بلقيس ملكة سبأ... مجداً لا تطمس معالمه
سطّر التاريخ وبحروف من ذهب حياة ملكة جليلة، امتازت برجاحة العقل والفطنة، ملكت في اليمن ملكاً واسعاً، ونهضت بأعباء مملكتها خير نهوض
مركز الأخبار ـ ، وتركت خلفها مجداً لا تطمس معالمه على مدى الدهر، لاتزال آثارها تنطق بعظمتها وسناء منزلتها، أنها الملكة "بلقيس" مصدر فخر اليمنيين والإثيوبيين التي غدت شخصية حية لكتب القصص والروايات.
فالملكة التي تحمل هذه الصفات هي ابنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن غالب بن السياب بن سبأ، أو ذي الشرح من بني يعفر، ويقول بعضهم أنها ابنه إيلي شرح، بينما أشار آخرون إلى أنها ابنة ذي شرح بن ذي جدن بن إيلي شرح بن الحارث بن قيس بن صفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب.
اختلفت المصادر والمراجع التاريخية في تحديد اسمها ونسبها وسلالتها، لكنها ورثت المُلك عن أبيها الملك، واستلمت زمام المملكة، لأنه لم يُرزق بأبناء ذكور يوليهم العرش.
استنكر قومها فكرة أن تستلم امرأة حكم المملكة، وقابلوه بالرفض والازدراء، وقد وصلت أصداء هذا النفور من قبل قومها إلى خارج حدود المملكة، الأمر الذي أثار جشع وطمع الطامعين في الاستيلاء على المملكة، من بينهم الملك ذي الإذعار "عمرو بن أبرهة"، وعندما علمت الملكة ما يخفيه لها ذي الإذعار الذي أثار فتنة في مملكتها، غادرت المملكة متنكرة بزي رجل لتتمكن من الرحيل دون أن يتبعها أحد، ودخلت عليه ذات يوم، وظلت تسقيه حتى أسكرته، وهو يتناول النبيذ منها معتقداً أنها تغازله، وهكذا نالت منه بفطنتها ودهائها، واستعادت شعبيتها ومملكتها المسلوبة.
وقد ذكر عبد الملك بن هشام في روايته "كتاب التيجان"، إنه عندما حضرت بلقيس مراسيم وفاة ذي الإذعار، رأت بأن والدها قد جمع وجهاء مملكته وأهل المشورة ليعلن بلقيس خلفة له على عرش المملكة قائلاً "إني رأيت الرجال، وعجمت أهل الفضل، وشهدت من أدركت من ملوكها فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً".
وعرفت بلقيس في الحضارة الأثيوبية باسم "ماكيدا"، وفي الحضارة الرومانية باسم "نيكولا"، وقد ذكرها القرآن باسم "امرأة" على لسان الهدهد في سورة النمل الآية 23.
بلقيس واحدة من ملكات التاريخ
اتصفت بلقيس بشخصية متزنة وقوية وحكيمة، كانت راجحة العقل، وساهمت في تدبير شؤون مملكتها وتطورها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما خلد التاريخ اسم بلقيس كواحدة من ملكات التاريخ.
كانت بلقيس ملكة على سبأ من أهل اليمن في زمن نبوة سليمان، وقد ذكر القرآن الكريم قصتها مع نبي الله سليمان الذي يرجح أنه عاش في القرن العاشر قبل الميلاد، والتي تسلسلت الأحداث بتفقد سليمان للجيش، فلم يرَ الهدهد في مكانه، فغضب وقرر معاقبته بالتعذيب أو القتل أو أن يقدم عذراً يقنعه بغيابه طويلاً، وبعد فترة من الزمن جاء الهدهد يحمل لسليمان نبأ القوم الكافرين العابدين للشمس وللأجرام السماوية على وجه الخصوص، وكانوا يتقربون إليها بالقرابين، ويسجدون لها من دون الله، وهم قوم سبأ والملكة بلقيس التي تحكمهم.
وهذا ما لفت انتباه الهدهد الذي كان قد بعثه سليمان ليبحث عن موردٍ للماء، وبعد الوعيد الذي كان قد توعده سليمان إياه لتأخره عليه بأن يعذبه إن لم يأت بعذرٍ مقبول، عاد الهدهد وعذره معه "أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين" فقد وجد الهدهد أن أهل سبأ على الرغم مما آتاهم الله من النعم إلا أنهم يسجدون للشمس من دون الله.
فما كان من سليمان إلا أن يتحرى صدق كلام الهدهد فقال "سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين".
فأرسل سليمان رسالة إليهم ألقاها الهدهد في حجر الملكة بلقيس، يطلب منها ترك عبادة الشمس والخشوع لله تعالى والانصياع لعبادته، كانت بلقيس حينها جالسة على سرير مملكتها المزخرف بأنواع من الجواهر واللآلئ والذهب مما يسلب الألباب ويذهب بالمنطق والأسباب.
فشاورت الملكة بلقيس أهل الرأي والثقة، كما فضلت التعامل مع الموقف بأسلوب حريص وديبلوماسي، على الرغم من العدة والعتاد والقوة التي تملكها، فهي لم تكن تعرف الكثير عن سليمان وقوته العسكرية والاقتصادية.
قررت الملكة بلقيس إرسال هدية إليه، فرد عليهم هديتهم بجيش عظيم متوعدهم بالغزو والسيطرة والوعيد الشديد قائلاً "أتمدون بمال فما آتاني الله خير مما آتكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون"، فعاد رُسل الملكة إليها ناقلين لها مدى قوة سليمان، وأنه ينبغي عليها التوجه له بنفسها طالبة رضاه كي يكف البأس والأذى عنهم.
فانطلقت بلقيس بحرسها وجنودها واتجهت إلى الشام نحوه قائلة "إني قادمة إليك بملوك قوم، حتى أنظر ما أمرك وما تدعوني إليه من دينك"، كما أنها ذهبت إليه لتسأله مسائل عدة تمتحن نبوته وحكمته، ثم حملت معها هدايا كثيرة، ودخلت بيت المقدس "أورشليم" بجمال تحمل اللبان والطيوب والذهب والأحجار الكريمة، فطلب سليمان من جنده إحضار عرش بلقيس قبل أن تصل إليه إمعاناً في إبهارها بقوته وقدرته الفائقة، فكان العرش عنده في لمحة عين، وطلب من جنده أن يغيروا لها في مظهر عرشها قليلاً ففعلوا، ثم أمر ببناء قصرٍ من الزجاج على سطح الماء.
وعند وصول الملكة بلقيس، اصطحبها سليمان ليريها عرشها بعد التغيير، حتى وقفت حائرة ما بين مظهر عرشها، وكيف وصل إلى هذا المكان، وبين إمكانية تقليد عرشها بهذه الدقة المتناهية، لذلك عندما سألها سليمان "أهكذا عرشُكِ، قالت كأنه هو"، ثم دخلت القصر الزجاجي شديد الشفافية لدرجة أنه لا يُرى، فاعتقدت أنها تمشي على الماء ورفعت طرف ثوبها كي لا يبتل فأخبرها سليمان أن الأرض مصنوعة من الزجاج الشفاف والماء أسفل منها، عندئذٍ أعلنت بلقيس إسلامها، وأسلم معها قومها.
وتقول المراجع التاريخية أن سليمان تزوج من بلقيس، وأنها ولدت له ولداً اسمه "رجبعم"، وأنه كان يزورها في سبأ بين الحين والآخر، وأقامت معه سبع سنين وأشهراً قليلة، توفيت فدفنها في تدمر، وتعلل المراجع سبب وفاة بلقيس هو حزنها الشديد على وفاة ابنها رجبعم بن سليمان.
وقد ظهر تابوت بلقيس في عصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وعليه كتابات تشير إلى أنها ماتت لإحدى وعشرين سنة خلت من حكم سليمان، وفتح التابوت فإذا هي غضة لم يتغير جسمها، فرفع الأمر إلى الخليفة فأمر بترك التابوت مكانه وبني عليه الصخر.
مملكة سبأ
هي مملكة قديمة قامت في الألفية الثانية قبل الميلاد فيما يعرف الآن بـ "اليمن والحبشة وأريتيريا" واستمرت حتى قيام الدولة الحميرية. وبدأت المملكة بالازدهار حوالي القرن الثامن قبل الميلاد.
كانت المملكة من أقوى الاتحادات القبلية التي ظهرت في اليمن القديمة، حيث تمكنت المملكة من تكوين نظام سياسي وصف بـ "الفدرالي"، والذي ضمّ عدداً من الممالك وهي "مملكة قتبان ومملكة حضرموت ومملكة معين"، وكافة القبائل التابعة لتلك الممالك.
وأسسوا عدداً من المستعمرات بالقرب من العراق وفلسطين وفق الكتاب المقدّس "العهد القديم" وبعض النصوص الأشورية وهذا يدلُّ على المكانة العالية التي شكلتها هذه المملكة في ذلك الوقت.
خلدتها العديد من القصص
تعدّ قصة الملكة بلقيس مع سليمان من أشهر القصص التي جاءت في القرآن الكريم، كما أن سليمان بن داود بن إيشا عليهما السلام، ووارث أبيه في النبوة، هو أحد أنبياء الله تعالى إلى نبي إسرائيل وأحد ملوكهم البارزين، وقد أعطاه الله ملكاً لم يعطه لأحدٍ من قبله كمعرفته بلغة الطير وسائر الحيوانات وتسخير الريح والجن وقردة الشياطين وإسالة النحاس وتجنيد الجن والإنس والطير.
وجاء ذكر ملكة سبأ في القرآن الكريم في معرض الحديث عن قصتها مع نبي الله سليمان في سورة النمل دون الإتيان على ذكر اسمها وذلك بقوله تعالى "فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجنتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون".
فالقرآن والتوراة هما المصدران الأساسيان لقصة ملكة سبأ، فالتوراة تنعتها بـ "ملكة سبأ" أو "ملكة تيمنا" أي "ملكة الجنوب"، وتذكر أنها زارت النبي سليمان، وقدمت له هدايا ثمينة، والقرآن الكريم لا يذكر اسماً لها.
أما المصادر العربية الأساسية في قصة هذه الملكة فتذكرها بالاسم بلقيس خاصة كتاب "التيجان" لابن هشام وكتاب "الإكليل" للهمذاني و"القصيدة الحميرية" لنشوان الحميري يقول نشوان:
أم أينَ بلقيسُ المعظّمُ عرشُهُا أو صرحُهُا العالي على الأضراحِ
زارت سليمانَ النبيّ بتدمرٍ من ماربٍ ديناً بلا استنكاحِ
وتجاوزت شهرة الملكة بلقيس وذاع صيتها منذ القدم على مسرح أحداثها، وتناقلتها شعوب أخرى بصيغ مختلفة وروايات متعددة، وتناولتها شروحات التوراة وكتب التفسير القرآن، ودخلت في قصص الأنبياء ونصوص القديسين المسيحيين، وعنيت بتفاصيلها كتب الأخبار والتاريخ خاصة اليمنية منها، واستلهمتها روائع الفنانين الأوروبيين في عصر النهضة مثل رافائيل ورويموندي وجبرتي، واتخذ موضوع القصة أساساً لكتاب الحبشة المعروف بـ "كبر أنجست" أي كتاب "مجد الملوك".
بلقيس تراث مشترك وموروث حيّ
يرى بعضهم أن قصة ملكة سبأ من القصص الجميلة التي يطغى نفسه على الأصل، ولم يعثر على اسم الملكة في الكتابات القديمة، ولم تدل عليها اللقى الأثرية المكتشفة، بل يذهب بعضهم إلى أن سبأ لم تكن في اليمن، وإنما في مكان ما إلى الجنوب من فلسطين أو في منطقة شمال غرب جزيرة العرب.
والموروث الحبشي يرى أن بلقيس ملكة حبشية زارت سليمان من أرض الحبشة، وتزوجت به وأنجبت له ولداً، كما أنه ليس لدى علماء الآثار والتاريخ أي دلائل قاطعة على نسبة هذه القصة في أصلها إلى الحبشة أو إلى شمال غرب جزيرة العرب.
ويرى جمهور العلماء أن الآثار الكشفية في اليمن تثبت أرض سبأ وحضارة سبأ في مشرق اليمن، وأن منطقة مأرب شهدت حضارة سبئية راقية في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو القرن الذي عاش فيه النبي سليمان، بل أن أحدث الدلائل الأثرية تشير إلى حياة مدنية تقوم على نظام الري منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
وتفيد المعلومات الأثرية أن أقدم النقوش التي عثر عليها في الحبشة هي سبئية ومكتوبة بخط المسند، مما يرجح القول إن أصحابها كانوا يقتفون آثار حضارة سبأ في اليمن، وأن منشأ حضارة أكسوم الحبشة هو وجود سبئي هناك بسبب الغزو أو التجارة أو الهجرة أو بسببها مجتمعة.
ونقل السبئيون معهم الكثير من عناصر حضارتهم كاللغة والخط والدين والفن وغيرها، كما نقلوا أيضاً ملاحمهم وأخبارهم وقصصهم في الوطن الأم، والتي أصبحت قصة الملكة تراثاً مشتركاً بين الناس في جزيرة العرب وخارجها، ولكنها بقيت حية في موروث أهل اليمن أكثر من غيرهم ورمزاً تاريخياً لحضارتهم القديمة.
وينسبون إلى تلك الملكة واسمها بلقيس عدداً من آثار مأرب الرائعة فيقولون "عرش بلقيس" و"محرم بلقيس"، ويتخذون من اسمها اسماً لبناتهم ومنشآتهم، بل ويزينون به إبداعاتهم الفنية والأدبية.
بالقياس سميت بلقيس
حاول نشوان بن سعيد الحميري تقديم اشتقاقاً للاسم فقال في معجمه "شمس العلوم" بأن بلقيس اسمان جعلا اسماً واحداً مثل حضرموت وبعلبك، وذلك أن بلقيس لما ملكت الملك بعد أبيها الهدهاد قال بعض حمير لبعض: ما سيرة هذه الملكة من سيرة أبيها؟ فقالوا: بلقيس. أي "بالقياس فسميت بلقيس".
ومعنى بلقيس باليونانية تعني جارية، وبالعربية توحي بأن صاحبة الاسم امرأة ضعيفة وتابعة، وهو أمر لا يتفق مع أوصاف تلك الملكة عند الإخباريين، وفي الأصل لفظة بلقيس منحوتة من كلمتين إحداهما الاسم "قيس".
ويذكر ابن الكلبي في "جمهرته" قيساً ضمن شجرة نسبها، فهي "بنت القيس" كقولهم "ابن القيس أو أبو القيس"، فتصبح الكلمتان بعد النحت ودرج الكلام بلقيس.
ذاع صيتها وحبها إلى الناس
ازدهر حكم بلقيس في مملكة سبأ، واستقرت البلاد، وتمتع أهل اليمن بالرخاء والعمران، كما أنها حاربت الأعداء ووطدت أركان مُلكها بالعدل وقادت قومها بالحكمة، مما ذاع صيتها وحبها إلى الناس، ورممت سد مأرب الذي كان قد نال منه الزمن وأهرم بنيانه وأضعف أوصاله، وأسست أول مبدأ للشورى، وبلقيس هي أول ملكة اتخذت من سبأ مقراً لحكمها.
وبلقيس هي صاحبة الصرح الذي ذكره الله في القرآن الكريم في قصة سليمان، وينسب إليها قصر بلقيس الذي بمأرب، وكان لها حرّاس من الرجال الذين يؤازرونها، وبطانة من النساء، وكان عندها ثلاثمئة وستون امرأة من بنات أشراف حمير.
امتازت الملكة بلقيس بحسن التدبير، وفطنة العقل وقوة النفس، ودليل هذا أنها خلصت أهل سبأ من شر ذي الإذعار وفساده وطغيانه، كما أنها عرفت بحسن المشاورة إلى جانب البراعة في المناورة، فهي لم تكن كبقية الملوك متسلطة في أحكامها، متزمتة لآرائها، لا تقبل النقاش أو المجادلة، بل كانت كما أجرى الله على لسانها "قالت أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون"، وذلك على الرغم من أنه كان بمقدورها أن تكتفي برأيها، وهي الملكة العظيمة صاحبة الملك المهيب، فهي ببصيرتها النيرة كانت ترى أبعد من مصلحة الفرد، فهمهما كان فيما يحقق المصلحة الجماعية للرعية.
ذكاء بلقيس وفطنتها
كانت بلقيس فطينة ورزينة، كانت فطنتها نابعة من أساس كونها امرأة، فالمرأة خلقها الله متمتعة بحاسة التبصر في نتائج الأمور وعواقبها، وكان لبلقيس كعادة الملوك عدد من الجواري اللاتي يقمن على خدمتها، فإذا بلغن سن الرشد استدعتهن بشكل انفرادي، وبحثت في أمورهن، فتحدث كل واحدة عن الرجال، فإن رأت أن لونها قد تغير فطنت إلى أن جاريتها راغبة في الزواج، فتزوجها برجلٍ من أشراف قومها وتكرم مثواها، أما إذا لم تضطرب جاريتها ولم تتغير ملامح وجهها، فطنت إلى أنها عازفة عن الرجال، وراغبة في البقاء عندها ولم تكن بلقيس لتقصر معها.
ومن دلائل فطنتها أيضاً أنه لما ألقي عليها كتاب سليمان علمت من ألفاظه أنه ليس ملكاً كسائر الملوك، وأنه لابد وأن يكون رسول كريم وله شأن عظيم، لذلك خالفت وزراءها الرأي عندما أشاروا عليها باللجوء إلى القوة، وارتأت بإرسال هدية له، وكان الهدف والغاية هو ليس فقط لتغري وتلهي سليمان بها وإنما لتعرف أتغير الهدية رأيه وتخدعه، ولتتفقد أحواله وتعرف عن سلطانه وملكه وجنوده.
بارعة في الأحاجي والألغاز
كانت بلقيس بارعة في مسألة الأحاجي والألغاز والأسئلة والمعقدة، وكان سليمان يحب الأحاجي ويكثر من تبادلها مع الملوك وهي علامة على الكفاءة والذكاء، ووردت في المدارش "التعليقات القديمة"، أن الملكة سمعت بخبر سليمان وحكمته فقالت لقومها: "سأذهب لاختباره بأحاجي لأرى إن كان حكيماً أم لا"، فلما وصلت عند سليمان سألته: "أنت سليمان الذي سمعت عن مملكته وحكمته؟".
فأجاب سليمان "نعم".
بلقيس "إن كنت حكيماً فعلاً، فسأسألك أسئلة وأرني إن كان بإمكانك الإجابة عليها، ماهي السبع التي تخرج، والتسع التي تدخل، والاثنان اللذان يقدمان شراباً، والواحد الذي يشرب؟".
فأجابها سليمان "السبع التي تخرج هي أيام الحيض، والتسع التي تدخل هي شهور الحمل، والاثنان اللذان يقدمان شراباً هما الثديان، والواحد الذي يشرب هو الرضيع".
كما حاولت محاكاته بلغز آخر، عندما قالت لسليمان "أباك هو أبي، وجدك هو زوجي، أنت ابني وأنا أختك؟"، ورد عليها سليمان "ابنتنا لوط الذين حبلوا من أباهم لوط حسب العهد القديم"، سألت بلقيس سؤال آخر لسليمان "شيء عندما يعيش لا يتحرك وعندما تقطع رأسه يتحرك؟"، فأجابها "السفينة في البحر"، وسألته سؤال أخر "ما هو الذي لم يولد بعد ولكنه أعطي حياة؟"، فأجابها "عجل الذهب".
وعندما رأت بلقيس سرعة البداهة في حل سليمان ألغازها، قامت بجلب أطفال صغار يرتدون ملابس متماثلة وطلبت من سليمان أن يفرق بين الذكور والإناث، فطلب سليمان من غلامه أن يأتيه بثمر البندق وحبوب ذرة ليلقيها أمام الأطفال.
قام الذكور بجمعها وتعليقها تحت ثيابهم، ولم يهتموا بكشف عورتهم، بينما الإناث علقن الحبوب والثمار على أطراف ملابسهن الخارجية، فعلم سليمان أيهم الذكور وأيهم الإناث، كان هدف سليمان من ردوده هو اقناع بلقيس بدينه، وثباتها عليه.
إشارات عصر النهضة "التنوير"
اعتمد الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو على كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس الذي عاش في القرن الميلادي الأول، فأشار جيوفاني بوكاتشيو لملكة سبأ باسم "نيكولا" ذاكراً أنها كانت ملكة مصر وإثيوبيا في كتابه المعنون من النساء المشهورات "دي مولي ريبوس كلاريس De Mulieribus Claris"، لكن كتابات يوسيفوس وصفت بأنها تعاني من ارتباك مزمن أو ضبابية شديدة، وأنه بطبيعته كان متساهلاً ومهمل ما تعلق الأمر بالأمور التاريخية التي لم يشهدها، واعتمد على فلكلور الإثيوبيين ليشي إلى ملكة سبأ في مصر.
وأشار جيوفاني إلى أنها كانت ملكة مصر وأثيوبيا والجزيرة العربية قاطعة الصحراء العربية لمقابلة سليمان إلا أن كل هؤلاء المؤرخين اعتمدوا على العهد القديم بشكل رئيسي للكتابة عنها.
وأقدم الإشارات للملكة بلقيس موجودة في كتاب "مجد الملوك" الذي يعود للقرن الثاني عشر الميلادي وهو مبني على العهد الجديد.
الأثر الفني والأدبي والموسيقي
لم تكن رسومات العصور الوسطى الأوروبية المتعلقة بملكة سبأ مصورة لشخصيات العهد القديم، وكانت مختلفة لاختلاف الروايات وكثرة ذكر الملكة في عدة ثقافات.
فالإثيوبيون رسموها انعكاسا لملامحهم، والأوروبيون رسموهما بملامح أوروبية كما جرت عادتهم في تصوير الشخصيات من النصوص المقدسة، زاد الاهتمام بهذه الملكة في عصر النهضة "عصر التنوير"، كما مثل الرسّام الإيطالي بييرو ديلا فرانشيسكا عظمة الخشبة المقدسة ولقاء ملكة سبأ وسليمان، وظهرت بلقيس في اللوحات الجدارية التي رسمها الفنان رافاييل وورشته في قصر الفاتيكان، وفنانين آخرين أمثال النحات الإيطالي كلورنزو جبرتي وعمله في "بوابة الفردوس".
وبرزت بلقيس في المقطوعات الموسيقية كما في مقطوعة الفرنسي شارل جونو "La Reine de saba" في عام 1862، ومقطوعة المؤلف الموسيقي الكلاسيكي الإنكليزي جورج فريدريك هاندل "Koning von saba" في عام 1749، الإيطالي أتوريني روسبيغي "بلقيس ـ ملكة سبأ Belkis Regina di Saba" في عام 1930.
وكُتب عنها في الأدب أروع القصائد والكتابات، وبرزت في أعمال المؤلف الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو "المرأة المبجلة"، والمؤرخ عبدلله البردوني "بلقيس ولعيني أم بلقيس"، والكاتبة كريستينا لينين في كتاب "قلعة النساء"، والشاعر الإنجليزي روبرت براونينغ في قصيدته "بلقيس وسليمان"، والكاتب الإنجليزي هنري رايدر هاجرد "كنوز الملك سليمان وخاتم ملكة سبأ"، ونيل جايمن في روايته "آلهة أميركيون وتظهر شخصية بلقيس كسعلوة"، وفي العمل المسرحي تظهر قصة بلقيس في عمل جيرارد دي نيرفال في "ملكة سبأ".