تحت مقصلة الإبادة الجماعية... المرأة الفلسطينية تنقذ ما تبقى من الحياة

تحت نار الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير، تُسحق نساء غزة بين أنياب الحرب، فيما تواصلن بصمتٍ بطولي الحفاظ على ما تبقى من الحياة والكرامة والوجود.

نغم كراجة

غزة ـ في ظل الدمار والحرب المستعرة منذ أكثر من 560 يوم، تتكشف فصول متجددة من معاناة المدنيين العزل في قطاع غزة، حيث تتكثف فصول القهر والقتل والتجويع والتهجير، لتطال المرأة تحديداً باعتبارها العمود الفقري للأسرة والمجتمع.

من وسط المأساة، تحدثت أماني أبو كرش عضوة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، بصوتٍ يصدح بالحقيقة، حاملةً وجع نساء غزة وصمودهن، ومحمّلة العالم مسؤولية الصمت المخزي، حيث أوضحت في مستهل حديثها، أن ما تشهده غزة من استهداف مباشر للنساء ليس ناتجاً عن فوضى الحرب أو الصدفة، بل هو جزء من سياسة مدروسة تهدف إلى تفكيك البنية المجتمعية الفلسطينية من جذورها "المرأة الفلسطينية نواة الأسرة، وذاكرة الثورة، وخزان القيم الذي ينهض بالأجيال، لذلك فإن ضربها واستنزافها بمثابة هدم ممنهج لأساس المجتمع الفلسطيني".

وترى أن "هذا الاستهداف يحمل دلالات سياسية خطيرة تضعنا أمام مشروع واضح يريد كسر شوكة المجتمع الفلسطيني من داخله، عبر ضرب نصفه الأكثر تحملاً وبأساً ألا وهو النساء"، مشيرةً إلى أن "القوات الإسرائيلية تدرك تماماً أن النساء هن من يداوين الجراح، وتقمن بدفن الضحايا، ورعاية من تبقى من الأطفال وكبار السن، لذلك فإن محاولة قطع هذا الحبل السُري الذي يربط الفلسطيني بأرضه وتاريخه هو أخطر ما نعيشه اليوم".

وقالت أماني أبو كرش إن صورة المرأة الفلسطينية مرت بتحول تاريخي عظيم خلال الحرب "في البداية، كانت تحت القصف، تهرع لحماية أطفالها وسط دمار البيوت، ثم تحوّلت إلى رمز للبقاء، تصنع من بقايا الحياة أملاً، بطهوها على النار، والغسيل بيديها، وتحتمي بالخيمة من العراء".

لكن المشهد الأشد إيلاماً هو أن تصبح المرأة الفلسطينية شاهدة على "انهيار العالم من حولها، وهي معلقة بين الحياة والموت، تعيش الفقد في كل ساعة، تبحث عن الأمل في جحيم لا يطاق، منذ أكثر من عام ونصف، ونحن نعيش مشاعر الفقدان في كل دقيقة، ننهض كل صباح لنؤدي واجباتنا وقلوبنا تنزف، لا نملك ترف الحزن، ولا الوقت للبكاء، فقط ندفن ضحايانا ونكمل الطريق".

وأكدت أن النزوح المتكرر والعيش في خيام تفتقر لأدنى مقومات الحياة لا يُمثل فقط مأساة إنسانية بل هو "شكل جديد من العقاب الجماعي الممنهج، تمارسه القوات الإسرائيلية بحق النساء على وجه الخصوص"، لافتةً إلى أن الخصوصية الجسدية والمعنوية للنساء قد تم سحقها بالكامل "هُجرن من بيوتهن، وسُحقت كرامتهن، وأجبرن على الولادة في بيئة ملوثة، يبحثن عن الماء والغذاء والحليب، وينمن في العراء".

وأضافت "ما نشهده ليس تهجيراً فحسب، بل أيضاً تجريد للمرأة من كل أشكال الأمان والخصوصية، في محاولة لإفقادها قدرتها على المقاومة من خلال إذلالها جسدياً ونفسياً، وهذا كله يجري أمام أنظار العالم دون أن يتحرك الضمير العالمي خطوة واحدة".

وعن موقف المؤسسات الدولية، أكدت أنه "عار على جبين كل من يتغنّى بحقوق المرأة"، مشيرةً إلى أن "قضايا الفلسطينيات تم استثناؤها عمداً من أجندات المجتمع الدولي، فنحن لا نريد تزيين الواقع، النساء في غزة تعشن دون ماء أو كهرباء أو غذاء، لا مؤسسات تساندهن، لا قوانين تحميهن، فقط صمت، وكأن ما يُرتكب بحقنا لا يستحق حتى الإدانة".

وأضافت أن النساء اللواتي يَخُضن معاركهن اليومية من أجل البقاء على قيد الحياة رغم كل هذا لا تطالبن بالعطف، بل بالعدالة "لا نحتاج إلى شفقة، نحن نساء استثنائيات بكل المقاييس، نطهو على النار، نغسل الملابس بأيدينا، نُرضع أطفالنا في العراء، نلد في الخيام، ونبقى واقفات رغم كل شيء".

وأكدت أن النساء في غزة تؤدين دوراً محورياً في معادلة النجاة حتى لو لم يُعترف به رسمياً "في الوقت الذي انهارت فيه كل مؤسسات الدعم، تولّت النساء القيادة غير المعلنة، فهن من أنقذن الأطفال، وقدن العائلات، وابتكرن البدائل، وبحثن عن الحليب والطعام والماء رغم القصف".

وترى أن هذا الدور يجب أن يُعاد النظر فيه سياسياً، وأن تكون المرأة الفلسطينية في طليعة من يُعاد إليهم الاعتبار "المرأة التي بقيت، والتي دفنت أسرتها وأقاربها، وتمسّكت ببيتها تحت القصف هي الأحق بأن تكون في مراكز اتخاذ القرار؛ لأن بيدها روح المجتمع، وقد أثبتت في هذه الحرب أنها الأجدر بقيادة مشروع الحياة".

أما عن المستقبل، فتبدو أماني أبو كرش أكثر قلقاً من أي وقت مضى، بقولها "إذا استمرت هذه الوتيرة من الحرب وهذا الصمت الدولي، فلن يبقى منّا أحد، كنا قرابة مليونَي إنسان، يقتل منا يومياً العشرات، نُمحى من الوجود ببطء، وحتى من بقي منا حياً يعيش الموت كل دقيقة"، مضيفةً أن السيناريو القادم ينذر بانهيار شامل لكل منظومات الحياة في القطاع، خصوصاً فيما يتعلق بالنساء "المرأة الفلسطينية اليوم تُقصف وتُصاب وتُعتقل وتُشرّد وتُقتل، كل ذلك بدم بارد أمام صمت دولي لا يُبرر، ولا يُغتفر".

وفي ختام حديثها، وجهت أماني أبو كرش نداءً إلى نساء العالم العربي "نطالبكن بأن تقفن وقفة شرف مع النساء الفلسطينيات، نحن لا نخوض حرباً باختيارنا، نحن نُقتل ونُهجّر مع ذلك صامدات، نحاول حماية ما تبقى من عائلاتنا دون أن نملك أدنى مقومات البقاء، شخصياً فقدت زوجي وأشقائي الثلاثة وأبناءهم، ولا تزال صورة بتر ذراع طفلة من أسرتي أمام عيني لا تغيب، فقدت نصف عائلتي ولم أملك وقتاً للحزن عليهم، فقط أكمل مسيرتي، نحمل جراحنا ونسير بها".