التخلي عن الأطفال الرضع في إدلب... ظاهرة مقلقة وأسباب معقدة

غالباً ما تجد العائلات التي تعاني من الفقر الشديد نفسها غير قادرة على تلبية احتياجات الأطفال الأساسية، وبدلاً من مواجهة الجوع والمرض تقوم بعض العائلات بالتخلي عن الطفل على أمل أن يجده أحد يوفر له حياة أفضل.

هديل العمر

إدلب ـ برزت في شوارع إدلب وريفها، التي أنهكتها الحرب ظاهرة مثيرة للقلق وهي التخلي عن الأطفال الرضع، حيث تنتشر قصص لأطفال يتركون أمام المساجد، أو على أبواب المستشفيات، وحتى في الأماكن العامة، ما يثير تساؤلات حول الأسباب وراء هذه الظاهرة وأبعادها الإنسانية والاجتماعية.

تعتبر الظروف الاقتصادية الصعبة أحد أبرز العوامل التي تدفع العائلات إلى التخلي عن أطفالها في ظل الحرب المستمرة منذ سنوات، حيث انهارت البنية التحتية وانعدمت فرص العمل وقلت مصادر الدخل مما أدى إلى تدهور أوضاع الأسر مادياً.

وللتعمق في فهم هذه الظاهرة المؤلمة، كان من الضروري الاستماع إلى أصوات عدد من النساء اللواتي عشن هذه التجربة أو تعاملن معها عن قرب، وكان منهن النازحة سلام المحمد وهو اسم مستعار لأم تركت طفلها أمام أحد المساجد في مدينة سرمدا شمال إدلب، ترددت قبل أن تتحدث عن الأمر، لكنها قبلت بعد أن انهارت بالبكاء قائلة "لم أجد خياراً آخر".

وأضافت "لم يكن الأمر سهلاً، أنا أم لثلاثة أطفال آخرين، وزوجي اعتقل من قبل أحد حواجز النظام عندما كنت حامل بالطفل الرابع في الشهر الثالث، لا أملك أي دخل، والمعونات التي أحصل عليها لا تكفي حتى لإطعامنا، عندما أنجبت طفلي الأخير، شعرت أنني لن أستطيع توفير الحياة المناسبة له، كانت ليالي طويلة من البكاء والقلق، في النهاية، لم أجد خياراً آخر سوى التخلي عنه، كنت آمل أن يجده أحد أفضل مني ويتمكن من الاعتناء به".

وأضافت بحزن "ما زلت أعيش كابوس التخلي كلما سمعت صوت بكاء طفل، أتذكر طفلي، لكنني لم أستطع تحمل المزيد ولم أستطع مشاهدته يموت جوعاً بين يدي".

كانت هيام السويد إحدى النساء اللواتي تكفلن برعاية طفل ملقى على حافة الطريق، وعن تجربتها تقول إن زوجها وجد الطفل ملقى على حافة الطريق لم يبلغ الشهر من عمره فما كان منه إلا أن أحضره إلى المنزل وتكفل برعايته بعد عجزه عن إيجاد طريق إلى أهله، وهي تعامله كأحد أطفالها الخمسة وتعتبره فرداً من العائلة.

ولا تلوم هيام السويد الأهل وترجع أسباب الظاهرة إلى الأزمة التي تسببت في تفكك الأسر والقتل، والاعتقال، أو النزوح المتكرر ما أدى لغياب الآباء أو الأمهات، وتركوا وراءهم أطفالاً دون رعاية، وبعض النساء وجدن أنفسهن وحيدات وغير قادرات على تحمل عبء الطفل الجديد، في حين أخذت تزداد أعداد الأطفال الأيتام بسبب فقدان أحد أو كلا الوالدين نتيجة للنزاعات العسكرية.

وتطرقت في حديثها للعلاقات خارج إطار الزواج عبر ازدياد حالات الاغتصاب أو العلاقات غير الشرعية نتيجة الفوضى المجتمعية التي خلقتها الأزمة، حيث تجد بعض النساء أنفسهن مجبرات على التخلي عن أطفالهن، بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية التي تجعل النساء تتركن أطفالهن سراً.

من جانبها قالت أمل الرحمون وهي متطوعة في مجال رعاية الأطفال المتخلى عنهم إن "الأعداد تزداد يوماً بعد يوم ونستقبل في بعض الأيام ما يقارب 3 إلى 4 أطفال، أغلبهم يتركون في أماكن عامة مثل المساجد أو المشافي، وتكمن المشكلة في أن القدرة الاستيعابية للمراكز التي ترعاهم محدودة جداً، لذا نعمل على إعادة توجيه الأطفال إلى عائلات بديلة".

وأشارت إلى أن "الفقر هو السبب الأول، وخاصة وأن بعض العائلات تلجأ إلينا مباشرة لتخبرنا أنها لا تستطيع إطعام أطفالها وتطلب منا أن نأخذهم، ولا أنكر وجود مشاكل اجتماعية معقدة، مثل الأمهات العازبات اللواتي يخشين من المجتمع".

وترى أن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب تفهماً أعمق للجوانب النفسية والاجتماعية "بعض النساء تعشن في حالة نفسية معقدة، وهنّ بحاجة ماسة للدعم النفسي، المجتمع قاسٍ، وغالباً ما يلقي اللوم على الأم وهو ما يزيد الضغوط عليها، نحن بحاجة لبرامج توعية تحمي النساء وتقدم لهن بدائل تساعدهن في الحفاظ على أطفالهن".

وأوضحت أمل الرحمون أن "الدعم النفسي ليس فقط للأمهات، بل للعائلات بشكل عام، فالحرب تركت آثاراً عميقة في نفوس الجميع، يجب العمل على إعادة بناء الثقة بين الأفراد وتوفير مساحات آمنة لمناقشة هذه المواضيع دون خوف من العار أو الفضيحة".

وأكدت أن التخلي عن الأطفال الرضع يعكس مأساة أكبر تتعلق بتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، إنها نتيجة طبيعية لسنوات من النزاع المسلح الذي دمر المؤسسات وأفقر السكان.

وطالبت بتضافر الجهود من المجتمع الدولي، والمنظمات الإنسانية، لمعالجة الأسباب الجذرية وتوفير الدعم اللازم للأسر المحتاجة، وخاصة وأن بعض العائلات التي تلقت مساعدات لفترة من الزمن، سرعان ما تجد نفسها بلا دعم، مما يضطرها للتخلي عن أطفالها بعدما عجزت عن تحمل المسؤولية.