لودميلا بافيلتشينكو... 'ألا يبدو لكم أنكم ولمدة طويلة اختبأتم خلف ظهري'
قناصة سوفييتية تجاهلت الورقة التي قدمت لها لتقرأها، وقالت "أيها السادة، أنا في عمر الـ 25 عاماً، قد قضيت على 309 جندي نازي ألماني، ألا يبدو لكم أنكم ولمدة طويلة اختبأتم خلف ظهري"، حازت لودميلا بافيلتشينكو على وسام النجمة الذهبية "بطل الاتحاد السوفيتي" ولقبت بـ "سيدة الموت"، كما أنها عرفت بالمرأة الحديدية التي هلعت الألمان
مركز الأخبارـ .
قرار الانضمام لنادي القنص
ولدت القناصة السوفيتية لودميلا بافيلتشينكو في مدينة بيلايا تسيركوف الأوكرانية يوم 12 تموز/يوليو عام 1916، لأب عسكري يدعى ميخائلوفنا بافيلتشينكو، وأم متعلمة تتقن اللغة الإنجليزية، أما لودميلا بافيلتشينكو نفسها كانت طالبة مجتهدة في كافة مراحل تعليمها وعند بلوغها سن الـ 14 عاماً، انتقلت مع عائلتها إلى العاصمة الأوكرانية كييف، لتتابع دراستها هناك وتحصل على الدبلوم في العلوم التاريخية من جامعة تاراس شفتشينكو الوطنية، وتوجهت إلى الدراسة العملية في متحف أوديسا حيث سجلت أطروحتها حول إنجازات القائد القوازاقي بوهدان خملنيتسكي، لكنها لم تستطع إكمال الأطروحة بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية التي امتدت بين عامي 1939 ـ 1945، واجتياح جيوش هتلر النازية الحدود الغربية للاتحاد السوفييتي، فقررت الانضمام إلى نادي لتعلم فنون القنص والرماية.
امتازت بقدرة مميزة وأبدت تفوقها على جميع القناصين في إحدى حقول الرماية، حيث لفتت انتباه أحد الحكام خلال المسابقات التي أقامتها الجامعة أثناء فترة دراستها.
ذاع صيتها أثناء الحرب العالمية الثانية
ذاع صيت لودميلا بافيلتشينكو أثناء الحرب العالمية الثانية عندما انضمت إلى صفوف الجيش الأحمر في 22 حزيران/يونيو عام 1941 وهي في سن الـ 24 عاماً، عندما قرر أدولف هتلر تنفيذ خطة بربروسا لغزو الحدود الغربية للاتحاد السوفييتي، حيث التحقت بدورة تدريبية قاسية ومكثفة مدتها 6 أشهر خصصت للرماة المحترفين في معهد عسكري.
كانت هادئة الأعصاب أثناء فترة تدريبها وقد لفتت الانتباه إلى مهاراتها وقدرتها، كما أنها تحايلت على المعهد الذي لم يرغب بالتحاق الفتيات المتطوعات بالحرب، وقالت في كتابها "سيدة الموت: مذكرات قناص ستالين" الذي نشر عام 1958 "لم يقبلوا بالفتيات المتطوعات في البداية، وقد اضطررت للتحايل بشتى الطرق كي أغدو جندية".
كما أنها لم تلق قبولاً على الجبهة في البداية، لعدم تقبل رفاقها القناصين وجود فتيات في أحد أخطر فرق الجيش السوفييتي فرقة الطوارئ الـ 25، لكن ببراعتها ومهارتها نالت الترحيب والامتنان لوجودها الذي أفاد الجيش على جبهات ملدوفيا وفي الدفاع عن مدينة أوديسا.
أوقعت لودميلا بافيلتشينكو بـ 309 جندي من الجيش النازي من بينهم 36 قناصاً، خلال الفترة الممتدة من حزيران/يونيو عام 1941 وحتى تموز/يوليو عام 1942، أثناء تقدم الألمان نحو مدينة أوديسا شرق أوكرانيا، ونظراً للهجوم الألماني الفعال نجحوا في الاستيلاء على أوديسا، فتم إرسال وحدتها القتالية إلى ميناء سيفاستوبل بشبة جزيرة القرم، وفي أيار/مايو عام 1942، تم تكريمها من قبل الجيش الأحمر الجنوبي لدورها الكبير في القضاء على الجند الألمان.
كانت تخرج من قطعتها العسكرية كل ليلة قبيل الفجر نحو الجبهة، لم تكترث أبداً لأحوال الطقس، بل كانت تنتظر اللحظة الملائمة ليغدو الطرف المعادي في مرمى نيرانها، كما أنها درست طبيعة تحركاتهم وتخطيطاتهم الهجومية العسكرية.
أثار اسمها مخاوف القادة الألمان
أثارت القناصة السوفيتية لودميلا بافيلتشينكو مخاوف القادة الألمان ومنهم الفيرماخت الألماني وهو اسم القوات المسلحة الموحدة لألمانيا من عام 1953 حتى عام 1945، حيث كانوا يتداولون أساطير عن حذاقتها ودهائها، التي ترى وتسمع همسهم عن بعد نصف كيلومتر، لذلك قاموا بترصدها لقتلها، حيث قصفوا موقع تواجدها بقذائف الهاون، تأثرت بجروح بالغة في وجهها، وتم سحبها من معركة سيفاستوبل في حزيران/يونيو 1942، لتلقي العلاج.
لم تكن مسيرتها الحربية وبطولاتها لتتوقف لولا جروحها البالغة الخطورة، حيث أرسلت مع الوفد السوفييتي الرسمي إلى كندا والولايات المتحدة الأمريكية، لإقناع الحلفاء بتسريع عملية فتح جبهة ثانية وردع قوات هتلر الألمانية في أوروبا.
تعرضت لودميلا بافيلتشينكو للتهديدات من الألمان أكثر من مرة، لكنها كانت تشعر بالسعادة لقوتها وجبروتها، حيث توعدت بتمزيق كيان ألمانيا إلى 309 قطعة، وهو عدد الضحايا الذين قتلوا على يدها وأكتفت بهذا العدد حتى أنهم عرفوا الحصيلة من القتلى.
الذي رفع من عزمها وثباتها هو رؤيتها للوحشية والبطش الذي ارتكبه النازي في قتل الملايين من النساء والأطفال، حيث قالت "منذ تلك اللحظة التي اخترق فيها الفاشيست حدود بلادي، تغزوني في كل لحظة أحياها فكرة واحدة، وهي دحر العدو، فبقتل النازيين أنا أنقذ الحياة".
سيدة الموت
تعرف الشعب الأمريكي على قصة لودميلا بافيلتشينكو وبطولتها في القنص قبل زيارتها للولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن الـ 20 فأطلقت عليها الصحافة الأمريكية لقب "سيدة الموت"، كما دعتها السيدة الأولى للولايات المتحدة إلينور روزفلت لحضورها المؤتمرات والندوات التي أجريت حينها، وطلبت منها إلقاء عدة خطابات، وقد جمعتهما علاقة صداقة متينة لوجود قواسم مشتركة بينهما فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل.
وفي مؤتمر صحفي بولاية شيكاغو وجهت لها عدة أسئلة حول ملازمتها للقنص وترصد الجنود الألمان، كما أن المندوب السوفييتي أعطاها ورقة مكتوب عليها ما يجب أن تقوله خلال اللقاء الصحفي عن بطولات الاتحاد السوفييتي وجوزيف ستالين، إضافة إلى طلب السوفيات من الحلفاء فتح جبهة ثانية، لكنها تجاهلت كل ذلك وقالت بلغة إنجليزية سليمة "أيها السادة، أنا في عمر الـ 25 عاماً، قد قضيت على 309 جندي نازي ألماني، ألا يبدو لكم أنكم ولمدة طويلة اختبأتم خلف ظهري".
تركت لودميلا بافيلتشينكو انطباعات حادة لدى الرأي العام الأمريكي أثناء حضورها المؤتمر، مما دفع مغني البوب الأمريكي وودي غوذري إلى تأليف أغنية ملحمية بعنوان "الأنسة بافيلتشينكو" تمجيداً لبطولاتها وإعجاباً لمهاراتها.
الترحيب والتكريم
حازت على وسام النجمة الذهبية "بطل الاتحاد السوفييتي" في 25 تشرين الأول/أكتوبر عام 1943، وتم إهداؤها بندقية وينشستر من كندا، وبعد أن حصلت على رتبة رائد في القنص، اكتفت بتدريب القناصين السوفييت حتى نهاية الحرب، وتكريماً لها تم وضع صورتها على إحدى طوابع البريد.
وبعد نهاية الحرب أكملت دراستها الجامعية في كييف، وشغلت منصب مساعد القائد في البحرية الروسية من عام 1945 حتى عام 1953
توفيت لودميلا بافيلتشينكو في الـ 10 من تشرين الأول/أكتوبر عام 1974عن عمر ناهز الـ 58 عاماً، ودفنت في مقبرة نوفوديفتشي الواقعة في مدينة موسكو الروسية، وقد تم إصدار طابع بريد آخر تكريماً لها عام 1976، وأطلق اسمها على سفينة شحن أوكرانية تخليداً لها.
ألهمت مسيرة حياتها المليئة بالمغامرات والتنقل العديد من الكتاب وصناع الأفلام، ففي عام 2015 استعان المخرج الروسي سيرجي موركيتسكي بالكتاب الذي كتبته بنفسها لإخراج فيلم مدته 120 دقيقة يحكي قصة بطولتها تحت اسم "الكفاح من أجل معركة سيفاستوبل".