بين انهيار صوامع القمح في مرفأ بيروت وبقائها قصص مؤلمة ولا مسؤولية

لا تزال تداعيات انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس من العام 2020 تلقي بثقلها على اللبنانيين، وها هي الصوامع "الإهراءات الشاهدة على ثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم، والتي احتضنت جثث ضحايا المرفأ، تسقط تباعاً.

كارولين بزي

بيروت ـ شهد الجزء الشمالي لإهراءات القمح في العاصمة اللبنانية بيروت انهياراً كاملاً بعد أن سقطت صوامعه على دفعات، وذلك يوم 23 آب/أغسطس الجاري، هذا الانهيار أعاد إلى القاطنين في المنطقة والمتضررين مشاعر الخوف نفسها التي عاشوها سابقاً.

تعيش ميرنا حبوش في منطقة الكرنتينا المحاذية لمرفأ بيروت وإحدى المناطق المنسية من خدمات الدولة والتي تضررت كثيراً بفعل عصف انفجار الرابع من آب/أغسطس، واليوم تتلقى نصيبها من الانبعاثات الصادرة عن انهيار صوامع الإهراءات.

لم يكن الوقت كفيلاً لأن يُنسي ميرنا حبوش مشاعر الخوف، وتقول وهي التي خسرت النظر في عينها اليمنى ولا يزال الزجاج يسكن في يدها لوكالتنا "خرجت من الانفجار بخسارة النظر في عيني اليمنى، أجريت لها سبع عمليات في غضون سنتين، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بيدي من كسور وانقطاع أوتار".

إلى جانب الإصابة التي تعرضت لها ميرنا حبوش والتي كانت تقف أمام العنبر رقم 12 لحظة وقوع الانفجار مع طفلها الصغير، تضرر أيضاً منزلها وهُدمت جدران بيتها وزجاجه تحطم مع الأبواب، بالإضافة إلى المفروشات.

بعدما شهدت على انفجار المرفأ، تحدثت ميرنا حبوش عن تجربتها اليوم مع انهيار إهراءات المرفأ، وكيف عايشت التجربة "كنا نعلم أن الحريق اشتعل بالإهراءات في اليوم الأول من عيد الأضحى. قبل انهيار أول صومعتين هربت من منزلي، لأن شعور الخوف لا يزال يراودني عندما أمرّ بالمرفأ. كما أنني لا أصطحب ابني لأنه كان معي لحظة وقوع الانفجار، أتجنب الطريق قدر المستطاع".

وتضيف "في المرة الأولى التي سقطت فيها الصوامع هربت من المنزل، وفي ليلة 4 آب/أغسطس قررت أن أذهب لألقي نظرة على الإهراءات، لألاحظ أنه الحريق نفسه الذي شهدته في العنبر رقم 12 عند وقوع الانفجار... شعرت بالخوف وفي اليوم الثاني أنهيت ما عليّ فعله في الرابع من آب/أغسطس الحالي وغادرت منزلي قبل انهيار الصوامع الشمالية".

 

 

"حقيقة ضائعة"

تتابع "قدمت في 5 آب إلى بيروت، وبدأنا في المنطقة نشتم رائحة قوية، ولاسيما في الفترة الأخيرة وقبل سقوط الجزء الشمالي بأكمله، الروائح لا تطاق وكأنها رائحة نفايات تحترق. في 23 من الشهر الحالي سقط الجزء الشمالي بأكمله، وكان هناك كثافة غبار، فتجنبنا الخروج من المنزل"، تصمت للحظات وتذهب بتفكيرها إلى لحظة الانفجار ثم عبرت عن خوفها مجدداً "شعرت بالخوف". وتوضح "لأن لنا ذكرى هناك ولم نأخذ حقوقنا ولا عدالتنا... كنا نعيش بحالة خوف".

وأكدت على أنها وعائلتها يلتزمون بالإجراءات الوقائية من الانبعاثات التي سببها اشتعال النيران في الصوامع وانهيارها، وأشارت إلى أنها تواظب على وضع الكمامة عندما تخرج من البيت، وتحاول قدر المستطاع إقفال الشبابيك والأبواب بالرغم من أنهم في فصل الصيف والتيار الكهربائي مقطوع، معتبرة أن وجود الإهراءات يمثل للضحايا "حقيقة ضائعة، أشلاء لضحايا لا يزالون تحت الأنقاض. فلنحصل على العدالة لكي نرتاح".

وحول ما إذا كان انهيار الإهراءات قد يُنسي اللبنانيين كارثة الانفجار تقول "المشكلة بأن الشعب اللبناني مخدّر، يقفون إلى جانبنا ويساندونا ولكن في الوقت الذي نحتاج فيه دعمهم يتركوننا بمفردنا، لذلك بقاء الإهراءات يبقى ذكرى".

 

"السقوط متعمد"

وعبرت عن أسفها وألمها لاعتبار البعض أن ملامح الانفجار أصبحت معلماً سياحياً، وتقول "هناك بعض الأشخاص الذين يقفون أمام الإهراءات أو المرفأ ويلتقطون الصور وهم يضحكون، مررت بتجربة عبّرت فيها عن غضبي من أشخاص كانوا يلتقطون الصور وأخبرتهم بأن عيني فُقدت هنا". موضحةً أنه "لشعور صعب أن تجدي أشخاصاً يلتقطون الصور في مكان غيّر حياتك أو فقدت فيه أحد أفراد عائلتك".

وتعتبر ميرنا حبوش بأن سقوط الإهراءات كان متعمداً، مشيرةً إلى أنه حتى لو تخمر القمح إلا أن النار لن تشتعل من دون أن يشعلها أحد.

كأغلب المناطق اللبنانية، منطقة الكارنتينا منسية ومهملة من قبل السلطات وخدماتها هذا إن وُجدت. وتلفت ميرنا حبوش إلى أن إعادة ترميم المنطقة كان من قبل منظمات المجتمع المدني، مشيرةً إلى أن قلة من الجمعيات قدمت المساعدة والذين أخذوا على عاتقهم قرار إعادة الترميم.

 

"معلم لاستقاء الدروس والعبر"

تعتبر الأكاديمية والباحثة السياسية ومؤسسة المبادرة الوطنية البيئية زينة منصور، أنه "تم التعامل مع إهراءات القمح بطريقة خاطئة مع عملية الحفاظ على هذا الأثر، باعتباره مدافن لمئات الضحايا الذين اختفت جثثهم، ومن حق الأهالي أن يبقى المعلم كمدفن أو مقبرة لجثث ابتلعتها المياه أو ابتلعها البحر. وهو معلم يجب أن يبقى لكي يستقي اللبنانيون منه الدروس والعبر كيلا يتكرر الخطأ".

وتابعت "بالرغم من الأهمية الوطنية والأخلاقية والإنسانية والعاطفية لبقائه جرى التعاطي منذ الرابع من آب/أغسطس 2020 وتدارك تداعيات التفجير من الناحية الهندسية والبنية التحتية للإهراءات والصوامع بطريقة خاطئة".

وأوضحت "أولاً لم يتم الترميم ولا التدعيم ولم تباشر وزارة الأشغال العامة والنقل الإجراءات اللازمة في حينها، إضافة إلى الحريق الذي اندلع من أكثر من شهر لم يتم التعاطي معه بمسؤولية وجدية من النواحي اللوجيستية والمخاطر التي يمكن أن يسببها والذي أدى في النهاية إلى سقوط الجزء الشمالي للإهراءات بأكمله".

وعن سبب سقوط الجزء الشمالي من الإهراءات تقول "قوة عصف الانفجار أدت إلى إحداث تصدعات كبيرة سواءً في الجهة المقابلة لشرق بيروت التي تلقت التأثير الأكبر لقوة عصف الانفجار، وأدى إلى انهيار مباني المنطقة وتصدعها، أو فيما يتعلق بشبكة البنية التحتية التي تحمي هذه الإهراءات التي يبلغ طولها 50 متراً وتم تشييدها منذ نصف قرن، لكنها مشيدة بهندسة سويسرية دقيقة جداً، أنقذت بيروت من الدمار ووقوع آلاف الضحايا من السكان".

وتعتبر أن هناك استخفاف من السلطة اللبنانية بمن بقي على قيد الحياة في هذه المدينة، من الناحية الصحية والبيئية.

 

 

أضرار صحية

وتطرقت إلى المخاطر الصحية والبيئية التي تسبب بها انهيار الصوامع وقالت "عندما انهارت الصوامع الموازية لشرق بيروت، نتج عنها تخمر آلاف أطنان القمح التي تعرضت للعفن وهي مادة فطرية تُدعى Aspergillus، هذه المادة الفطرية تسبب أمراضاً في الجهاز التنفسي والجهاز المناعي وإذا تعرض الإنسان لها لفترة طويلة ومراحل متكررة قد يُصاب في الجهازين التنفسي والمناعي لذلك يجب التعامل بجدية مع الأمر وهذا ما حذرت منه وزارة الصحة العامة، إذاً نحن اليوم أمام خطر فعلي بإزالة هذه الصوامع إذا تعذر إفراغها، قد يكون هناك حاجة لإزالتها".

وتتابع "علماً أن قرار الحفاظ عليها كان يجب أن يتم بطريقة تخفف من الأثر السلبي ومن المخاطر على حياة سكان المدينة، من حيث ارتفاع تلوث الهواء وتلوث التربة، الفطريات التي انبعثت في الهواء نتيجة الاحتراق ونتيجة الانهيار للجزء الشمالي من هذه الصوامع".

 

"قرار بإخفاء معالم الجريمة"

وأكدت زينة منصور أنه لم يتم إعادة ترميم هذه الإهراءات، لأن هناك قرار سياسي مضمر بإخفاء معالم وملامح هذه الجريمة التي دمرت نصف بيروت وأدت إلى مقتل أكثر من 220 شخصاً وأكثر من 7000 ضحية وترافق مع خسائر اقتصادية ما بين 15 و20 مليار دولار، ونزوح نحو 300 ألف شخص من سكان بيروت الذين تركوا منازلهم أو هُدمت بيوتهم".

وتضيف "إذاً نحن أمام جريمة بكل ما للكلمة من معنى ناتجة عن تقصير وإهمال أو قد يكون عدوان خارجي، اجتمعت كل العوامل التي أدت إلى حدوثها وبشكل أساسي الإهمال والتقصير واللامسؤولية الإدارية في التعاطي مع باخرة نترات الأمونيوم ومع العنابر التي خُزنت فيها هذه المواد، هذا الجرم الكبير تم التعامل معه باللامسؤولية، السلطة تريد إخفاء هذه الجريمة كيلا يبقى هذا الأثر عنواناً عن تقصير وفساد والإهمال في التعاطي مع أمن وسلامة وحياة اللبنانيين".

وعن الناحية الجنوبية من الإهراءات، تقول "ذكر وزير الأشغال علي حمية أن هناك تقرير سيصدر عن شركة الاستشارات الهندسية "خطيب وعلمي" التي ستعطي التقرير النهائي حول مدى خطورة بقاء الناحية الجنوبية من الإهراءات على سلامة وأمن الناس والعاملين في مرفأ بيروت".

وأضافت "في نيسان الماضي اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بإزالة هذه الإهراءات وكافة الصوامع وعلى أثر الضغط الشعبي ومطالبة أهالي الضحايا ببقاء هذا المعلم، تراجع رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي وأوعز لوزير الأشغال الحفاظ على هذا المعلم ولكن جواب وزير الأشغال كان بأنه سيقف عند تقرير شركة "خطيب وعلمي"، ويبدو أن هناك نوع من إخراج شكلي إداري مؤسساتي بأنه لا نية للهدم ولإزالة هذا المعلم ولكن النتائج التقنية قد تفضي إلى القول بأن هناك خطر على السلامة العامة في حال بقاء هذا المعلم".

وتعتبر أن العلاج المنطقي والعلمي والفني يجب أن يكون ببناء إهراءات جديدة حتماً، وكل المطالب التي تنصب حول هذا المعلم كشاهد على الجريمة، باعتباره مدفن لضحايا لا أثر لهم. أما من الناحية الاقتصادية والتجارية والأمن الغذائي، تؤكد أن "هناك حاجة لبناء صوامع وإهراءات جديدة تضمن الأمن الغذائي للشعب اللبناني من ناحية القمح والذرة والحبوب، ولكن ليتم المحافظة على الجزء الجنوبي من الإهراءات ليبقى معلماً إذا لم يشكّل خطراً على السلامة العامة... أو لتشييد نصباً يبقى شاهداً على هذه الذكرى الأليمة".