ناكيهان أكارسال... كرست فكرها ونضالها للبحث عن حقيقة المرأة
نسجت لنضال مشترك وموحد للنساء في أجزاء كردستان الأربعة، وساهمت في تنظيمه من أجل حرية نساء العالم أجمع وذلك من خلال كتاباتها ونشاطاتها.
مركز الأخبار ـ "إذا كانت المرأة ذات فكر وعقل حر، يمكنها بهويتها الأنثوية أن تتخذ قرارات لصالح المجتمع والمستقبل"، هذا ما قالته ناكيهان أكارسال الصحفية والكاتبة والباحثة والناشطة الثورية التي ناضلت من أجل المرأة وحقوقها وحريتها.
دائماً ما كانت ناكيهان أكارسال الناشطة التي ناضلت من أجل حقوق المرأة، مبتسمة وسعت جاهدة ألا تختفي تلك الابتسامة عن محياها، أما اللمعة التي كانت تظهر في عينيها فلها قصة أخرى، فقد كانت تعكس ما في قلبها من حب وشغف وإصرار على المضي قدماً.
ولدت زيلان ناكيهان أكارسال عام 1976 في قرية زيليكان بالقرب من بلدة جوليازي في قونيا بشمال كردستان، عُرفت منذ صغرها بذكائها الحاد، وهو ما لفت الانتباه إليها، فالتحقت بالمدرسة الابتدائية وهي في الخامسة من عمرها، متفوقة بذلك على الأطفال في عمرها.
كانت تتابع قصص نساء قريتها بتلهف كبير، وكأنها تسعى لمعرفة ما يخبوه تاريخهن، لتقوم بنشرها في الصحيفة التي كانت تصدرها المدرسة التي كانت تتلقى تعليمها فيها. تلك القصص كانت تتضمن معاناة نساء تحملن أعباء الأسرة والحياة بعد أن هاجر أزواجهن، رأت في قصص هؤلاء النساء ومن بينهن والدتها عذوبة الآلهة المتمردة والمقاومة والمستقلة.
الصحافة... حبها وشغفها للبحث والتقصي
من كان ينظر إليها كان يشعر كم أنها غامضة ومليئة بالأسرار التي لو خرجت للعيان، لكشفت عن الكثير من الخبايا، فمنذ طفولتها كانت تحب التحقيق والبحث والتقصي، فما كانت تقوله يوحي بما ترغب به وتبحث عنه للنهوض بقضايا النساء وشعبها، لما كانت تتمتع به من فكر نير، حتى أن رغبتها تلك دفعتها للالتحاق بقسم الصحافة في جامعة غازي بمدينة أنقرة، وهي في عمر السادسة عشر عاماً، حصلت آنذاك على درجات عالية، وذلك بعد تجاوزها لمرحلة التعليم الثانوي في قريتها زيليكان.
ارتباطها بقريتها وقضية شعبها الكردي وثقافتها، ساهم في تطوير شخصية ناكيهان أكارسال التي كبرت بين سنابل القمح، لذا عندما ذهبت إلى الجامعة شعرت ببرودة حياة المدينة، ماديتها وفرديتها التي تبعد الناس عن هويتهم الأصلية، فتوجهت إلى الأماكن التي تعزز تمسكها بجذورها، حيث الحياة المشتركة والصداقة، فهي لم تكن قد غادرت قريتها سوى عندما أمسكت يدي والدها وذهبت لتستكمل تسجيلها في الجامعة.
لم تكتفي ناكيهان أكارسال بدراسة الصحافة للعمل في هذا المجال فحسب، فهي كما تقول "الصحافة مجرد شاهد، أريد أن أكون صلة وصل بين العلم والفلسفة والأدب والحياة"، لذا اتجهت حياتها في التسعينيات إلى منحى آخر، ليبدأ نضالها الثوري، فانضمت إلى اتحاد الشباب الكردستاني (YCK)، وهي لا تزال تدرس في الجامعة.
وبعد التعمق في شخصيتها وتعرفها على تاريخ نضال شعبها وتعلقها بأرضها كردستان، والبحث عن الحقيقة والحب والحرية في فكر وفلسفة القائد عبد الله أوجلان أدركت حقيقته وما الذي يسعى إليه، لتصبح تلك الفلسفة المصدر الرئيسي للقوة والإلهام بالنسبة لناكيهان أكارسال التي رفضت قواعد الذهنية الذكورية، وتوجهت إلى العاصمة السورية دمشق حيث كان يقيم القائد أوجلان، إلا أن إقامتها هناك لم تدم سوى أربعة أيام، بسبب المؤامرة الدولية التي بدأت في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر عام 1998، ضد القائد أوجلان، قائلة أن الأيام الأربعة تلك كانت بالنسبة لها "الولادة للحياة".
الاعتقال والسجن لم يثنياها عن مواصلة النضال
بعد اعتقال القائد عبد الله أوجلان بسنتين وبالتحديد في عام 2001، ألقي القبض على ناكيهان أكارسال من قبل السلطات التركية، وقضت 6 سنوات في معتقل أولوكانلار وأماسيا كسجينة سياسية، وبالرغم من ذلك لم يتراجع حماسها الثوري، حتى أنها كانت تكتب من السجن، مقالات للصحف عن كنيسة أوزغور جونديم، وعندما تم الإفراج عنها تابعت دراستها في قسم الصحافة من حيث توقفت، وعملت كمراسلة ومحررة في وكالة دجلة للأنباء (DIHA) ما بين عامي (2008 ـ 2014).
إحياء تاريخ المرأة المخفي
لم تتوقف ناكيهان أكارسال عن البحث والتحقق أبداً، وشعرت بالمسؤولية تجاه النساء، فسعت في عام 2015، لتطوير أفكار ومشاريع جديدة خاصةً تلك المتعلقة بعلم الجنولوجيا "علم المرأة" وتعريفه كمفهوم وإحيائه كنظرية ومنهج، وبنائه واستدامته كمؤسسة جديدة، وبفضل عملها تم الاعتراف بعلم الجنولوجيا على أنه علم المرأة والحياة من قبل النساء والمجتمع والعالم، علم يسعى لحل مشاكل المرأة وإعادة بناء علاقتها مع الطبيعة، واكتشاف تاريخها ومعرفة ذاتها على أسس الحياة الندية المشتركة التي تساهم في بناء مجتمع ديمقراطي يحقق المساواة بين الجنسين.
وتولت مسؤولياتها في مجال الإعلام، فطورت الصحافة النسائية الكردية، حيث كانت من مؤسسات أول وكالة أنباء "JINHA" الخاصة بالنساء، عملت بجد وعزم على خلق أسلوب جديد لبناء إعلام خاص بالمرأة من خلال دراساتها حول لغة المرأة وواقعها، وتواصلت مع النساء من جميع مجالات الحياة حتى تتمكن من التعبير عن أصواتهن وألوانهن، وبهذه الطريقة، قامت ببناء واستدامة شبكات تضامن وصداقة المرأة، كيلا يقتصر نضالها على السعي للحصول على حقوق وحرية شعبها الكردي.
نتيجة للأنشطة التعليمية والبحث الاجتماعي أعادت العديد من النساء اكتشاف حقيقتهن واكتسبن ثقة جديدة بأنفسهن، فقد ساهمت في إنشاء مجلة جنولوجيا عام 2016 في شمال كردستان، وكانت عضوة في هيئة تحريرها لتغدو المجلة منصة حقيقية لمناقشة قضية حرية المرأة، حيث كانت واحدة من الأشخاص الذين بنوا الأسس النظرية والعملية في علم جنولوجيا.
وعملت بشجاعة وتصميم كبيرين خلال أصعب سنوات ثورة روج آفا، بعد أن توجهت إلى هناك عام 2016، لتبدأ بالبحث في آثار ثقافة العصر الحجري الحديث تحت التلال الصغيرة وتوثق كل البيانات التي حصلت عليها؛ والتثقيف حول الجذور التاريخية لثورة المرأة، وخاصة في عفرين عام 2017، حيث سعت لإضفاء لون وطابع المرأة على الثورة، وذهبت إلى شنكال عام 2018، لتلامس أرواح وقلوب نسائها اللواتي تعرضن لانتهاكات وحشية وإبادة جماعية من قبل مرتزقة داعش، حتى أنها أجرت بحثاً ميدانياً في تلك المناطق لتعريف المجتمع بتاريخهن، بحثت هناك في عقيدة الإيزيديين، ووجدت أن جذور عقيدة المرأة تعود إلى ميراث الألوهية.
توجهت ناكيهان أكارسال فيما بعد إلى إقليم كردستان، وإلى جانب أنشطتها التعليمية وأبحاثها حول ثقافة ومقاومة المرأة في إقليم كردستان وشرق كردستان، أدارت أنشطة أكاديمية الجنولوجيا منذ عام 2019، وخاصة في مدينة السليمانية، وعلى الرغم من أنها كانت قد تعلمت اللهجة الكردية السورانية للتو، إلا أنها قدمت العشرات من الدورات التدريبية والجلسات الحوارية والندوات حول علم المرأة والحياة، كم أنها نظمت معسكرات للشبيبة.
لقد بذلت جهداً كبيراً للجمع بين القيم والثقافة الشفهية والدراسات الخاصة بالمرأة الكردية، وتنظيم ما يمكن أن يؤدي إلى قيادة فكر المرأة، وفي لقاء سابق لها مع وكالتنا في آذار/مارس 2022، أكدت على أن "قوة الاعتماد على الذات وتقرير المصير وصنع القرار وسيلة لوصول المرأة إلى حقيقتها وجوهرها، والحرية هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى الجمال والواقع وحق تقرير المصير"، وشددت على أنه إذا قامت امرأة بالتعلم، ستتمكن من إدارة نفسها وقيادة المجتمع وحل المشكلات الاجتماعية.
لقد عملت بقوة وإرادة وإصرار كبير لسنوات مع نساء إقليم كردستان اللواتي عانين من أشد سياسات الدولة القومية، لافتتاح مكتبة أعمال المرأة الكردية ومركز للأبحاث وأرشيف للنساء في مدينة السليمانية، إلا أنها لم تستطع الوصول بحلمها إلى نهايته، حيث تم استهدافها من قبل المخابرات التركية في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2022، لتستمر النساء العاملات معها على خطاها وتعملن على افتتاح مكتبة ومركز أبحاث وأرشيف المرأة الكردية بعد مضي عشرين يوماً على مقتلها، وقد حصل هذا المركز التذكاري على أهمية كبيرة لعمله على حماية طابع وإنجازات المرأة.
جسدت في قصائدها ماضي المرأة وتاريخها
كانت ناكيهان أكارسال مصدر إلهام بقصائدها وقصصها حول ماضي المرأة وتاريخها، وبمذكراتها التي لم تخلو من اسم قضية الحرية، حيث كانت تعمل بجهد لتصبح القضية عالمية. لقد كانت تكتب معظم قصائدها وكتاباتها تحت اسم "نيسان"، لشدة حبها لأمطار الربيع خاصةً تلك التي تهطل في شهر نيسان.
اتخذت خطوات عملية لإتقان الأدب، وسعت لدمج الجنولوجيا مع الفن، حيث جعلت الفن والشعر لغة الحياة والعلم، أبدعت في نسج الحاضر والمستقبل بوعي، وقد ركزت في مقالها الأخير الذي لم تستطع نشره، وبقي على جهاز الحاسوب الخاص بها، ويتناول موضوع الانتفاضة الشعبية في شرق كردستان وإيران التي انطلقت تحت شعار Jin jiyan azadî""، على الأهمية الاستراتيجية لـ "فهم الحياة في طريق التحول إلى علم حياة"، وروح مقاومة المرأة التي تجمع التاريخ والحاضر معاً وتصبح المنظور الأساسي للجنولوجيا، وأشارت إلى أنها شعرت أن الشعار "Jin, Jiyan, Azadî" الذي تردد صداه في شرق كردستان ومنه إلى العالم أجمع، سيصبح شعار الثورة من الحاضر إلى المستقبل قائلة "ثقافة المرأة التي انطلقت في زاغروس، ونموذج القيادة الذي ينتمي إلى هذا العصر، يتأكد صحته واحداً تلو الآخر".
استشهادها
لم تقتصر سياسات تركيا المعادية للمرأة على استهداف ثورة المرأة وانجازاتهن، بل واصل سياساته العنصرية والعرقية في المجتمع من خلال تطوير سياسات الحرب الخاصة، لقد تعرضت النساء الكرديات لا سيما اللواتي قاومن تلك السياسات، للاعتقال والاحتجاز والعقوبات الشديدة، إن عداء حزب العدالة والتنمية AKP تجاه النساء اللواتي حصدن من خلال نضالهن الطويل مكاسب عديدة، عبرت الحدود في الآونة الأخيرة، فقد كُثفت الهجمات من قبل الدول القومية على المستوى العالمي على هذه المكاسب، ففي السنوات الأخيرة سعوا للقضاء على هذه المكاسب واحدة تلو الأخرى من خلال القوانين.
ولترهيب النساء والناشطات اللواتي تولين زمام المطالبة بحقوقهن، تم استهداف ناكيهان أكارسال في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2022، حيث تعرضت لهجوم مسلح أمام منزلها في حي بختيار بمدينة السليمانية في إقليم كردستان، من قبل رجل يدعى "إسماعيل بكر" من مدينة أنقرة التركية. لقد أرادت القوى الفاشية التي تخشى انتشار علم الثورة النسائية كركيزة لتأسيس نظام ديمقراطي للإدارة الذاتية في المجتمع، القضاء على اللواتي عملن من أجل قضية المرأة.
وفور تعرضها للهجوم نقل جثمانها إلى الطب الشرعي في مدينة السليمانية بإقليم كردستان، وباشرت القوات الأمنية التحقيق في مكان الحادث، إلا أنه حتى الآن لم يتم اتخاذ أي إجراء قانوني لملاحقة الجاني، ولم تبذل سلطات إقليم كردستان والحكومة العراقية أي جهد لمحاكمته، وقد لاقى نبأ استشهادها تنديداً واستنكاراً عالمياً من قبل الناشطات والنسويات حول العالم، اللواتي رفضن استهداف المناضلات والقياديات، داعيات إلى محاسبة مرتكبي جريمة القتل في أسرع وقت.
وفي مواجهة سياسة الإفلات من العقاب هذه، قام أكثر من 300 أكاديمي/ة وكاتب/ة وسياسي/ة وفنان/ة من جميع أنحاء العالم بالتوقيع على رسالة مفتوحة، ودعوا المؤسسات الدولية إلى الحد من الهجمات التركية على النساء القياديات، وقد تم تقديم الرسالة إلى الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي والحكومة المركزية في العراق.
ووجهت مبادرة العدالة في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد ناكيهان أكارسال، رسالة مفتوحة تحمل تواقيع 312 امرأة ومنظمة من 51 دولة حول العالم، إلى الأمم المتحدة والحكومة العراقية، طالبت بالتحرك العاجل لكشف ومعاقبة مرتكبي المجازر التي تتعرض لها المرأة، كما أطلقت أمس الأربعاء 4 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عبر موقع التواصل الاجتماعي إكس، حملة تحت وسم "العدالة من أجل ناكيهان أكارسال".