حرية الإعلام في تونس... هل تدفع الصحفيات الثمن الأكبر؟

برغم كل التضييقات، يواصل الصحفيون والصحفيات في تونس نضالهم من أجل حرية الصحافة والتعبير، رافضين الخضوع للمراسيم القمعية التي تهدد مكتسبات الثورة.

تونس ـ بعد أن كانت تونس في صدارة دول المنطقة من حيث حرية الصحافة، حيث تم الاحتفاء بذلك المكسب باعتباره أحد أبرز نتائج ثورة 2011، التي قامت على أساس قيم الحرية والعدالة، استفادت الصحافة التونسية من الانفتاح الإعلامي، ما أتاح أمام الصحفيين فرصاً غير مسبوقة لتناول قضايا كانت محظورة في الماضي، إذ تصدت الصحافة التونسية للعديد من المواضيع الحساسة التي كانت تعتبر من التابوهات، مثل الفساد، والعنف ضد النساء والأطفال، وتجارة المخدرات، بالإضافة إلى قضايا الهجرة غير الشرعية واستغلال الأطفال في النزاعات المسلحة.

ساهم هذا الانفتاح في تعزيز الدور الرقابي للإعلام، حيث لم تقتصر الصحافة على نقل الأخبار فقط، بل بادرت أيضاً بإجراء تحقيقات استقصائية تناولت قضايا اجتماعية مقلقة، مثل ظاهرة العنف الأسري، وقضايا التحيل الاجتماعي، مما فتح مجالاً للمواطنين للتعبير عن قضاياهم عبر هذه المنابر الإعلامية.

لكن مع مرور الوقت، أصبح هذا المكسب مهدداً بسبب القيود القانونية المتزايدة على الصحفيين، خاصة مع اعتماد المرسوم 54 لعام 2022، الذي استخدم في ملاحقة الصحفيين والنشطاء على خلفية محتوياتهم الصحفية والمواقف السياسية التي يعبرون عنها عبر الإنترنت.

وقد ساهمت مجموعة من القوانين والمراسيم في تقليص مساحة العمل الصحفي، أبرزها المرسوم 54 الذي يجرم المحتوى الإعلامي الرقمي ويستخدم لملاحقة الصحفيين والنشطاء بسبب آرائهم ومواقفهم على منصات الإنترنت. ويعد هذا المرسوم تهديداً خطيراً للممارسات الصحفية الحرة، مما يعكس قلقاً متزايداً في الأوساط الإعلامية، حيث وثقت تقارير منظمات حقوقية تعرض صحفيين للتهديد والملاحقة بسبب محتوياتهم الصحفية.

وبذلك، تراجعت تونس إلى المرتبة 118 من بين 180 بلداً في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لعام 2024، وفق تقرير "مراسلون بلا حدود"، بعد أن كانت في المرتبة 121 في عام 2023. هذا التراجع يعكس تهديداً غير مسبوق لحرية الصحافة، التي كانت تعد من أبرز المكاسب التي حققتها الثورة التونسية.

هذا الواقع يثير تساؤلات حول مستقبل الصحافة في تونس، ويجعل من الصعب تجاهل الخطر الذي يواجهه الصحفيون، خاصة النساء اللواتي يتعرضن أيضاً لتحديات إضافية تشمل التمييز الجندري وانعدام الحماية القانونية.

 

الصحفيات بين التهديدات والمضايقات

في ظل هذه التحديات، تواجه الصحفيات التونسيات ضغوطاً إضافية، إذ لا تقتصر معاناتهن على القيود القانونية والاقتصادية، بل تمتد إلى التحرش الرقمي، والتهديدات، والتمييز داخل المؤسسات الإعلامية. وتكشف تقارير النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين أن الصحفيات هن الأكثر عرضة للملاحقات القضائية والتضييقات الوظيفية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمؤسسات الإعلامية الخاصة، مما يدفع العديد منهن إلى فقدان وظائفهن أو العمل في ظروف غير مستقرة.

تقول جيهان اللواتي، عضو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين "الإعلام التونسي يعيش نكسة نتيجة المرسوم 54 المثير للجدل، والذي قيد حرية الصحافة والرأي، وأصبح شبحاً يهدد الأصوات الحرة في تونس".

وبينت "هذا المرسوم غير دستوري، وضرب دستور 2022 وكل المعاهدات الدولية، مثل معاهدة بودابست التي وافقت عليها الحكومة التونسية. ومع ذلك، لا يزال رئيس مجلس نواب الشعب يتجاهل النداءات المتكررة من النواب الذين طالبوا بتنقيحه أو إلغائه، رغم أن الأصل هو إيقاف العمل به".

وأضافت "النقابة حاولت أن تعمل بشكل عملي، مطالبة بأن يتم اعتماد المرسوم 115 كإطار قانوني وحيد ينظم عمل الصحفيين، بدلاً من المرسوم 54، الذي تحول إلى أداة قمعية. ومع ذلك، لا تزال القضايا ترفع ضد أبناء القطاع وفق هذا المرسوم الذي يستهدف الأصوات الحرة، وفق أخر تقرير للنقابة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان".

 

أزمة اقتصادية تعصف بالصحفيات

تعاني الصحفيات، إلى جانب زملائهن، من ظروف اقتصادية صعبة، حيث باتت مؤسسات إعلامية خاصة مهددة بالإفلاس بسبب غياب الإشهار والدعم الحكومي، مما أدى إلى تسريح العديد من الصحفيين أو إجبارهم على العمل برواتب زهيدة أو بدون أجر لأشهر.

وتعلق جيهان اللواتي على هذا الوضع بقولها "المجال الإعلامي في تونس كنا نريده سلطة حقيقية ورابعة، لكن للأسف بات يوشك على الاندثار، لدينا زملاء وزميلات لم يتقاضوا أجورهم منذ أكثر من 10 أشهر، وهناك خريجون وخريجات من معهد الصحافة وعلوم الأخبار وجدوا أنفسهم معطلين عن العمل، في ظل غياب استراتيجية واضحة لهذا القطاع"، مشيرة إلى أن الإعلام العمومي بدوره يواجه ضغوطاً، حيث هناك قوى تريده إعلاما حكومياً خاضعاً للسلطة، في حين أن الصحفيين فيه ما زالوا يناضلون من أجل الاستقلالية.

 

ضرب حق النفاذ إلى المعلومة

يعتبر النفاذ إلى المعلومة حقاً كونياً مكفولاً في الفصل 32 من الدستور التونسي، إلا أن الصحفيين يعانون اليوم من قيود كبيرة في الحصول على المعلومات الرسمية، خاصة مع المنشور 19 الذي يقيد وصول الصحفيين إلى المصادر الحكومية، مما يهدد مبدأ الشفافية والمساءلة.

وأكدت أن هذا المنشور يضاف إلى قائمة القوانين القمعية التي تقوّض العمل الصحفي "الخبز اليومي للصحفي هو المعلومة، لكننا اليوم محرومون منه، المسؤولون يرفضون تقديم المعلومات بأسمائهم، مما يجعل الصحفيين عرضة للملاحقات القانونية"، مشيرة إلى إن ضرب حق النفاذ إلى المعلومة يعني تقييد عمل الصحفيين، وهو ما لم يؤخذ بعين الاعتبار رغم مطالبنا المستمرة.

 

الصحفيات في مواجهة مستقبل غامض

في ظل هذه التحديات، تخشى الصحفيات التونسيات من ضياع أبرز مكتسبات الثورة، ألا وهو حرية التعبير والصحافة والنشر، مؤكدة أن المرسوم 54 أصبح سيفاً مسلطاً على رقاب الصحفيين والناشطين، مما يعزز مناخ الخوف والترهيب.

واختتمت عضو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين جيهان اللواتي حديثها بالقول "هذه نتائج ثورة أردناها مقدمة لتجربة ديمقراطية تعددية وتقدمية، لكننا اليوم نواجه واقعاً مريراً يهدد بإغلاق المساحات الحرة التي كافحنا من أجلها".