الذي ظهرت فيه هذه الثقافة والقيم التي تحملها والمعلومات الواجب اكتسابها، وكيفية الحفاظ عليها ونقلها.
وخوفاً على اللغة من الاندثار، تم تسجيل النوشو على قائمة السجل الوطني للتراث الوثائقي للصين عام 2002، وبعدها بعام نُظمت ورشات تعليمية لتكوين جيل جديد من النساء المتقنات للنوشو، كما أن الفتيات في مقاطعة جيانغ يونغ سعين لإعادة إحياء اللغة النسوية السرية التي غابت عنهن منذ قرون، والعمل على تخفيف الوحدة والعزلة التي فرضها عليهن المجتمع، محاولات تعليمها لبنات جنسهن ونشرها.
أقيم متحف باسم "متحف النوشو" على جزيرة بواي في أيار/مايو 2007، ويضم قاعات عرض وصفوف تعليمية، تزين جدرانه لوحات فنية ومعروضات ثقافية، كما تقام فيها كل صيف دروات تدريبية تعليمية خاصة بتاريخ لغة النوشو واستعراض أبجديتها، بالإضافة إلى إقامة مهرجان سنوي يتم فيه تقديم الأغاني وإلقاء الشعر بلغة النوشو.
قامت الكاتبة الأمريكية الصينية "ليزا سي" بتوثيق حياة النساء في مقاطعة جيانغ يانغ اللواتي أوجدن وأتقن لغة النوشو في رواية "زهرة الجليد والمروحة السرية". كما تم تأليف سيمفونية للنوشو تحت عنوان "أنشودة النساء السرية" مؤلفة من ثلاث عشرة مقطوعة، تم عرضها في قاعات أوركسترا الأمريكية وملكي هولندي وسيمفوني ياباني، ومن بعض عناوينها "فراق البنت لأمها، وقت عرسها، حياة امرأة حزينة مع زوجها طيلة نصف قرن، الحنين لأيام الطفولة، سرد امرأة باكية".
تعد أبجدية النساء السرية "النوشو" فريدة من نوعها، وقد سجلت رقماً قياسياً في موسوعة غينيس العالمية عام 2005، باعتبارها اللغة الوحيدة في العالم خاصة بالنساء.