ساكينة جانسيز... قصة نضال لن تنتهي

مر أحد عشر عاماً على ارتكاب مجزرة باريس الأولى على يد المخابرات التركية والتي راح ضحيتها ثلاث سياسيات كرديات هن ساكينة جانسيز وليلى شايلمز وفيدان دوغان، ولم يحرك المجتمع الدولي ساكن لمعاقبة الجاني.

مركز الأخبار ـ ساكينة جانسيز عرفت بشموخها وعدم خنوعها واستسلامها مهما كان قاسياً ما مرت به، رضيت بأن تكون قاموساً في الحرية والنضال تعود إليه المرأة في كردستان والعالم أجمع تستدل منه على الطريق الصحيح لتنال حقوقها ولتكون قادرة على الوقوف في وجه أعداءها الساعين لتهميش دورها واضطهادها. 

السير على طريق الحرية والنضال ليس حكراً على الرجال فقط، فمن قرأ قصة نضال السياسية ساكينة جانسيز سيكون على قدر كافي مع الدراية بأن المرأة كفؤ لتكتب مسيرة نضالية ثورية مميزة وتضحي بحياتها في سبيل أن يعيش غيرها بحرية وكرامة وتحطم حصون أعداء الديمقراطية بأبسط الأشياء التي فعلتها أو قالتها.

ساكينة جانسيز من مواليد عام 1957 من مدينة ديرسم الواقعة في شمال كردستان، تميزت بشخصيتها القوية، واكتسبت خصائص النضال والمقاومة والروح الثورية من مدينتها التي عاشت مرارة المجازر والإبادة والتطهير العرقي والإنكار والإقصاء على يد الدولة التركية الحديثة.

التناقضات تجاه الحقائق في وسطها الاجتماعي جعلتها أكثر إدراكاً على الرغم من صغر سنها، فبدأت مسيرتها بالبحث عن إجابات لهذا التناقض فأصبحت طفولتها عبارة عن مرحلة لتكوين وبناء الذات، أنهت المراحل الدراسية بتفوق وبلغت المرحلة الجامعية حتى وصلولها إلى هذه المرحلة بات لديها فكرة راسخة بأن الاشتراكية والديمقراطية هي الحل لتكون كل بقاع الأرض متساوية وخالية من التمييز.

 

أبرز محطات النضال

تعد ساكينة جانسيز "سارة" واحدة من الشخصيات القيادية التي تركت أثراً وحددت ملامح المستقبل الواعد مع احترام القيم المقدسة التي اكتسبتها من البيئة التي نشأت فيها ورفض العادات والتقاليد التي تجعل من المرأة كائناً خانعاً للقوانين الرجعية التي تحد من دورها سواء في التنمية أو النضال.

وعرفت بإيمانها القوي بالروح الثورية والنضالية خاصةً على صعيد حرية المرأة وأخوة الشعوب، لم يعرف اليأس طريقاً إلى قلبها وحاربت نقاط الضعف في نفسها ولم تسمح بأن يكتب في مسيرتها كلمة "مستحيل"، عندما سافرت إلى أنقرة تعرفت على القائد عبد الله أوجلان، وجذبها سلوكه وشخصيته المتواضعة بالإضافة إلى كلامه عن المرأة عندما قال "إذا انضمت من كل بيت امرأة الى النضال، فهذا يعني ولادة ثورة هناك، لو خرجت امرأة من ‏قرية وانضمت الى صفوف النضال فتصبح تلك القرية ثائرة".

ولم يكن حينها حزب العمال الكردستاني قد تأسس بل كان عبارة عن مجموعة فكرية، وعندما عقد المؤتمر التأسيسي لحزب العمال الكردستاني كان هناك 23 شخصاً بينهم امرأتين فقط وهما ساكينة جانسيز وكثيرة يلدريم.

 

 القضبان لم تضع حد لنضالها

خلال مسيرتها الثورية تعرضت للكثير من التهديدات والاعتقالات على يد الحكومة التركية، فنضالها وكفاحها وفق مبادئ الحياة الندية وفي سبيل استرجاع حقوق الشعب الكردي لم تلقى استحسان أعداء الديمقراطية، فقد حُرم في ذلك الوقت النطق ولو بكلمة واحدة أو حرف باللغة الكردية كل ذلك فقط لإبقاء الكرد تحت وطأة ظلم القوى السلطوية.

وانخرطت في صفوف حزب العمال الكردستاني وكانت عضو اللجنة المركزية واللجنة التأسيسية له، فكانت مسؤولة عن تسيير الأنشطة التنظيمية في مختلف مدن شمال كردستان إلى أن طالتها الاعتقالات التعسفية في انقلاب 12 أيلول/سبتمبر 1980، وتم الزج بها في سجن آمد سيء الصيت أكثر من عشر سنوات.

وجودها خلف القضبان لم يكن كافياً لجعلها تحيد عن طريق الحرية والمساواة الذي سلكته، فقد صمدت أمام شتى أنواع التعذيب والظلم الذي تعرضت له في سجن آمد بمقاومتها وصمودها أصبحت نموذج تحتذي به النساء، ورغم تجريمها بسبب عضويتها في حزب العمال الكردستاني، إلا أنها كانت في كل مرة تدافع عن نفسها سياسياً في المحكمة ورفضت أن تكون عضويتها في كيان يحث ويطالب بالحرية جريمة بل كانت ترفع من معنويات رفيقاتها المعتقلات معها للمتابعة في قضيتهن، فقمن بالعمليات المشتركة وبدأن الإضراب عن الطعام معاً، كما قادت حركة احتجاج اندلعت في سجن آمد في الثمانينيات لرفض السياسة المجحفة ضد المطالبين بحقوقهم  والسجناء السياسيين.

وعن انتهاكات السلطات التركية بحق المعتقلين خاصة الكرد قالت "كان أسعد أوكتاي يعرضنا جميعاً لشتى أنواع التعذيب، لكنني وقفت أمامه، وحدقت في عينيه اللئيمتين، وبصقت على وجهه القذر"، جرأتها التي تحلت بها لفتت أنظار العالم أجمع خاصة في ظل التعذيب السافر الذي تعرضت له والذي شكل سبباً قوياً لزيادة عزيمتها وإصراها.

ولم يقتصر نضالها في السجن مع الذين توافقت معهم على ذات النهج بل كانت قريبة أيضاً من باقي السجناء الذين اعتبرتهم مجتمعاً ذو تأثير حتى لو كانت القضبان تغيب دوره، قائلةً "بهذا المجتمع يجب كسب الجميع، وتعريفهم بحقيقة التنظيم، وبالتالي حقيقتهم".

وتمكنت مع رفاق دربها المعتقلين في سجن آمد من إصدار مجلة تتناول تاريخ كردستان والتعريف بحركة PKK، استطاعت هذه المجلة أن تتبوأ مكانة مميزة لها بين المجلات التركية، إلا أنه في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1988، اكتشف أمر مجلتها فتم معاقبتها مع 130 شخصاً وتم نفيهم إلى سجن أماسيا في آمد.

بعد عشر سنوات من الاعتقال أفرج عنها عام 1991 لتتوجه بعدها إلى أوروبا والإشراف على تنظيم الأنشطة النسائية هناك، لكن الانتربول الدولي كان قد وضعها على اللائحة الحمراء، فاعتقلت في آذار/مارس عام 2007 في فرنسا بموجب مذكرة توقيف دولية صادرة عن أنقرة، لتبقى قرابة شهر ونصف في سجن دامتور ثم أطلق سراحها بعد ذلك.

وثقت ساكينة جانسيز مسيرتها النضالية في كتاب مؤلف من ثلاثة مجلدات حمل اسم "حياتي كلها صراع"، أنهت تدوينه في أواخر تسعينيات القرن الماضي، روت فيه ما تعرضت له من انتهاكات في السجون التركية أثناء فترة اعتقالها إلى جانب محطات أخرى من حياتها، ومن خلال يومياتها قدمت صوراً حية للسجناء السياسيين.

يعد كتاب "حياتي كلها صراع" الذي كتب باللغة التركية وترجم إلى اللغة الكردية، الصادر عن دار "بلوتو برس" أول مذكرات سجن تصدرها امرأة كردية تنشر باللغة الإنكليزية، وقد وصفتها الصحافة بأنها "وثيقة غير عادية لحياة غير عادية"، وقد نشرت نسخ الكتاب في أرجاء كردستان ودول أخرى وفي عام 2016 تم إعداد فلم وثائقي عنها.

 

المرأة والقضية الكردية 

رفضت ساكينة جانسيز الممارسات القمعية التي تقوم بها الأنظمة الرأسمالية والمستبدة، وأثبتت للعالم أجمع أن المرأة الكردية تملك باع طويل في النضال والسعي لإحلال السلام وإعلاء صوت الحرية، ووجهت إرادتها القوية نحو هدفين أساسيين هما تحرير المرأة وبناء كردستان حرة، ووصلت لشريحة واسعة من النساء عرفتهن بعالم السياسة وأحيت فيهن روح التقصي والبحث عن الحقيقة الجوهرية لحياة الإنسان والغاية منها.

ومنذ انخراطها في الحركة التحررية الكردية بدأت بالتمرد على الواقع المرير من أجل الدفاع عن قناعاتها الفكرية، ونشرها والتعريف بها وتوعية الفتيات وطنياً وقومياً، فأقسمت على أن تكون صوت الحرية للمرأة التي يراد استعبادها وشقت الطريق أمامها لخلق الفرص المواتية لها، قد يكون ذلك أحد الأسباب التي جعلت منها قيادية بامتياز.

دعيت في عام 2011 لحضور المؤتمر الثالث لاتحاد نساء شرق كردستان(YJRK) ‎، وعقدت معها مجلة "زيلان" لقاء صحفي حول مخرجات المؤتمر وأهمية النضال بالنسبة لنساء شرق كردستان وكذلك سياسات النظام الإيراني تجاه المرأة، حيث قالت "النظام في شرق كردستان، حول الدين إلى سياسة، والوطنية إلى دولة، وفي مواجهة ذاك النظام الذي نهب حرية المرأة، فإن انضمامها الى صفوف النضال سيكون أعظم رد، يمكننا القول إنه في جميع أنحاء كردستان بشكل عام تتشابه المشاكل التي تعيشها المرأة الكردية وحالة المرأة... أن المرأة الكردية والمجتمع الكردستاني كانا متشابهين، في كردستان لم يكن هناك لا فكر أو تنظيم أو بحث أو نضال للمرأة، قبلت المرأة الكردية هذه الحياة على أنها قدرها لذلك كان من المهم للغاية في مثل هذا الوقت البدء بنضال الحرية وتأسيس حزب العمال الكردستاني".

لعبت دوراً بارزاً في التأسيس للبعد الأممي والعالمي في تواصل الحركة الكردية المعاصرة مع المثقفين والمناضلين والثوار من القوميات والإثنيات الأخرى في مختلف أصقاع العالم، ولها دور محوري في كل محطة أو جانب أو بعد منه "حقيقةً إخراج المرأة من الظلم والقمع مهم جداً" هذا ما أكدت عليه.

 

 الاغتيال غيب أيقونة النضال الكردية

التاسع من كانون الثاني/يناير عام 2013، يومٌ أسود لم ولن ينسى هو اليوم الذي تعرضت فيه أبرز أيقونات النضال النسوي السياسية ساكينة جانسيز وممثلة المؤتمر الوطني الكردستاني KNK فيدان دوغان والناشطة في مجال العلاقات الدبلوماسية وممثلة حركة الشبيبة الكردية في أوروبا ليلى شايلمز، لعملية اغتيال بالرصاص بالقرب من المعهد الكردي في العاصمة الفرنسية باريس على يد الاستخبارات التركية.

في ذلك اليوم انتهت حياة امرأة عاشت حياة استثنائية غمستها بالنضال والمقاومة، ترك استشهادها أثراً كبيراً في نفوس الآلاف بعد مسيرة نضالية استمرت لعقود، إذ كشف استشهادها مدى تأثر النساء بها لدرجة أن المؤتمر النسائي الأول في الشرق الأوسط والذي عقد في مدينة آمد بعد حادثة الاغتيال ببضعة أشهر، قد خرج بتوصيات من أهمها اعتبار 9 كانون الثاني/يناير يوماً عالمياً لمناهضة الجنايات السياسية.

جريمة الاغتيال قام بها "عمر كوناي" بأمر من الاستخبارات التركية التي قامت باعتقاله بعد الحادثة بأيام قليلة ليتم قتله وإغلاق ملف القضية وإخفاء الأدلة وطمس الحقيقية، لكن بعد قيام الوحدات الخاصة التابعة لـ "قوات الدفاع الشعبي HPG" في آب/أغسطس عام 2017 باعتقال أرهان بكجتين وآدين جونل من مدراء "منظمة الاستخبارات التركية" المعروفة باسم الـ MIT، أقرا بأمور سلطت الأضواء على الكثير من الأحداث، ومن بينها حادثة اغتيال المناضلات الثلاث في باريس.

ليتبين فيما بعد أن "عمر كوناي" عضو فاعل في "المِيت" التركي، وأنه كلف بقتل ساكينة جانسيز بتعليمات مباشرة من أردوغان، وبتخطيط وإشراف مباشر من حقان فيدان رئيس المِيت التركي، وأن القاتل شارك في نشاطات "الجمعية الكردية" في فرنسا للتمويه عن نفسه وتسهيل مهمته.

وري جثمان ساكينة جانسيز الثرى في مسقط رأسها ديرسم وسط مراسيم مهيبة حضرها عشرات الآلاف من أبناء وبنات الشعب الكردي ومن أصدقائهم من مختلف الشعوب في تركيا والعالم، وحملت النساء اللواتي طالما ناضلت من أجلهن التابوت على أكتافهن.